(صفحه234)
بحسب حالات المكلّفين، كاختلاف صلاة الحاضر والمسافر والغريقوالمريض.
فهذه الآيات كلّها شواهد بيّنة على أنّ ألفاظ العبادات كانت معلومةالمفهوم عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وأصحابه ومعاصريه من الكفّار، وكلّهم يفهمونمعانيها بلا معونة قرينةٍ.
إن قلت: إنّ ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يدلّ على وجود تلكالألفاظ فيها، بل كانت في بعضها بالسريانيّة كما في لغة عيسى عليهالسلام ، أو بالعبريّةكما في لغة موسى عليهالسلام وقد نقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصّة في شريعتنا،لاقتضاء مقام الإفادة ذلك.
قلنا: إنّ المهمّ تحقّق هذه المعاني بعنوان عبادة مخصوصة في الشرائع السابقةولو كانت باللغة السريانيّة أو العبريّة، فإذا تحقّق أنّ الصوم أو الصلاة كان فيهبعنوان عبادة من العبادات يكفي في الاستدلال؛ على عدم كون هذه المعانيمستحدثة في شريعة الإسلام، مع أنّه مخالف لظاهر الآيات، ولا يكون جوابلمعهوديّة تلك الألفاظ عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ومعاصريه من الأصحابوالمشركين حين نزول الآيات.
ولا يتوهّم أنّ الألفاظ المذكورة موضوعة بإزاء تلك المعاني في ألسنةالأنبياء السالفة؛ لأنّه وإن كان ممكناً في نفسه إلاّ أنّه لا شاهد عليه، لا منالآيات، ولا من الروايات، مع أنّه لو كان كذلك فلا فائدة لنا في بحث الحقيقةالشرعيّة، فإنّ جميع الاستعمالات في لسان النبيّ صلىاللهعليهوآله تحمل على المعاني السابقة.
الجهة الثالثة: في أنّه لابدّ للوضع من موقعيّة تقتضي تحقّقه فيها، ولا معنىله بدونها، فإنّ الواضع بعد ملاحظة أنّه كان معنى الصوم ـ مثلاً ـ مورداً لابتلاء
(صفحه 235)
الناس وأنّ تفهيمه من طريق الإشارة مشكل وضع هذا اللفظ لهذا المعنى؛لغرض السهولة في التفهيم والتفهّم، فإذا جاء رسول من اللّه تعالى بدين جديدومسلك حادث كان موقعيّة وضعه من حين تبعيّة الناس له ورغبتهم إليهوبسط دينه، فهو بعد ملاحظة احتياجه واحتياج اُمّته إلى استعمال الألفاظ فيالمعاني المستحدثة يضع الألفاظ للمعاني على فرض تحقّقه بسبب النبيّ صلىاللهعليهوآله .
وبناء على ذلك كان المقتضي له زمان تقرّره وحياته في المدينة، لازمانحياته في مكّة، حيث إنّ تابعيه في ذلك الزمان كانوا في غاية القلّة، مع أنّا نرىوجود ألفاظ العبادات في الآيات المكّيّة النازلة في ابتداء البعثة، كقوله سبحانهفي سورة المزمّل: «وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ»(1)، وقوله تعالى في سورةالأعلى: «وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِى فَصَلَّى»(2).
ولا شكّ في أنّ المراد من الصلاة هي العبادة المخصوصة، وأنّ دلالتها عليهليست بمعونة قرينة حاليّة أو لفظيّة، فإنّا نرى عدم وجود قرينة لفظيّة في الآية،وأمّا القرينة الحاليّة فليست مناسبة للكتاب الذي كان بعنوان معجزة باقية إلىيوم القيامة، فكيف وضع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله هذه الألفاظ لتلك المعاني مع أنّالموقعيّة لم تقتضيه أصلاً؟!
وأمّا قوله صلىاللهعليهوآله في حديث: «صَلُّوا كما رأيْتُمْوني اُصَلّي»(3) فليس بقرينة، بلهو مؤيّد لعلم الناس بكون الصلاة عبادة مخصوصة وجهلهم بكيفيّتها، وقد مرّأنّ الجهل بالكيفيّة لا ينافي أصل التحقّق، فكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يُرشدهم إلىالكيفيّة بهذه الجملة، كإرشاد العالم الجاهل إلى الكيفيّة في زماننا هذا.
(صفحه236)
فيستفاد من الجهات الثلاثة المذكورة عدم تحقّق النقل والوضع أو الحقيقةالشرعيّة بلسان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله .
هذا، واختلف الاُصوليّون أيضاً في مسألة الحقيقة الشرعيّة من حيث ترتّبالثمرة عليها وعدمه، فقال عدّة من الأعاظم: لا تترتّب عليها ثمرة أصلاً، فليكون في هذا البحث فائدةٌ عمليّة.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1): «وأمّا الثمرة بين القولين فتظهر في لزومحمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع، بلا قرينة على معانيها اللغويّةمع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعيّة على الثبوت فيما إذا علم تأخّرالاستعمال، وفيما إذا جهل التأريخ ـ إمّا بجهل تأريخ كليهما أو أحدهما ففيه إشكال».
ووافقه بعض بناء على الثبوت بأن يحمل على المعنى الشرعي فيما إذا تأخّرالاستعمال عن النقل، ولكن خالفه بعض بناء على عدم الثبوت بأنّ اللفظيصير مُجملاً، فلابدّ من التوقّف فيه، ولا يحمل على المعنى الحقيقي اللغوي، ولعلى المعنى الشرعي الحادث.
إن قلت: لابدّ لنا من متابعة أصالة الحقيقة إذا دار الأمر بين المعنى المجازيوالحقيقي فهي المرجع ههنا لا التوقّف.
قلنا: لا شكّ في صيرورة المعاني الشرعيّة من المجازات المشهورة، بحيث إذاستعمل اللفظ بلا قرينة ليس احتمالها أقلّ من احتمال المعنى الحقيقي؛ لكثرةاستعمال هذه الألفاظ في المعاني الشرعيّة، فصار اللفظ حينئذٍ مُجملاً، والمختارههنا هو التوقّف.
(صفحه 237)
وممّن أنكر أصل ترتّب الثمرة في هذا البحث المحقّق النائيني قدسسره (1) وتبعه فيهتلميذه العلاّمة الخوئي ـ دام ظلّه ـ(2) وقال في مقام الإنكار: إنّه لا ثمرة لهذهالمسألة أصلاً؛ لأنّ ألفاظ الكتاب والسنّة الواصلتين إلينا يداً بيدٍ معلومتان منحيث المراد، فلا يبقى مورد نشكّ فيه في المراد الاستعمالي، ولا يتوقّف في حملهعلى المعاني الشرعيّة، فإنّ ألفاظ الكتاب والسنّة قد وصلت إلينا من النبيّالأكرم صلىاللهعليهوآله بواسطة الأئمّة الأطهار عليهمالسلام .
ثمّ قال: إنّ الحقيقة الشرعيّة وإن فرض أنّها لم تثبت إلاّ أنّه لا شبهة فيثبوت الحقيقة المتشرّعيّة في زمن مّا، كما قال المحقّق الخراساني قدسسره : إنّ منعحصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة، فاستعملت هذهالألفاظ في ألسنة الأئمّة عليهمالسلام ... جميعاً في المعاني المستحدثة بلا قرينة، مثل:استعمالات سائر المتشرّعة، وعليه فليس لنا مورد نشكّ فيه في مراد الشارعالمقدّس من هذه الألفاظ حتّى تظهر الثمرة المزبورة. نعم: لو فرض كلام وصلإلينا من النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله بلا واسطة الأئمّة الأطهار عليهمالسلام فيمكن أن تظهر الثمرةفيه إذا فرض الشكّ في مراده صلىاللهعليهوآله منه، إلاّ أنّه فرض في فرض. فبالنتيجة لا ثمرةللبحث عن هذه المسألة أصلاً، بل هو بحث علمي فقط. انتهى.
ولكن يمكن المناقشة في قوله ـ دام ظلّه ـ فقوله: «إنّ ألفاظ الكتاب والسنّةقد وصلت إلينا من النبيّ الأكرم بواسطة الأئمّة الأطهار» غير صحيح؛ لأنّللكتاب حيثيّتين: حيثيّة اللفظ وحيثيّة المعنى، ولا شكّ ولا شبهة في أنّ المرجعلحيثيّة الثاني هو الأئمّة عليهمالسلام فإنّهم مفسّرو الكتاب، ولو كان تفسيرهم على
- (1) أجود التقريرات 1: 33 ـ 34.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 1: 125 ـ 126.
(صفحه238)
خلاف الظاهر، فإنّ المفسّرين يحتاجون إليهم عليهمالسلام في التفسير.
وأمّا المرجع لحيثيّة الأوّل فهو التواتر فقط، ولا ربط له بالأئمّة عليهمالسلام أصلاً،فطريق إثبات الكتاب أو إثبات جزئيّة الآية المشكوكة ـ مثلاً ـ منحصرٌبالتواتر، كما صرّح به المفسّرون، ولعلّه كان سهواً من القلم؛ لأنّ هذا المعنى ممّاتّفق عليه علماء المسلمين، كما يستفاد من استدلالهم في موارد مختلفة، مثلقول المالكيّة(1): بأنّ «بسم اللّه» الذي ذكر في ابتداء السور ليس من القرآن،فإنّه لم يثبت قرآنيّتها متواتراً.
واُجيبوا بثبوت قرآنيّتها متواتراً، ويشهد لذلك وجودها في جميع المصاحفالمكتوبة في صدر الإسلام، مع أنّهم لم يكتبوا شيئاً سوى القرآن حتّى أساميالسور، فهذا دليل على ثبوتها متواتراً.
وقال السيوطي في كتاب الإتقان: إنّ فخر الدِّين الرازي نقل عن بعضالكُتب القديمة أنّ ابن مسعود اعتقد بأنّ فاتحة الكتاب وكذا المعوّذتين في آخرالقرآن ليس من الكتاب. واستبعده السيوطي: بأنّه كيف يمكن إنكار ما ثبتبالتواتر مع أنّه يُوجب الكُفر؟! ولو قال بعدم اشتراط ثبوت القرآن بالتواترفيوجب التزلزل في قرآنيّة القرآن، فلابدّ من توجيه كلامه أو تكذيب النسبةإليه، فهذا دليل على أنّه لابدّ من إثبات القرآنيّة بالتواتر.
وأمّا الدليل على شرطيّة التواتر فيه فلا يخفى أنّه ليس إلاّ عبارة عن كلاماللّه، فإنّ لنا مطالب اُخر باسم الأحاديث القدسيّة الّتي تنسب إليه تعالى، ومعذلك لا يشترط في إثباتها التواتر، ولا لأنّه معجزة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كما هوالمعلوم، بل لخصوصيّة موجودة في نفس القرآن التي تقتضي انحصار طريق
- (1) البيان في تفسيرالقرآن: 432 ـ 448.