(صفحه 291)
التمسّك به في الصورة الاُولى التمسّك بالعام، أو المطلق في الشبهة المصداقيّة،وهو كما ترى. وهكذا في ما نحن فيه لو تمسّك الصحيحي في صورة الشكّ فيجزئيّة السورة ـ مثلاً ـ بإطلاق «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» لنفي جزئيّتها كان هذا منالتمسّك بالدليل العامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّه قائل بدخالة جميع الأجزاءوأكثر الشرائط في المسمّى، ولا يصدق عنوان الصلاة على فاقد بعضها أصلاً.
واُورد على هذه الثمرة بأنّه لا فرق في جواز التمسّك بالإطلاق بين القولبالصحيح أو الأعمّ، فإنّا نرى أنّ الصحيحي كالأعمّي يتمسّك به فيما إذاحتمل جزئيّة شيء أو شرطيّته زائداً على القدر المتيقّن، ولذا يتمسّكالفقهاء قدسسرهم بإطلاق صحيحة حمّاد(1) ـ التي وردت في مقام بيان الأجزاءوالشرائط، حيث إنّ الإمام عليهالسلام بيّن فيها جميع أجزاء الصلاة وشرائطها ماعدالاستعاذة ـ على عدم وجوبها، بلا فرق في ذلك بين الصحيحي والأعمّي.
وهو مدفوع بما ذكرنا بعنوان الملاك؛ لعدم جواز التمسّك بالإطلاق علىالقول بالصحيح، أعني كونه من التمسّك بالمطلق في الشبهة المصداقيّة الذي لميقل به أحد؛ إذ لا يمكن التمسّك بالإطلاق قبل إحراز عنوان المطلق، فكيفيمكن للصحيحي التمسّك به إذا شكّ في جزئيّة الاستعاذة ـ مثلاً ـ مع أنّ هذالشكّ يرجع إلى الشكّ في صدق اللّفظ؟! وحينئذٍ لو رأينا في مورد تمسّكهم بهفلابدّ من توجيهه بنسيانهم مبناهم هنا، وأمثال ذلك.
وأمّا الاستشهاد عليه بتمسّك الفقهاء ـ رضي اللّه عنهم ـ بإطلاق صحيحةحماد فهو خلط بين الإطلاق المقامي والإطلاق اللفظي، مع أنّ الأوّل متقوّمبسكوت المتكلّم عن البيان حينما يورد الحكم على نفس الأجزاء والشرائط
- (1) الوسائل 5: 459، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1.
(صفحه292)
أو الأفراد، والثاني متقوّم بإحراز صدق المطلق على المورد المشكوك، وكلّ منالإطلاقين أجنبيٌّ عن الآخر، وجواز التمسّك بأحدهما لا يستلزم جواز التمسّكبالآخر.
والإطلاق في الصحيحة من قبيل الأوّل، فإنّ الإمام عليهالسلام كان في مقام بيانالأجزاء والشرائط، فكلّ ما لم نبيّنه يستكشف منه عدم دخله في المأمور به،والتمسّك به مشترك بين القائل بالصحيح والقائل بالأعمّ.
وأمّا الإطلاق اللّفظي الذي هو محلّ البحث فلا يجوز التمسّك به على القولبالصحيح دون الأعمّ.
هذا، واُورد عليها أيضاً بأنّا سلّمنا إمكان التمسّك بالإطلاق للأعمّي دونالصحيحي، ولكن إذا كان الإطلاق جامعاً لشرائط التمسّك به ـ أي تماميّةمقدّمات الحكمة ـ ولا يخفى أنّ أدلّة العبادات جميعاً في الكتاب والسنّة كانتمجملة ولم يرد شيء منها في مقام البيان، فلا يجوز التمسّك بإطلاقها على كلالقولين، فإنّها جميعاً في مقام الجعل والتشريع ولم تنظر لها إلى خصوصيّاتها منالكمّيّة والكيفيّة.
واُجيب عنه بأنّ ألفاظ العبادات وإن لم يرد شيء منها في مقام البيانوجميعها مجملة، إلاّ أنّ إمكان ترتّب هذه الثمرة يكفينا لكون المسألة اُصوليّة،فإنّ الملاك فيها إمكان وقوعها في طريق استنباط حكم فرعي كلّي لا فعليّته.
ولكنّ الظاهر أنّه ليس بتامّ؛ إذ كيف يمكن أن تكون الكبرى الكلّيّة بعنوانالثمرة ولم تكن له الصغرى والمصداق أصلاً؟! فلا فائدة في البحث بطولها معكون ثمرتها بدون المصداق.
والحقّ في الجواب: أوّلاً: بأنّ ألفاظ العبادات لا تنحصر بلفظ الصلاة، بلجميعها حتّى ألفاظ العبادات التي كان وجوبها غيريّاً داخلة في محلّ النزاع،
(صفحه 293)
فيكون التتبّع الكامل ودقّة النظر والإحاطة بجميع ألفاظ العبادات للإنسانالواحد محالاً عاديّاً، فهذا ادّعاء عظيم وغير معقول عند العقلاء.
وثانياً: بأنّ من الآيات الكريمة ما وردت في الكتاب وكانت في مقام البيان،مثل آية الوضوء والتيمّم، نحو قوله تعالى: «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَىالصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»(1)، ونحو قوله تعالى:«فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم»(2)، فإذا شكّ في جزئيّةشيء فيهما فلا مانع من التمسّك بإطلاق هذه الآيات، وهكذا في آية الصومكقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ»(3)، فلوشككنا في اعتبار شي غير ما ذكر في الآيات ـ كالكفّ عن الارتماس في الماءفيها ـ فلا مانع من التمسّك بإطلاقها على عدم اعتباره، كما أنّه لا مانع منالتمسّك بإطلاق «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» في باب المعاملات عند الشكّ في اعتبارشيء فيها.
هذا، مضافاً إلى ما في السنّة والأخبار من الروايات المطلقة الواردة في مقامالبيان.
واُورد على هذه الثمرة أيضاً: أنّ الأعمّي كالصحيحي في عدم إمكانتمسّكهم بالإطلاق عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته، فإنّ النزاع بينالصحيحي والأعمّي إنّما هو في مقام التسمية والوضع، وأمّا الثمرة المذكورة فإنّمهي مربوطة بمقام تعلّق الأمر والتكليف بالمأمور به، فلا إشكال ولا خلاف فيأنّ متعلّق الأمر هو عبارة عن الصلاة الصحيحة عند الصحيحي والأعمّي؛ إذ
(صفحه294)
الشارع لا يأمر بالصلاة الفاسدة، ولا بما هو الجامع بينه وبين الصحيح قطعاً.
والحاصل: أنّ في مرحلة النزاع بينهما لا محلّ للتمسّك بالإطلاق، وفيمرحلة تحقّق الإطلاق لا نزاع بينهما في أنّ المأمور به هي الصلاة الصحيحة،وفي هذه المرحلة لا يجوز التمسّك بالإطلاق على كلا القولين فلا ثمرة في البين.
وجوابه يحتاج إلى الدقّة والتأمّل، فإنّ المأمور به على كلا القولين وإن كانهو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط فلا فرق بينهما من هذه الناحية،إلاّ أنّ الاختلاف بينهما في أنّ صدق اللفظ على الفاقد لجزء المشكوك معلومعند الأعمّي وغير معلوم عند الصحيحي.
توضيح ذلك: أنّ القائل بالصحيح يدّعي أنّ ماهيّة الصلاة ومفهومها، ما فيقوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» عبارة عن معنى لا ينطبق إلاّ على الأفرادالصحيحة والواجدة لجميع الأجزاء والشرائط، فإذا شكّ في جزئيّة شيءـ كالسورة للصلاة ـ فلا يجوز له التمسّك بإطلاق «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»؛ إذ الشكّفي الجزئيّة مساوق للشكّ في صدق عنوان الصلاة، فلا معنى للتمسّك به فيالشكّ في المصداق.
وأمّا القائل بالأعمّ فيدّعي أنّ لفظ «الصلاة» وضع للأعمّ من الصحيحةوالفاسدة، ولكنّ المراد من الصلاة في قوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» هو الصلاةالصحيحة، ولا يخفى أنّه لم يلتزم بمجازيّة استعمال ألفاظ العبادات في تلكالموارد، بأنّ استعمال لفظ الموضوع للعامّ أو المطلق في الخاصّ أو المقيّد مجازُ،كما أنّه لم يلتزم أحد بحذف وصف الصحيحة في الموارد التي ذكر فيها كلمةالصلاة فإنّه ممّا لم يلتزم به العالم فضلاً عن الفاضل، بل الظاهر أنّ المتكلّم إذقال: «اعتق رقبة» ثمّ قال: «لا تعتق الرقبة الكافرة» تحقّقت هنا إرادة استعماليّةوإرادة جدّيّة، ولا شكّ في أنّ الإرادة الاستعماليّة تعلّقت بمطلق الرقبة بعنوان
(صفحه 295)
بيان حكم كلّي، فإن لم يتحقّق دليل المقيّد كانت الإرادة الجدّيّة تابعة للإرادةالاستعماليّة، وإنّ تحقّق فيوجب التضييق في دائرة الإرادة الجدّيّة، ولا يُوجبالتجوّز أو التضييق في المطلق والإرادة الاستعماليّة، كما قال به صاحبالكفاية قدسسره في باب العامّ والخاصّ.
فالصحيحي في مقام تصوير الجامع يقول: إنّ الصلاة وضعت للأركانـ مثلاً ـ فيكون معنى قوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» أقيموا هذه الأركانالخمسة، سواء تحقّقت بقية الأجزاء أم لا، فهو مطلق من هذه الحيثيّة، فإذشكّ في جزئيّة شيء يتمسّك لنفيها بإطلاق «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» إذا لم يكنالمشكوك محتمل الركنيّة؛ إذ الصلاة الفاقدة للسورة ـ مثلاً ـ بلحاظ واجديّتهللأركان يصدق عليها لفظ الصلاة قطعاً. وبالنتيجة يحكم قوله تعالى: «أَقِيمُواْالصَّلَوةَ» بإتيان الأركان بلحاظ الإرادة الاستعماليّة، وأمّا الأدلّة المقيّدة، مثل:«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1)؛ و«لا صلاة إلاّ بطهور»(2) وأمثال ذلك، فتوجبالتقييد والتضييق في الإرادة الجدّيّة فقط، ولا دليل على التمسّك لجزئية السورةبعدم اعتبارها بإطلاق «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»، وهذا معنى كون المأمور به صحيحعند الأعمّي، فيترتّب على البحث الصحيحي والأعمّي ثمرة مهمّة.
أدلّة القولين
إذا عرفت مقدّمات البحث وثمراته فلنبدأ في ذكر أدلّة القولين:
فقد استدلّ المحقّق الخراساني قدسسره (3) للقول بالصحيح بوجوه: منها: التبادر،
- (1) المستدرك 4: 158، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
- (2) الوسائل 1: 365، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
- (3) كفاية الاُصول 1: 43 ـ 45.