(صفحه 305)
بطهور»(1)، واُخرى على وجه الادّعاء والمبالغة، مثل: «لا صلاة لجار المسجدإلاّ في المسجد» كما قال به السكّاكي في باب الاستعارة من المجازات.
والشاهد عليه أنّه لو فرضنا تقدير كلمة مثل: «كاملة» فإنّه لا يدلّ علىالمبالغة، ولا حسن في هذا الكلام، مع أنّ الغرض فيه إلقاء نكتة مهمّة بأنّه لابدّمن شدّة الارتباط بين المسجد وجاره، بحيث لو لم يصلّ في المسجد لما كانتصلاته بصلاة، وإلاّ فلم لا يقال من الابتداء: لا كمال لصلاة جار المسجد إلاّ فيالمسجد، ولم لا يقال في زيد أسد: زيد كثير الشجاعة. هذا تمام الكلام فياستدلاله بهذه الطائفة من الأخبار.
ولكن يرد عليه: سلّمنا أنّ نفي الحقيقة قد يكون على وجه الحقيقة وقديكون على وجه الادّعاء والعناية، وأنّ نفي الحقيقة في جملة: «لا صلاة لجارالمسجد إلاّ في المسجد» يكون على نحو العناية والادّعاء، إلاّ أنّ الكلام في أنّهما الدليل على أن يكون نفي الحقيقة في جملة: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» علىنحو الحقيقة؟ ويمكن أن يقال: إنّه أيضاً يكون على نحو العناية.
نعم، يصحّ الاستدلال بهذه الرواية لو أثبتنا من الخارج مع قطع النظر عنهذه الأخبار أنّ كلمة الصلاة وضعت لماهيّة الصحيحة، ولكنّ المفروض إنّنستدلّ به بنفس هذه العبارة.
ويمكن أن يقال في مقام الدفاع عن صاحب الكفاية: إنّ السكاكي وإن قالفي باب الاستعارة: إنّه لا يكون فيها استعمال في غير ما وضع له أصلاً، سواءاُريد من كلمة «الأسد» الحيوان المفترس أم اُريد به الرجل الشجاع، وأمّا إناستعملت عنده جملة: «رأيت أسداً» بغير القرينة، فلا شكّ في أنّه يحملها على
- (1) الوسائل 1: 245، الباب 1 من نواقض الوضوء، الحديث 1.
(صفحه306)
المعنى الحقيقي بحكم أصالة الحقيقة.
وبعبارة اُخرى: أنّ الاستعارة وإن لم تكن استعمالاً في غير ما وضع له إلأنّه لابدّ لها من القرينة، وإلاّ تحمل على الفرد الحقيقي، وهكذا في ما نحن فيهبأنّ النفي في جملة: «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد» يحمل على نفيالحقيقة الادّعائيّة بمقتضى القرينة، وأمّا في جملة: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»فلا قرينة حتّى يحمل عليه، ولذا يحمل النفي فيها على نفي الحقيقة حقيقة بحكمأصالة الحقيقة.
ولا يخفى أنّ هذا الكلام ليس بتامّ؛ لأنّ جريان هذا الأصل مختصّ بمواردالشكّ في مراد المتكلّم، كما في مثل: «رأيت أسداً»، وأمّا في مثل: «لا صلاة إلبفاتحة الكتاب» فلا شكّ في مراد المتكلّم، وأنّ فاتحة الكتاب دخيلة في الصحّةكما هو أساس الاستدلال على ما مرّ، إنّما الشكّ في دخالة فاتحة الكتابوأمثالها في المسمّى وعدمها، وهذا ليس محلّ التمسّك بأصالة الحقيقة.
وأمّا الدليل الرابع للصحيحي ـ على ما ذكره في الكفاية ـ فهو: إنّا نقطع بأنّطريقة المخترعين من العقلاء إذا اخترع أحدهم مركّباً ذا أجزاء وشرائطـ كالسيارة ـ فإنّهم يضعون اللفظ للمركّب الصحيح التامّ الأجزاء والشرائط؛لأنّ حكمة الوضع ـ أي التفهيم والتفهّم بسهولة ـ مترتّبة على التامّ الأجزاءوالشرائط؛ لأنّه منشأ الآثار ومحطّ الأغراض ومورد احتياج الناس فيمحاوراتهم.
ولا يتوهّم أنّ الاحتياج لا يختصّ باستعمال الألفاظ في المركّب الصحيححتّى يدّعي وضعها له، بل الحاجة إلى استعمالها في الفاسد أيضاً موجودة،فالداعي إلى وضعها للأعمّ متحقّق.
(صفحه 307)
فإنّا نقول: إنّ الحاجة المذكورة لم تكن بحدّ تقتضي كون الاستعمال فيالناقص على وجه الحقيقة ليثبت بها الوضع للأعمّ؛ لإمكان أن يكون استعمالهفي الناقص بالعناية والمجاز وتنزيل الفاقد منزلة الواجد، وإذا كان الأمر فيالمركّبات المخترعة كذلك فمعلوم أنّ الشارع لم يتخطّ هذه الطريقة، بل سلكمسلكهم ووضع الألفاظ لخصوص الصحيح.
وفيه: أوّلاً: أنّ صريح الوجدان يحكم بعدم كون إطلاق كلمة «السيارة» علىفاقد جزء من الأجزاء على وجه العناية والمجاز، بل يطلق على الواجدوالناقص بنحو الحقيقة، كما نشاهده في محاورات الناس.
وثانياً: أنّ الحاجة للاستعمال في الفاقد والفاسد أوفر وأكثر من الحاجةللاستعمال في الصحيح؛ لأنّ للفاسد أبعاداً مختلفة بتعداد الأجزاء والشرائط،ويؤيّده كثرة السؤال والجواب عن العبادات الفاسدة في الاستفتاءات ونحوها،وأمّا للصحيح فبعد واحد، ولا احتياج فيه إلى السؤال كما هو معلوم، فلعلّالأعمّي يتمسّك به واستفاد منه لإثبات قوله، وأنّ هذا دليل لوضع الألفاظللأعمّ؛ بأنّ حكمة الوضع عبارة عن حاجة الاستعمال، وهي تقتضي وضعهللأعمّ.
مع أنّ أساس القول بالصحيح مبتنٍ على تخطّ الشارع عن طريقة العقلاء فيمقام الوضع والتسمية، فإنّ العقلاء حين الوضع يلاحظون جميع الأجزاءوالشرائط، ويضعون اللفظ لجميعها.
وأمّا الصحيحي فيدّعي أنّ الشارع وضع اللفظ للأجزاء وشرائط القسمالأوّل، وأمّا شرائط القسم الثاني والثالث فلا دخل لهما في المسمّى والموضوعله، وهذا يستلزم أن يكون استعمال لفظ الصلاة في الصلاة الفاقدة لقصد القربة
(صفحه308)
على وجه الحقيقة، واستعماله في الصلاة الفاقدة لفاتحة الكتاب على وجه العنايةوالمجاز، وهو كماترى. هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بالصحيح وجوابها.
الكلام في أدلّة القول بالأعمّ
اعلم أنّ الأعمّي استدلّ بوجوه، وأوّل ما يصلح أن يكون دليلاً له مذكرناه آنفاً في ذيل الجواب عن الصحيحي من أنّه لو قلنا بأنّ المسمّىوالموضوع له عبارة عن المركّب الواجد لجميع الأجزاء والشرائط بلا فرق بينشرائط القسم الأوّل والثاني والثالث بحيث إن تحقّق المسمّى في الخارج بلزيادة ونقيصة من حيث الأجزاء والشرائط الدخلية فيه يتّصف بعنوان الصحّةفله وجه.في أدلّة القول بالأعمّ
وأمّا لو قلنا: بأنّ المسمّى عبارة عن المركّب الواجد لجميع الأجزاءوشرائط القسم الأوّل فقط، فلو تحقّق جميع ما له دخل في المسمّى بلا زيادةونقيصة فهل يتّصف بالصحّة أم يتّصف بالفساد؟ ومعلوم أنّ من شرائط صحّةالصّلاة إتيانها مع قصد القربة عند الكلّ، وعدم ابتلائها بالمزاحم الأقوىكالإزالة ـ على قول ـ مع أنّهما من شرائط القسم الثاني والثالث. وهذا عين ميدّعيه الأعمّي من أنّ لفظ الصلاة ـ مثلاً ـ وضع للأعمّ من الصحيح والفاسد،ولكن بشرط أن تكون الأركان موجودة فيها، فإنّ الصحيحي قائل بالتفكيكبين الأجزاء وبعض الشرائط؛ بأنّ الصلاة إذا كان فسادها لأجل فقدان فاتحةالكتاب فهي ليست بصلاة، وأمّا إذا كان فسادها لأجل فقدان قصد القربةفهي صلاة، وهذا لا يوجب الفرق في أصل الوضع للأعمّ، مع أنّ صريحالوجدان يمنع عن هذا الكلام؛ إذ لا شكّ في صحّة الصلاة في صورة نسيانفاتحة الكتاب، فضلاً عن صدق لفظ الصلاة عليها، بخلاف قصد القربة فإنّها
(صفحه 309)
روح العبادة، والصلاة بدونه باطلة قطعاً.
ومن الوجوه التي ذكروها للقول بالأعمّ حديث «لا تعاد» الذي يشتملعلى المستثنى والمستثنى منه، وهو قوله عليهالسلام : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس:الطهور والوقت والقبلة والرّكوع والسّجود»(1).
وأمّا الاستدلال به فيتوقّف على ذكر مقدّمة، وهي: أنّه لا يصحّ إضافة كلمة«الإعادة» إلى الصلاة الصحيحة وإسنادها إليها؛ إذ لا معنى لإعادتها بعدمطابقة المأتي به مع المأمور به، وهكذا لا يصحّ إضافتها إلى الصلاة الفاسدةأيضاً؛ إذ لا تكون الإعادة فيها إلاّ بتكرار تلك الفاسدة، ولا أثر في تكرارالصلاة الفاسدة أصلاً، ولا تصير الصلاة صحيحة بإعادة الصلاة الفاسدة، فلمحالة استعملت كلمة «الصلاة» ههنا في المعنى الأعمّ من الصحيحة والفاسدةحتّى تضاف إليها الإعادة وعدمها معاً، فيستفاد منه أنّ كلمة «الصلاة»استعملت ههنا في المعنى الأعمّ.
إن قلت: سلّمنا أنّ كلمة «الصلاة» قد تستعمل في المعنى الأعمّ، وأمّاستعمالها فيه فلا يكون بنحو الحقيقة، بل يكون بنحو المجاز، وإنّما الشكّ فيكيفيّة الاستعمال لا في مراد المتكلّم حتّى يتمسّك بأصالة الحقيقة.
قلنا: إنّ هذا المعنى ممّا لا إشكال فيه، ومعلوم أنّ الاستعمالات المجازيّةتكون من محسّنات الاستعمال، إلاّ أنّ لها محلاًّ خاصّاً ومورداً مخصوصاً، ولحسن فيها في جميع الموارد، بل توجب الفساد والقبح في بعض الموارد، مثلاستعمالها من قبل القاضي في مقام القضاء، وجريان أنواع العقود بها سيّما عقدالنكاح. وهكذا في ما نحن فيه، فإنّ هذا الحديث كان قابلاً للاستناد في موارد
- (1) الوسائل 4: 683، الباب 1 من أبوب أفعال الصلاة، الحديث 14.