(صفحه512)
إقامة الأدلّة لكونها حقيقة في الوجوب قال: يستفاد من تضاعيف أحاديثنالمرويّة عن الأئمّة عليهمالسلام أنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم؛بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقةعند انتفاء المرجّح الخارجي، فيشكل التعلّق والتمسّك في إثبات وجوب الأمربمجرّد ورود الأمر به منهم عليهمالسلام .
والحاصل: أنّ المجاز الراجح والمشهور يوجب التقدّم على المعنى الحقيقي،ولا أقلّ من التوقّف وعدم الحمل على خصوص أحدهما، فهذا الادّعاءمعارضٌ لادّعاء الانصراف إلى الوجوب.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1) في مقام جواب صاحب المعالم: إنّ كثرةالاستعمال في الندب في الكتاب والسنّة وغيرهما لا توجب نقله إليه أو حملهعليه؛ لكثرة استعماله في الوجوب أيضاً، مع أنّ الاستعمال وإن كثر فيه إلاّ أنّهكان مع القرينة المصحوبة، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا يوجبصيرورته مشهوراً فيه ليرجّح أو يتوقّف، على الخلاف في المجاز المشهور. فلذدعوى الانصراف إلى الندب بعنوان المجاز المشهور غير صحيح.
والتحقيق: أنّ هذا يكفي في مقام جواب صاحب المعالم قدسسره ، ولكن لا يثبتبه ادّعاء الانصراف إلى الوجوب كما لا يخفى. فلا دليل لهذا الادّعاء.
وأمّا الاستفادة من مقدّمات الحكمة كما مرّ تفصيله في مادّة الأمر عن المحقّقالعراقي قدسسره (2) بأنّ المولى إذا كان في مقام البيان لا في مقام الإجمال أو الإهمال ولمينصب قرينة على الندب ولم يكن قدر متيقّنٍ في مقام التخاطب فلابدّ من حمل
- (1) كفاية الاُصول 1: 104.
- (2) نهاية الأفكار 1: 160 ـ 163.
(صفحه 513)
الهيئة على الوجوب، فإنّ الوجوب عبارة عن الطلب فقط، ولا يحتاج إلى قيدومؤونة زائدة، بخلاف الندب فإنّه عبارة عن الطلب أو البعث والتحريك معقيد زائد وهو الإذن في الترك، فيستفاد من مقدّمات الحكمة الإطلاق، ونتيجتهالحمل على الوجوب، كما أنّ نتيجة الإطلاق وجريان مقدّمات الحكمة في مثل«اعتق رقبة» هو الحمل على مطلق الرقبة، وعدم دخالة قيد الإيمان فيها.
وجوابه: أوّلاً: ما ذكرناه في بحث مادّة الأمر، وهو أنّه لا يعقل أن يكونالقسم عين المقسم، فإذا كان الطلب أو البعث والتحريك مقسماً للوجوبوالندب، فلا يعقل أن يكون أحد القسمين ـ أي الوجوب مثل البعثوالتحريك ـ مقسماً، بلا قيد زائد، بل لابدّ في كلّ قسم من خصوصيّة زائدة علىالمقسم.
وثانياً: أنّ نتيجة الإطلاق ـ في مثل اعتق رقبة ـ وهو الحمل على الموضوعله وماهيّة الرقبة بعد القطع بأنّ الموضوع له هو مطلق الرقبة بدون دخالة قيدالإيمان فيه أصلاً، وأمّا جريان مقدّمات الحكمة في هيئة «افعل» فمتفرّعٌ علىعدم قبول التبادر والانصراف، وإلاّ لا مجال للتمسّك بالإطلاق، فإنّ التبادروالانصراف قرينتان للتقييد بالوجوب، وهكذا متفرّع على إحراز الموضوع لهقبل التمسّك بالإطلاق، وإلاّ لا مجال للتمسّك به، فلابدّ من القول بأنّ الموضوعله هو مطلق البعث والتحريك، وأنّ هيئة «افعل» وضعت لمطلق البعثوالتحريك، فنتيجة الإطلاق وجريان مقدّمات الحكمة هو الحمل على مطلقالبعث والتحريك ـ أي القدر المشترك ـ لا الحمل على الوجوب.
ومعلوم أنّه لا إجمال هنا، كما أنّه لا إجمال فيما إذا قلنا بالمشترك المعنوي،ووضع اللفظ للقدر المشترك بين المعنيين، فهذا الاستدلال أيضاً ليس بتام.
(صفحه514)
وأمّا الاستفادة من نفس الاستعمال؛ بأنّ له كاشفيّة عقلائيّة وأماريّة عرفيّةلكونه ناشئاً عن الإرادة الحتمّية، فلا محالة يكون مفادها البعث والتحريكالوجوبي.
وفيه: أوّلاً: أنّ هذا ادّعاءٌ بلا دليل.
وثانياً: أنّ الكاشفيّة العقلائيّة والأماريّة العرفيّة متفرّعة على ثبوت وضعهللبعث والتحريك الوجوبي بأدلّة اُخر كالتبادر والانصراف؛ إذ لا معنى لهبدون منشأ وضعي أو انصرافي، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى هذا الوجه، بليثبت المدّعى قبل التمسّك به، فهذا يرجع إلى التبادر والانصراف، وأمّا معإنكار أدلّة اُخر ـ كما هو المفروض ـ لايكون منشأ للكشف المذكور، فإنّ مفادالهيئة ـ أي مطلق البعث والتحريك ـ يناسب الإرادة الحتميّة وغيرها، فلدلالة لصدور هيئة «افعل» على أنّ مفادها هو البعث والتحريك الوجوبي.
نعم تحقّق هنا دلالة عقليّة اُخرى، وهي أنّ صدور كلّ فعل اختياري عنالإنسان يدلّ بدلالة عقليّة على كونه مسبوقاً بالإرادة.
قلت: نعم هو مسبوق بنفس الإرادة، لا الإرادة الحتميّة، ومعلوم أنّ بينالإرادتين فرقٌ من حيث المراد، فإنّ هذه الإرادة متعلّقة بنفس هذا الفعلالاختياري وهو صدور الكلام منه، وأمّا الإرادة الحتميّة فمتعلّقة بتحقّقالمأمور به في الخارج من المأمور، فالكاشفيّة متحقّقة بالنسبة إلى إرادة صدورهيئة «افعل»، وهي متغايرة مع الإرادة الحتميّة المتعلّقة بتحقّق المأمور به منالعبد، فهذا الطريق أيضاً ليس بتامّ.
وأمّا الوجه الأخير الذي اختاره اُستاذنا السيّد الإمام والاُستاذ الأعظمالمرحوم البروجردي فتوضيحه: أنّ العقل يحكم بلزوم إطاعة الأوامر
(صفحه 515)
الصادرة من المولى، وأنّ صدور هيئة «افعل» من قبل المولى حجّة على العبدالتي لا يقبل معها عذره من احتمال كونها صادرة عن الإرادة الغير الحتميّة أوناشئاً عن المصلحة الغير الملزمة؛ إذ العقل يحكم بأنّ بعث المولى لا يترك بغيرجواب، فتمام الموضوع لحكم العقل والعقلاء بوجوب الطاعة والامتثال هونفس البعث مالم يرد فيه الترخيص.
وقال المرحوم البروجردي قدسسره (1): بل يمكن أن يقال: إنّ الطلب البعثي مطلقمنشأ لانتزاع الوجوب، ويكون تمام الموضوع لحكم العقلاء باستحقاق العقوبةعلى تركها، وأنّه معنى لا يلائمه الإذن في الترك بل يُنافيه؛ لوضوح عدم إمكاناجتماع البعث والتحريك نحو العمل مع الإذن في الترك المساوق لعدم البعث.
وحينئذٍ يجب أن يقال: إن الصيغ المستعملة في الاستحباب لا تكونمستعملة في الطلب البعثي إلاّ بداعي الإرشاد إلى وجود المصلحة الراجحة فيالفعل، وببالي أنّ صاحب القوانين(2) أيضاً اختار هذا المعنى فقال: إنّ الأوامرالندبيّة كلّها للإرشاد. وهو كلام جيّد.
وفيه: أوّلاً: أنّ هذا الوجه متفرّعٌ على إنكار الوجوه السابقة، وحاصله: أنّالوجوب اُخذ في ماهيّة البعث، ولذا لا يلائم الإذن في الترك حتّى من قبلالمولى. والإشكال أنّه لا شكّ في أنّ مفاد هيئة «افعل» هو البعث والتحريكالاعتباري، فإذا كان البعث مستلزماً للوجوب، فالمتبادر من الهيئة هو البعثوالتحريك الوجوبي ولا تصل النوبة إلى هذا الوجه، فإنّ البعث لا يكون إلوجوبيّاً على هذا المبنى.
- (1) نهاية الاُصول 1: 103 ـ 104.
- (2) قوانين الاُصول 1: 84 .
(صفحه516)
وثانياً: أنّ الإمام قدسسره صرّح بجواز الترخيص في الترك من قبل المولى، فهيئة«افعل» عنده تجتمع مع الإذن في الترك، وكذا تجتمع مع التهديد على التركوالمنع منه، فإذا كانت الهيئة معرّاة من كلا القيدين فما الدليل والملاك علىالحمل على القسم الثاني؟ وأنّ المراد منها هو البعث والتحريك الوجوبي حتّىيحتاج إلى الجواب بالامتثال والإطاعة، فلا يمكن المساعدة على هذا الوجهأيضاً، فلا يبقى دليل سوى التبادر للدلالة على الوجوب.