(صفحه 551)
وثالثا: على فرض تسليم إتيان الصلاة بداعي الأمر المتعلّق بها لا ضرورةلإتيان الدواعي غير الإلهيّة بداعي الأمر، فإن لم يمكن إتيان داعي الأمربداعويّة نفسه ففي ناحية عدم الدواعي النفسانيّة على فرض الإمكان لضرورة تقتضي إتيانه بداعي الأمر، فهذا الجواب أيضا ليس بتامّ.
وآخر ما تعرّضنا له من الأجوبة على كلام صاحب الكفاية قدسسره ما قال بهصاحب المحاضرات(1) وهو مبتنٍ على مقدّمتين:
الاُولى: أنّ تصوير الواجب التعبّدي على أنحاء: الأوّل: أن يكون تعبّديّبكافّة أجزائه وشرائطه. الثاني: أن يكون تعبّديّا بأجزائه مع بعض شرائطه.الثالث: أن يكون تعبّديّا ببعض أجزائه دون بعضها الآخر.
أمّا النحو الأوّل فالظاهر أنّه لا مصداق له خارجاً، ولا يتعدّى عن مرحلةالتصوّر إلى الواقع الموضوعي.
وأمّا النحو الثاني فهو واقع كثيرا في الخارج، حيث إنّ أغلب العباداتالواقعة في الشريعة المقدّسة الإسلاميّة من هذا النحو، منها الصلاة ـ مثلاً ـ فإنّأجزاءها بأجمعها أجزاء عباديّة، وأمّا شرائطها فجملة كثيرة منها غير عباديّة،وذلك كطهارة البدن والثياب واستقبال القبلة وما شاكل ذلك فإنّها رغم كونهشرائط للصلاة تكون توصّليّة وتسقط عن المكلّف بدون قصد التقرّب.
نعم، الطهارات الثلاث خاصّة تعبّديّة، فلا تصحّ بدونه، وأضف إلى ذلك أنّتقييد الصلاة بتلك القيود أيضا لا يكون عباديّا، فلو صلّى المكلّف غافلاً عنطهارة ثوبه أو بدنه ثمّ انكشف كونه طاهرا صحّت صلاته، مع أنّ المكلّف غيرقاصد للتقييد، فضلاً عن قصد التقرّب به، فلو كان أمراً عباديّا لوقع فاسدا؛
- (1) محاضرات في الفقه 2: 162 ـ 168.
(صفحه552)
لانتفاء القربة به، بل الأمر في التقيّد بالطهارات الثلاث أيضاً كذلك، ومن هنلو صلّى غافلاً عن الطهارة الحدثيّة، ثمّ بان أنّه كان واجدا لها صحّت صلاته،مع أنّه غير قاصد لتقيّدها بها، فضلاً عن إتيانه بقصد القربة، وهذا ظاهر.
وأمّا النحو الثالث ـ وهو ما يكون بعض أجزائه تعبّديّاً وبعضها الآخرتوصّليّا ـ فهو أمر ممكن في نفسه ولا مانع منه، إلاّ أنّا لم نجد لذلك مصداقا فيالواجبات التعبّديّة الأوّلية، كالصلاة والصوم وما شاكلها حيث إنّها واجباتتعبّديّة بكافّة أجزائها، ولكن يمكن فرض وجوده في الواجبات العرضيّة،وذلك كما إذا افترضنا أنّ واحدا ـ مثلاً ـ نذر بصيغة شرعيّة الصلاة مع إعطاءدرهم لفقير على نحو العموم المجموعي، بحيث يكون المجموع بما هو مجموعواجبا، وكان كلّ منهما جزء الواجب، فعندئذ بطبيعة الحال يكون مثل هذالواجب مركّبا من جزءين أحدهما: تعبّدي وهو الصلاة، وثانيهما: توصّليوهو إعطاء الدرهم، وكذلك يمكن وجوب مثل هذا المركّب بعهد أو يمين أوشرط في ضمن عقد أو نحو ذلك.
المقدّمة الثانية: أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب من عدّة اُمور ينحلّ بحسبالتحليل إلى الأمر بأجزائه وينبسط على المجموع، فيكون كلّ جزء منه متعلّقلأمر ضمني ومأمورا به بذلك الأمر الضمني، فينحلّ الأمر الاستقلالي إلى عدّةأوامر ضمنيّة حسب تعدّد الأجزاء.
ولكنّ هذا الأمر الضمني الثابت للأجزاء لم يثبت لها على نحو الإطلاق،مثلاً: الأمر الضمني المتعلّق بالقراءة لم يتعلّق بها على نحو الإطلاق، بل تعلّقبحصّة خاصّة منها، وهي ما كانت مسبوقة بالتكبيرة وملحوقة بالركوع،وكذلك الحال في الركوع والسجود ونحوهما، ولذا لا يتمكّن المكلّف من
(صفحه 553)
الإتيان بالركوع ـ مثلاً ـ بقصد أمرها بدون قصد الإتيان بالأجزاء الباقية. هذإذا كان الواجب مركّبا من جزءين أو أزيد وكان كلّ جزء أجنبيّا عن غيرهوجودا وفي عرض الآخر.
وأمّا إذا كان الواجب مركّبا من الفعل الخارجي وقصد أمره الضمني فالأمرالمتعلّق بالمركّب ينحلّ إلى الأمر بكلّ جزء جزء منه، وعليه فكلّ من الجزءالخارجي والجزء الذهني متعلّق للأمر الضمني، غايته أنّ الأمر الضمني المتعلّقبالجزء الخارجي تعبّدي فيحتاج سقوطه إلى قصد امتثاله، والأمر الضمنيالمتعلّق بالجزء الذهني توصّلي، فلا يحتاج سقوطه إلى قصد امتثاله، وقد سبقأنّه لا محذور في أن يكون الواجب مركّبا من جزء تعبّدي وجزء توصّلي.
إذا عرفت هاتين المقدّمتين فنقول: إنّه لا مانع من أن يكون مثل الصلاة ومشاكلها مركّبة من هذه الأجزاء الخارجيّة مع قصد أمرها الضمني أو مقيّدبقصد أمرها الضمني، وعليه فبطبيعة الحال أنّ الأمر المتعلّق بها ينحلّ إلىالأمر بتلك الأجزاء وبقصد أمرها كذلك، فيكون كلّ منها متعلّقاً لأمر ضمني،وعندئذٍ إذا أتى المكلّف بها بقصد أمرها الضمني فقد تحقّق الواجب وسقط،وقد عرفت أنّ الأمر الضمني المتعلّق بقصد الأمر توصّلي، فلا يتوقّف سقوطهعلى الإتيان به بقصد امتثال أمره. هذا تمام كلامه بتصرّف.
ولا يخفى أنّ هذا الجواب مبتنٍ على أمرين، فإن كان كلاهما أو أحدهممخدوشا فلا يكون الجواب في محلّه:
أحدهما: عبارة عن الانحلال المذكور، وسيأتي تفصيل الكلام في مبحثمقدّمة الواجب بأنّ أجزاء المركّب هل تكون من مقدّماته أو عينه؟ وأنّ الأمرالمتعلّق بالمركّب ينحلّ إلى الأوامر المتعدّد حسب تعدّد الأجزاء؟ أو أنّ الأمر
(صفحه554)
يلاحظ في عالم الاعتبار المركّب من الأجزاء المختلفة الحقائق شيئا واحدا ثمّيجعله متعلّقا للأمر؟ وما نقول ههنا: إنّ هذا الأمر ليس من الاُمور المسلّمة، بليكون قابلاً للبحث والمناقشة.
وثانيهما: عبارة عن كون قصد القربة بمعنى داعي الأمر كما قال به صاحبالكفاية قدسسره وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ هذا أمر غير معقول؛ إذ لو كان الأمر داعيإلى المتعلّق فلا ينفكّ عن الامتثال، بل الداعي عبارة عن إحدى الدواعيالإلهيّة المذكورة والأمر محقّق الموضوع فقط.
على أنّ هذا الجواب ليس من ابتكاراته، بل استفاده من ذيل كلام صاحبالكفاية، وما نبحثه الآن ويرتبط بعنوان المسألة، هو أنّه هل يمكن للشارعأخذ قصد القربة في المتعلّق بعنوان الجزئيّة أو الشرطيّة أم لا؟
قال صاحب الكفاية قدسسره (1): إنّه «لا يمكن أخذ قصد القربة بمعنى داعي الأمرفي المتعلّق والمأمور به، لا بعنوان الجزئيّة ولا بعنوان الشرطيّة».
ثمّ قال: إن قلت: نعم، هذا كلّه إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر واحد،وأمّا إذا كان بأمرين تعلّق أحدهما بذات الفعل وثانيهما بإتيانه بداعي أمرهـ أي قال الشارع: أيّها الناس، يجب عليكم إتيان الصلاة المأمور بها بالأمرالأوّل بداعي الأمر، ومن المعلوم أنّ الأمر المتعلّق بذات الفعل أمر تعبّدي،والأمر الثاني المتعلّق بإتيانه بداعي أمره أمر توصّلي، يعني لا يلزم أن يكونمقرونا بقصد القربة ـ فللآمر أن يتوسّل بتعدّد الأمر في الوصلة إلى تمام غرضهومقصده بلا منعة.
وأمّا في مقام الجواب عن هذا فأجاب بجوابين: الأوّل: أنّه ليس لنا في
- (1) كفاية الاُصول 1: 110 ـ 111.
(صفحه 555)
الشريعة المقدّسة عبادة تعلّق بها أمران: أحدهما: بذات العبادة، والآخر: بقصدالقربة، فهذا لا ينطبق مع الواقعيّة. الثاني: أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة ـ مثلاً ـ إمّتعبّدي وإمّا توصّلي وإمّا مشكوك التعبّديّة والتوصّليّة، فإن كان تعبّديّا فمعناهعدم حصول الغرض والامتثال بدون قصد القربة، فلا نحتاج إلى الأمر الثاني،وإن كان توصّليّاً فمعناه حصول الامتثال والغرض بدون قصد القربة فلا نحتاجأيضا إلى الأمر الثاني، مع أنّ هذا خلاف الفرض، وإن كان مشكوك التعبّديّةوالتوصّليّة فالعقل يحكم برعاية قصد القربة في مقام الامتثال من بابالاحتياط وحصول الغرض يقيناً، فلا نحتاج إلى الأمر الثاني أيضا. هذا تمامكلامه في مقام الجواب بتوضيح منّا.
ولكنّ هذا الجواب من أوّله إلى آخره مخدوش، فإنّ جوابه الأوّل خرجعن محلّ البحث ـ يعني مقام الثبوت إلى مقام الإثبات والوقوع الخارجي ـ إذالبحث في أنّه هل يجوز للشارع أن يأخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر أويستحيل مع أنّ تحقّق الأمرين المتعلّقين أحدهما بذات العبادة والآخر بقصدالقربة لا يكون قابلاً للإنكار؛ إذ سلّمنا أنّه ليس في رديف الأمر بالصلاةـ مثلاً ـ الأمر بقصد القربة، ولكنّ الأمر الضمني المستفاد من النهي عمّا يضادّقصد القربة ـ إذ هي من الدواعي غير الإلهيّة التي توجب البطلان ـ متحقّققطعا، ولا يلزم توجّه الأمر إلى عنوان قصد القربة صريحا، بل يكفي تحقّقالأمر الضمني المستفاد من النهي أيضا.
وأمّا جوابه الثاني فهو مخدوش: أوّلاً بأنّه انسدّ طريق استكشاف العباديّةرأسا، فإنّ بعد انسداد طريق تبيين الشارع بالقول ـ بأنّه لا يمكن له أخذ قصدالقربة في المتعلّق لا بأمر واحد ولا بأمرين ـ ليس لنا طريق لاستكشاف