(صفحه 555)
الشريعة المقدّسة عبادة تعلّق بها أمران: أحدهما: بذات العبادة، والآخر: بقصدالقربة، فهذا لا ينطبق مع الواقعيّة. الثاني: أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة ـ مثلاً ـ إمّتعبّدي وإمّا توصّلي وإمّا مشكوك التعبّديّة والتوصّليّة، فإن كان تعبّديّا فمعناهعدم حصول الغرض والامتثال بدون قصد القربة، فلا نحتاج إلى الأمر الثاني،وإن كان توصّليّاً فمعناه حصول الامتثال والغرض بدون قصد القربة فلا نحتاجأيضا إلى الأمر الثاني، مع أنّ هذا خلاف الفرض، وإن كان مشكوك التعبّديّةوالتوصّليّة فالعقل يحكم برعاية قصد القربة في مقام الامتثال من بابالاحتياط وحصول الغرض يقيناً، فلا نحتاج إلى الأمر الثاني أيضا. هذا تمامكلامه في مقام الجواب بتوضيح منّا.
ولكنّ هذا الجواب من أوّله إلى آخره مخدوش، فإنّ جوابه الأوّل خرجعن محلّ البحث ـ يعني مقام الثبوت إلى مقام الإثبات والوقوع الخارجي ـ إذالبحث في أنّه هل يجوز للشارع أن يأخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر أويستحيل مع أنّ تحقّق الأمرين المتعلّقين أحدهما بذات العبادة والآخر بقصدالقربة لا يكون قابلاً للإنكار؛ إذ سلّمنا أنّه ليس في رديف الأمر بالصلاةـ مثلاً ـ الأمر بقصد القربة، ولكنّ الأمر الضمني المستفاد من النهي عمّا يضادّقصد القربة ـ إذ هي من الدواعي غير الإلهيّة التي توجب البطلان ـ متحقّققطعا، ولا يلزم توجّه الأمر إلى عنوان قصد القربة صريحا، بل يكفي تحقّقالأمر الضمني المستفاد من النهي أيضا.
وأمّا جوابه الثاني فهو مخدوش: أوّلاً بأنّه انسدّ طريق استكشاف العباديّةرأسا، فإنّ بعد انسداد طريق تبيين الشارع بالقول ـ بأنّه لا يمكن له أخذ قصدالقربة في المتعلّق لا بأمر واحد ولا بأمرين ـ ليس لنا طريق لاستكشاف
(صفحه556)
عباديّة الواجبات، مع أنّه معترف بتحقّق الواجبات التعبّديّة، ونحن نرى أنّصلاة الميّت ـ مثلاً ـ تحتاج إلى قصد القربة بخلاف دفنه، فما المانع من بيانالشارع العباديّة والتوصّليّة مثل بيانه شرطيّة الطهارة وجزئيّة فاتحة الكتاببقوله: «لا صلاة إلاّ بطهور»(1)، و «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(2) بعد كونالعقول عاجزة عن درك هذه المسائل قطعاً، فلا يسلّم انسداد يد الشارعبالنسبة إلى تبيين قصد القربة.
وأمّا قوله: «إن أحرز عباديّة العمل فلا يبقى مجال للأمر الثاني؛ لحصولالغرض بموافقة الأمر الأوّل، وإن شكّ في العباديّة فالعقل يحكم مستقلاًّ منباب قاعدة الاشتغال برعاية قصد القربة» فهو مخدوش من جهات:
الاُولى: أنّ مع قطع النظر عن بيان الشارع يمكن أن يكون المكلّف غافلعن التعبّديّة والتوصّليّة، ويمكن أن يكون قاطعا بالتوصّليّة مع كون العمل فيالواقع عباديّا، وعلى فرض كون المكلّف في العبادات إمّا قاطعا في التعبّديّةوإمّا شاكّا في التعبّديّة والتوصّليّة، وفي صورة الشكّ حكم العقل برعاية قصدالقربة، ولكنّه لا يكون من الأحكام الفطريّة العقليّة، مثل حكمه بالفطرة علىوجود الصانع، بل كان من قبيل حكم العقل في باب الأقلّ والأكثرالارتباطيّين؛ بأنّه يدّعي البعض حكم العقل بالاشتغال والبعض الآخر حكمهبالبراءة، ولذا يدّعي البعض أنّ العقل يحكم برعاية قصد القربة والبعض الآخريدّعي خلافه.
الثانية: لو سلّمنا اتّفاق العقول جميعا في الحكم برعاية قصد القربة في مورد
- (1) الوسائل 1: 315، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 1.
- (2) المستدرك 4: 158، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
(صفحه 557)
الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة، وهكذا اتّفاقهم في باب الأقلّ والأكثرالارتباطيّين في الحكم بالاشتغال ورعاية الأجزاء والشرائط.
ففيه: أوّلاً: إنّا نرى تبيين الشارع لسائر الأجزاء والشرائط مثل قوله: «لصلاة إلاّ بطهور» و «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، وهكذا، فما الفارق بينها وبينقصد القربة؟ الذي أوجب استحالة بيان الشارع في قصد القربة بخلاف سائرالأجزاء والشرائط، مع أنّ حكم العقل في الجميع سواء.
وثانيا: أنّ نتيجة اتّفاق العقول في الحكم عدمُ الاحتياج إلى بيان الشارع لالاستحالة، فهذا الدليل لا ينطبق مع المدّعى، أي ادّعاء عدم إمكان أخذ قصدالقربة في المتعلّق، لا من طريق أمر واحد ولا من طريق أمرين، مع أنّا نرىبيان عدّة من الأحكام التحريميّة والوجوبيّة من ناحية الشارع في موارد حكمالعقل بقبحها أو حسنها، مثل: «الظلم قبيح» و «الإحسان حسن»، بل الملازمةبين حكم العقل والشرع، وقاعدة «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع»أقوى دليل على عدم صحّة القول بعدم الاحتياج إلى بيان الشارع في موردحكم العقل.
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدسسره (1) بعد القول باستحالة أخذ قصد القربة في المتعلّققال: هذا كلّه إذا كان التقرّب المعتبر في العبادة بمعنى قصد الامتثال، وأمّا إذكان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أو له تعالى،فاعتباره في متعلّق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان إلاّ أنّه غير معتبر فيهقطعا؛ لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه.
ويمكن أن يتوهّم في بادئ النظر أنّه ليس للدليل ـ أي لكفاية الاقتصار
- (1) كفاية الاُصول 1: 112.
(صفحه558)
دلالة على المدّعى ـ أي أنّه غير معتبر فيه قطعا ـ بل كما يكفي قصد القربةبمعنى قصد الامتثال كذلك يكفي بمعنى إحدى الاُمور الثلاثة المذكورة.
ولبعض المحشّين بيان لتوضيح ذلك؛ بأنّ كلّ واحد من الاُمور المذكورة إمّيعتبر تعيينيّا أو يعتبر تخييريّا بينه وبين قصد الامتثال، والأوّل باطل قطعا؛لكفاية الاقتصار على قصد الامتثال في مقام العمل بلا خلاف، والثاني باطلأيضا؛ إذ التخيير إن كان متحقّقا ههنا فلابدّ من كونه تخييريا شرعيّاً، وهو مكان جميع أطراف التخيير قابلاً لتعلّق الأمر بها، فلا معنى للتخيير الشرعي بعدإثبات استحالة أخذ قصد القربة بمعنى قصد الامتثال في المتعلّق.
ولا يخفى أنّ التفصيل المذكور بين قصد القربة بمعنى قصد الأمر وبإحدىالمعاني الثلاثة ليس بصحيح، بل يرد على قصد القربة بهذه المعاني مثل ما وردعليه بمعنى قصد الأمر.
توضيح ذلك: أنّك قلت: لو كانت الصلاة المقيّدة بداعي الأمر متعلّقة للأمرلا يكون المكلّف قادرا على إتيان الصلاة بداعي الأمر، فإنّ ذات الصلاة ليستمأمورا بها.
قلنا: إنّ هذا الإيراد بعينه يجري في هذه المعاني؛ بأنّه لو كانت الصلاة المقيّدةبداعي الحسن ـ مثلاً ـ متعلّقة للأمر لما كان المكلّف قادرا على الامتثال، فإنّذات الصلاة لا تكون حسنا فكيف يمكن له إتيان الصلاة بداعي الحسن؟!وهكذا في صورة كون الصلاة المقيّدة بكونها ذات مصلحة أو بكونها للّه تعالىمتعلّقة للأمر.
وأمّا قولك: إن اُخذ قصد الأمر في المتعلّق بعنوان الجزئيّة يلزم أن يكونالأمر داعيا إلى داعويّة نفسه، وهذا غير معقول.
(صفحه 559)
فنقول: إنّه لو كانت الصلاة المركّبة من داعي الحسن مأمورا بها يلزم أنيكون الحسن داعيا إلى داعويّة نفسه، وهذا أيضا غير معقول، وهكذا فيصورة كون الصلاة المركّبة من داعي المصلحة أو كونها للّه تعالى مأمورا بها.
والحاصل ممّا ذكرنا: أنّ أخذ قصد القربة في المتعلّق ـ سواء كان بمعنى داعيالأمر أو إحدى المعاني الاُخر ـ لا مانع منه.
البحث الثالث: في أنّه هل يمكن التمسّك بإطلاق الصيغة عند الشكّ فيالعباديّة والتوصّليّة لاستكشاف أحد الأمرين أم لا؟ والكلام ههنا يقع فيمقامين: المقام الأوّل في الأدلّة اللفظيّة، والثاني في الاُصول العمليّة.
وكان لصاحب الكفاية قدسسره (1) في المقام الأوّل كلام يحتاج إلى توضيح، وهوأنّه بعد القول بأنّ قصد القربة يكون بمعنى قصد الأمر وهو لا يكون قابلللأخذ في المتعلّق، لا بنحو الجزئيّة ولا بنحو الشرطيّة، لا بأمر واحد ولبأمرين. قال: «لا مجال للتمسّك بالإطلاق لإثبات التوصّليّة، بمعنى أنّه لوشككنا في جزئيّة شيء أو شرطيّته ـ كالسورة أو الطهارة مثلاً ـ يمكننا التمسّكبإطلاق «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» بعد تماميّة مقدّمات الحكمة، أي كون المولى في مقامالبيان، وعدم نصبه القرينة على التقييد، وعدم كون القدر المتيقّن في مقامالتخاطب، فيستفاد منها عدم الجزئيّة أو الشرطيّة.
وأمّا في مورد الشكّ في دخالة قصد القربة ـ بمعنى قصد الأمر الذي لا يمكنأخذه في المتعلّق ـ فلا يجوز التمسّك بأصالة الإطلاق؛ لأنّ الإطلاق والتقييد منباب العدم والملكة، وهما يحتاجان إلى الموضوع القابل، أي الإطلاق عبارةعن عدم التقييد في المورد الذي يمكن التقييد فيه، وإذا ثبت عدم إمكان تقييد
- (1) كفاية الاُصول 1: 112.