(صفحه590)
الماهيّة في الخارج فهو وإن كان صحيحا إلاّ أنّ البحث في مقام تعلّق التكليفلا في مقام الامتثال، ولا دخل للوجود في متعلّق التكليف.
وجواب الإمام قدسسره (1) عنه: أنّ مفاد الهيئة معاني حرفيّة، وقد مرّ أنّها غيرمستقلاّت مفهوما وذهنا وخارجا ودلالة، ولا يمكن تقييد الإيجاد الذي هومعنى حرفي بالمرّة والتكرار إلاّ بلحاظه مستقلاًّ. ومرّ أيضا أنّ لنا في قبالالجوهر والعرض وجودا آخر أضعف من وجود العرض؛ لاحتياجه فيالتحقّق إلى الوجودين، وهو عبارة عن واقعيّة ظرفيّة الدار لزيد ـ مثلاً ـ فإذا لميكن للمعاني الحرفيّة استقلال في مرحلة من المراحل المذكورة فلابدّ منلحاظها دائما آلة للغير ووصفا للغير، وإذا اُخذ التكرار قيدا في مفاد الهيئةفمعناه لحاظ الهيئة بما أنّ لها معنى حرفيّاً آلة للغير، ولحاظها استقلالاً بما أنّالتكرار قيد له، والجمع بينهما في استعمال واحد غير جائز.
ويمكن أن يتوهّم أنّ الإمام قدسسره صرّح في المباحث السابقة أنّ القيود ترجعكثيرا إلى الهيئات كقولنا: «ضربت زيدا يوم الجمعة» ومعلوم أنّ التقييدبـ «يوم الجمعة» يرجع إلى مفاد هيئة ضربت يعني وقوع الضرب من المتكلّم،فكيف لا يمكن تقييد الهيئة في ما نحن فيه؟!
وقال الإمام قدسسره (2) في مقام دفع هذا التوهّم: وما ذكرناه سابقاً من أنّ نوعالاستعمالات لإفادة معاني الحروف وجوّزنا تقييدها، بل قلنا: إنّ كثيرا منالتقييدات راجع إليها، لا ينافي ما ذكرنا ههنا؛ لأنّ المقصود هناك إمكانتقييدها في ضمن الكلام بلحاظ آخر، فيكون دليل تقييد المعنى الحرفي في
(صفحه 591)
المثال تعلّق اللحاظين به في الموقعيّتين، أي تعلّق اللحاظ الآلي قبل التقييدوتعلّق اللحاظ الاستقلالي بعد التقييد وتكميل الجملة، والبحث في ما نحن فيهفي نفس الهيئة بدون الضميمة، ومعنى التقييد فيها اجتماع اللحاظين الآليوالاستقلالي في آنٍ واحد.
وإن قلت: إنّ ذلك إنّما يرد لو كانت الهيئة موضوعة للإيجاد والمتقيّد بالمرّةوالتكرار حتّى يستلزم تقييد المعنى الحرفي وقت لحاظه آليّا، وأمّا إذا قلنا بأنّهموضوعة للإيجادات بالمعنى الحرفي فلا يكون كذلك. وإن شئت قلت: بأنّه كميجوز استعمال الحرف في أكثر من معنى يجوز وضع الحرف للكثرات واستعمالهفيها.
قلت: ما ذكرت كان أمرا ممكنا ولكنّه خلاف الوجدان والارتكاز فيالأوضاع، فلا محيص في معقوليّة النزاع من إرجاعها إلى وضع المجموع مستقلبحيث يرجع القيد إلى الجزء المادّي لا الصوري أو إلى نفس المادّة؛ بأن يقال:إنّ لمادّة الأمر وضعا على حدة. هذا تمام كلام الإمام قدسسره مع توضيح وإضافة.
ولكنّ التحقيق: أنّ أدلّته في المقام وإن كانت غير قابلة للخدشة، إلاّ أنّاستنتاجه برجوع القيد إلى المادّة مع الاتّفاق بين المتأخّرين على وحدة مفادالمادّة في جميع المشتقّات بعيد جدّا، ولكنّه أهون من إرجاع القيد إلى الهيئة كملا يخفى.
وأمّا البحث عن الجهة الثانية بأنّ المراد بالمرّة والتكرار هل هو الدفعةـ بمعنى وحدة الإيجاد التي تصدق على الأفراد أيضا ـ والدفعات أو الفردوالأفراد؟ فكان لكلا القولين مقرّب، ومقرّب الأوّل أنّ لفظ المرّة ظاهر فيالدفعة ولفظ التكرار في الدفعات، ومقرّب الثاني أنّ ما أوجب طرح هذا
(صفحه592)
النزاع في الاُصول عبارة عن أنّ بعض الواجبات يكفي إيجاد فرد منه في طولالعمر مثل حجّة الإسلام، والبعض الآخر منها يلزم إيجاد أفراد المتعدّد منه، إلأنّ تعدّد كلّ شيء بحسبه، فالصلاة ـ مثلاً ـ يجب فرد منها بالإضافة إلى كلّوقت من الأوقات، والصوم يجب إيجاد فرد منه بالإضافة إلى سنة، وهكذا،واختلاف الواجبات من هذه الجهة أوجب لطرح هذا البحث في الاُصول؛ بأنّهيئة «افعل» إذا صدرت عن المولى هل يكفي الإتيان بفرد واحد من المأموربه أو يلزم الإتيان بأفراد متعدّد منه؟ فهذا يناسب مع الفرد والأفراد لا الدفعةوالدفعات.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1): والتحقيق أن يكون محلّ النزاع فيهما بكلالمعنيين، وصاحب الفصول(2) أقام دليلاً على كون المراد بالمرّة والتكرار هوالدفعة والدفعات.
وإنّا نبحث في باب الأوامر عن المسألتين المتشابهتين: إحداهما: دلالة الأمرعلى المرّة والتكرار وعدمها، وثانيهما: أنّ الأوامر والنواهي تتعلّق بالطبائعوالمفاهيم أو بالأفراد؟ والظاهر أنّ إحداهما ليست متفرّعة على الاُخرى، بلكلتاهما مستقلّتان في البحث.
وضابطة الاستقلال أن يكون كلّ من القائلين بأقوال مختلفة في هذه المسألةمختارا في اختيار كلّ من الأقوال في المسألة الاُخرى، فبناءً على إرادة الفردمن المرّة يلزم جعل هذا البحث تتمّة للمبحث الآتي من أنّ الأمر متعلّقبالطبيعة أو الفرد، فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلّقه بالفرد هل يقتضي التعلّق
- (1) كفاية الاُصول 1: 119 ـ 121.
(صفحه 593)
بالفرد الواحد أو المتعدّد أو لا يقتضي شيئا منهما، ولم يحتج إلى إفراد كلّ منهمبالبحث كما فعلوه.
وأمّا لو اُريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين، ويجري البحث على كلالقولين في تلك المسألة؛ بأن يقال: بناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة هل تقتضيالصيغة مطلوبيّة الطبيعة دفعة أو دفعات؟ وعلى القول بتعلّقه بالفرد هلتقتضي الصيغة اعتبار الدفعة في مطلوبيّة الفرد أو الدفعات أو لا تقتضي شيئمنهما؟ ونستكشف من استقلال المسألتين أنّ المراد منهما هي الدفعة والدفعات.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1) في مقام جوابه: إنّ هذا توهّم فاسد، وجوابهمبتنٍ على توضيح كلتا المسألتين، أمّا توضيح المسألة الآتية فهو أنّ مرادالقائل بتعلّق الأمر بالطبيعة ليس تعلّقه بنفس الطبيعة والماهيّة؛ إذ الطبيعة منحيث هي ليست إلاّ هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، لا موجودة ولا معدومة،لا محبوبة ولا مبغوضة، بل المراد تعلّقه بها باعتبار وجودها في الخارج،والفرق بين هذا القول والقول بتعلّقه بالفرد بأنّ الفرد عبارة عن وجود الطبيعةمع الخصوصيّات الفرديّة، فيرجع النزاع إلى أنّ مطلوب المولى عبارة عنوجود الماهيّة فقط، وأمّا العوارض المشخّصة بلحاظ الملازمة مع الوجودالخارجي فهي خارجة عن دائرة المطلوبيّة، أو المطلوب عبارة عن وجودالطبيعة مع الخصوصيّات الفرديّة، مع اشتراكهما في أصل تعلّق الطلب بوجودالطبيعة.
وتوضيح هذه المسألة: أنّ المراد بالمرّة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد هو أنّالقائل بالمرّة يقول بدلالة الأمر على وجود واحد من وجودات المأمور به،
- (1) كفاية الاُصول 1: 119 ـ 121.
(صفحه594)
والقائل بالتكرار يقول بدلالته على وجودات متعدّدة منها، والقائل بعدمالدلالة عليهما يقول بدلالته على أصل الوجود، وعنوان الوحدة والتكثّرخارج عنه.
فيجري نزاع المرّة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد على كلّ من القول بتعلّقالأمر بالطبيعة أو الأفراد بأنّ المطلوب إن كان هو الطبيعة يقع النزاع في أنّالصيغة هل تدلّ على مطلوبيّة وجود واحد أو وجودات متعدّدة أو لا تدلّعليها؟ كما أنّ المطلوب إن كان هو الفرد المتميّز عن سائر الأفرادبالخصوصيّات المشخّصة يقع النزاع في أنّ الصيغة هل تدلّ على أنّ متعلّقالأمر وجود واحد أو وجودات متعدّدة؟ فجعل هذا النزاع من تتمّة مسألةتعلّق الأمر بالطبيعة أو الفرد ليس في محلّه.
والتحقيق: أنّ أصل مدّعاه ـ من أنّ المراد من الطبيعة وجود الطبيعة فيالمسألة الآتية، والمراد من الفرد والأفراد في هذه المسألة هو وجود واحدووجودات متعدّدة ـ كلام متين ولا يكون قابلاً للمناقشة، ولكنّ الدليل الذيأقامه لهذا الدعوى ليس بصحيح، فلابدّ لنا من إقامة الدليل الصحيح بعدموافقة أصل هذا الكلام.
وأمّا الاستدلال على كون المراد من الطبيعة ليس نفس الطبيعة؛ بأنّ الماهيّةمن حيث هي ليست إلاّ هي، فهو مخدوش: أوّلاً بأنّ المتناقضات بأجمعهمسلوبة عن مرحلة الماهيّة، فكما أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلاّ هي، لمطلوبة ولا غير مطلوبة، كذلك لا موجودة ولا غير موجودة، وإذا لم تكنإضافة الطلب إلى الماهيّة صحيحة فكيف تصحّ إضافة الوجود إليها؟! مع أنّكلاهما مسلوب عن ذات الماهيّة، فلا يمكن حلّ المشكل بأنّ الأمر طلب