(صفحه62)
والإحاطة به ـ كعلم الفلسفة الاُولى ـ فامتيازه عن غيره إمّا بالذّات أوبالموضوع أو بالمحمول، كما إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعلالموضوع فيه «الكرة الأرضيّة» ـ مثلاً ـ ويبحث فيه عن أحوالها من حيثالكمّيّة والكيفيّة والوضع والأين، إلى نحو ذلك، وخواصّها الطبيعيّة ومزاياهعلى أنحائها المختلفة، أو إذا فرض أنّ غرضاً يدعو إلى تدوين علم يجعلموضوعه «الإنسان» ويبحث فيه عن حالاته الطارئة عليه، وعن صفاته منالظاهريّة والباطنيّة، وعن أعضائه وجوارحه وخواصّها، فامتياز العلم عنغيره في مثل ذلك إمّا بالذات أو بالموضوع ولا ثالث لهما؛ لعدم غرضخارجي له ماعدا العرفان والإحاطة ليكون التمييز بذلك الغرض الخارجي،كما أنّه قد يمكن الامتياز بالمحمول فيما إذا فرض أنّ غرض المدوّن يتعلّق بمعرفةما تعرضه الحركة ـ مثلاً ـ فله أن يدوّن علماً يبحث فيه عن ما تثبت الحركة له،سواء كان ما له الحركة من مقولة الجوهر أم من غيرها من المقولات، فمثل هذالعلم لا امتياز له إلاّ بالمحمول». هذا تمام كلامه.
ولا يخفى أنّ في صدر كلامه وذيله نحو تهافت، فإنّه قال: إذا لم يكنللعلم غرض خارجي يترتّب عليه سوى العرفان والإحاطة به ـ كعلمالفلسفة الاُولى ـ فامتيازه عن غيره إمّا بالذات أو بالموضوع أو بالمحمول،ثمّ بعد ذلك ذكر المثالين فقال: فامتياز العلم عن غيره في مثل ذلك إمّبالذات أو بالموضوع ولا ثالث لهما، ثمّ ذكر للتمايز مثالاً آخر. وهذا ليس إلعين التهافت.
ولكن مع غمض البصر عن ذلك ترد عليه إشكالات متعدّدة:
منها: أنّه إذا كان تمايز العلوم في مقام التدوين بالأغراض الباعثة إليها ـ كما
(صفحه 63)
قال به صاحب الكفاية قدسسره (1) ـ فلا فرق بين أن يكون الغرض علميّاً أو عمليّكما أشرنا إليه سابقاً، فإنّ ترتّب الغرض خارجاً هو العلّة الغائيّة لها. وأمّا فيمقام البعث إلى التدوين ووجوده الذهني فلا يتفاوت بين كونه علميّاً أوعمليّاً، ولكليهما وجود ذهني باعث إلى التدوين بلا تفاوت وبلا إشكال.
ومنها: قوله: «فلو لم يكن ذلك ملاك تمايز هذه العلوم بعضها عن بعض فيمرحلة التدوين بل كان هو الموضوع لكان اللازم على المدوّن أن يدوّن كلّباب، بل كلّ مسألة علماً مستقلاًّ» ففيه: أنّه قد تبيّن أنّ هذا الإشكال لا يردعلى المشهور، فإنّهم قائلون بأنّ موضوعاً واحداً من كلّ علم يوجب تمايزهعن علوم اُخرى، لا أنّ موضوع كلّ مسألة من العلم يوجب تمايزه عن علوماُخرى، وهذا التالي الفاسد لايترتّب على هذا التفسير. وأمّا التفسير الذيتخيّله صاحب الكفاية وتبعه بعض الأعلام ويترتّب عليه هذا التالي الفاسدفلم يقل به أحد فضلاً عن المشهور.
ومنها: ما في قوله: «إذا لم يكن للعلم غرض خارجي...» فامتيازه إمّبالذات أو بالموضوع أو بالمحمول، فإنّا نقول: ما معنى التمايز بالذات هل المرادمنه السنخيّة التي ذكرها الإمام ـ دام ظلّه ـ ، أو المراد منه التمايز بالحقيقة؟ فإنكان المراد هو الأوّل فلِمَ لا يستفاد منه في مقام التعليم و التعلّم، وإن كان المرادهو الثاني قلنا: هذا مردودٌ بقولك: إنّ حقيقة كلّ علم حقيقة اعتباريّة، وليستوحدتها وحدة بالحقيقة والذات ليكون تمييزه عن غيره بمتباين الذات.
وكيف كان، أنت ذكرت المثالين وقلت: التمايز فيهما إمّا بالذات وإمّبالموضوع، وذكرت مثالاً آخر للتمايز بالمحمول بدون بيان الضابطة والملاك لهذ
(صفحه64)
التمايز والتمايز بالذات وبالموضوع، مع أنّ الغرض في هذا البحث ليس إلاّ بيانالضابطة للتمايز.
مع أنّه لا نعلم مراده من التمايز بالذات أو الموضوع هل التمايز فيه يكونمن جهتين: أحدهما: بالذات والآخر: بالموضوع، أو التمايز فيه إن لوحظ مععلم الثاني يكون بالذات وإن لوحظ مع الثالث يكون بالموضوع؟ فإنّا مع عدمالأثر من هذين الاحتمالين في كلامه لا نرى ملاكاً فيه لإرادة أحدهما.
والحاصل: أنّ البحث عن التمايز من غير إعطاء الضابط والملاك له يرجعإلى عدم التمايز.
والنظر الأخير في المسألة نظر بعض المعاصرين من الفلاسفة، وهو: أنّ تمايزالعلوم يكون بتمايز الاُسلوب في البحث «مِتدُ» وأنّ التغيير في الاُسلوبيوجب التعدّد والتمايز في العلوم وإن كان الموضوع فيها واحداً، مثلاً: في مسألةمعرفة الإنسان، قد يبحث فيها من ناحية التعقّل والبرهان ويسمّى باسم«معرفة الإنسان من ناحية الفلسفة» أو علم النفس، وقد يبحث فيها منناحية الآيات والروايات، ويسمّى باسم «معرفة الإنسان من ناحية الدين»،وقد يبحث فيها من ناحية التجربة والآثار الباقية من المتقدّمين، ويسمّى باسم«معرفة الإنسان من ناحية التجربة» أو الجسم، وهذا الاُسلوب يوجب التمايزفي العلوم، مع أنّ الموضوع في الجميع عبارة عن الإنسان.
وهكذا في معرفة اللّه تعالى إذا لاحظنا هذا البحث في علم الفلسفة يثبت منطريق الاستدلال والبرهان، وإذا لاحظنا في علم العرفان يتحقّق عن طريقالكشف والمشاهدة، مع أنّ الموضوع في كليهما واحدٌ.
أقول: يحتمل أن يكون مرادهم من هذا الكلام بيان قاعدة كلّيّة في جميع
(صفحه 65)
العلوم المتشابهة وغيرها، وحينئذٍ يترتّب عليه التالي الفاسد الذي لا يلتزم بهأحد، وهو أنّه يلزم أن تكون معرفة الإنسان ومعرفة اللّه تعالى من العقل علمواحداً؛ إذ الاُسلوب فيهما يكون واحداً، وهذا خلاف البداهة والضرورة.
ويحتمل قريباً أن يكون مورد كلامهم العلوم المتشابهة التي يكون الموضوعفيها واحداً كالمثالين المذكورين، فإن كان مرادهم هذا يرد عليه:
أوّلاً: أنّه خارج عن محلّ البحث، فإنّ البحث في تمايز العلوم مطلقاً من دونالتقييد بموضوع خاصّ، وهو ليس كذلك.
وثانياً: أنّ هذا الكلام في مورده أيضاً ليس بصحيح؛ لأنّ إثبات المدّعىيتوقّف على دفع جميع الاحتمالات المخالفة.
سلّمنا أنّ التمايز في تلك الموارد لا يكون بالموضوع، فإنّه في عدة منهيكون واحداً.
ولكنّه يحتمل قويّاً أن يكون التمايز فيها بالأغراض؛ إذ الأغراض في كلّمنها متفاوتة ومتباينة، فالغرض في الفلسفة كان معرفة الإنسان، وأمّا فيالآيات والروايات فكان الإيصال إلى اللّه تعالى، مع أنّ الموضوع فيها لايكونواحداً؛ إذ لو كان للموضوع أبعاد مختلفة لكان كلّ واحد منها علماً واحداً يتمايزعن الآخر بلاشكّ وبلا كلام، مثلاً: العدالة على رأي أمير المؤمنين عليهالسلام والعدالةعلى رأي المادّيّين موضوعان مختلفان. هذا تمام الكلام في نقل الأقوال في هذالمطلب.
والأرجح منها تبعاً لاُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ أنّ التمايز في العلوميكون بسنخيّة ثابتة بين المسائل ذاتاً، كما صرّح بها اُستاذنا السيّد المرحومالبروجردي في المقدّمة الاُولى، ولكنّه قائل بأنّ النسبة معنى آلي ولا يعتمد
(صفحه66)
عليه في المسألة، وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ المسألة وإن كان قوامها بالموضوعوالمحمول ولكنّ الأصل في تحقّق المسألة إيجاد النسبة والارتباط بينهما، وكانبين النسب والروابط سنخيّة ذاتيّة توجب التمايز بين العلوم، مثلاً: «الفاعلمرفوع» و«المفعول منصوب» كانت بينهما سنخيّة لم تكن بين «الفاعل مرفوع»و«الصلاة واجبة»، وهكذا.
ولا يخفى أنّ الغرض وإن كان مقدّماً عليها من حيث الرتبة، فإنّ غرضالتدوين بوجوده الذهني موجود قبل التدوين وتشكيل مسائل العلم، لكنّالموصل إلى الغرض وأوّل ما يواجه به في المسألة هي السنخيّة الذاتيّة. ولذذكرنا فيما تقدّم أنّه لا تكون العلّة متقدّمة على المعلول، بل لابدّ من ملاحظةالكاشف والمعلوم منهما ابتداءً حتّى يكون هو المقدّم على الآخر.
وبالجملة، فالمعيار لتشخيص المسائل المشكوكة في العلوم هي السنخيّة،ولا فرق فيها بين قلّة المسائل وكثرتها، بخلاف الجامع.