(صفحه76)
في تعريف علم الاُصول
المطلب السابع
في تعريف علم الاُصول
وهذا البحث أيضاً معركة الآراء بين العلماء، فعرّفه البعض: بأنّه العلمبالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة.
توضيحه: أنّه لا يخفى أنّ العلوم التي لها دخل في الاستنباط متعدّدةومتكثرة، مثل: علم لغة العرب وأدبيّاته، وعلم تفسير القرآن، فإنّ الاستنباطيتوقّف عليها قطعاً؛ إذ مصادر الأحكام الشرعيّة تكون جميعاً باللّغة العربيّة،ولكنّها خارجة عن علم الاُصول، فإنّها غير مُمهّدة للاستنباط وإن كان لهدخل فيه، ولكنّها وضعت للأغراض العامّة، فكلمة «الممهّدة» تخرجها من علمالاُصول.
أقول: يرد عليه: أوّلاً: بأنّ اشتمال التعريف على كلمة العلم ليس بصحيح؛ لمتقدّم مراراً من أنّ علم الاُصول ـ بل كلّ العلوم ـ عبارة عن نفس المسائل، لدخل للعلم بها في ماهيّتها قطعاً.
وأورد عليه صاحب الكفاية قدسسره (1) أيضاً إشكالين مهمّين:
- (1) كفاية الاُصول 1: 9 ـ 10.
(صفحه 77)
الأوّل: أنّ هذا التعريف لا يشمل جميع المسائل الاُصوليّة، مثل مسألةحجّيّة الظنّ على الحكومة.
توضيحه: أنّه قد بيّن في محلّه أنّهم أقاموا أدلّة لحجّيّة مطلق الظنّ، منها دليلالانسداد، وكانت له مقدّمات: منها: عبارة عن انسداد باب العلم والعلمي،وهي علّة لتسميته بدليل الانسداد. وعلى فرض تماميّة مقدماته فإنّهم بعدالاتّفاق على كونه دليلاً عقليّاً اختلفوا في نتيجة هذه المقدّمات، فقال بعضهم:إنّ نتيجة دليل الانسداد حجّيّة الظنّ بنحو الكشف، بمعنى: أنّ العقل بالنظر إلىالمقدّمات يكشف أنّ الشارع في تلك الحالة جعل الظنّ حجّة، فيكون الظنّعنده حجّة شرعيّة.
وقال بعضهم: إنّ نتيجته حجّيّة الظنّ بنحو الحكومة، بمعنى: أنّ العقل الذييحكم بحجيّة القطع مطلقاً بحيث لا تناله يد الجعل نفياً وإثباتاً يحكم عند تماميّةهذه المقدّمات بحجيّة الظنّ أيضاً، فيكون الظنّ عنده حجّة عقليّة.
ولذا قال المحقّق الخراساني قدسسره (1): إنّ التعريف المذكور لا يشمل حجّيّة الظنّعلى الحكومة، فإنّه حجّة عقليّة، بخلاف حجيّته على الكشف، فإنّه حينئذٍتكون حجّة شرعيّة كسائر الحجج والأمارات الشرعيّة.
ويمكن أن يقال: كيف يشمل هذا التعريف حجّيّة القطع مع أنّه أيضاً منالحجج العقليّة؟
واُجيب عنه: بأنّ مرادهم من الاستنباط في التعريف الاستنباط القطعي،ومعلوم أنّ استنباط الظنّ ليس بقطعي، بخلاف القطع فإنّ استنباطه قطعيدائماً.
(صفحه78)
إن قلت: لو كان مرادهم منه الاستنباط القطعي فكيف يجري هذا في مواردالأمارات الشرعيّة؛ إذ لا شكّ في أنّ الاستنباط في مورد خبر الواحد مثلظنيٌّ؟
قلنا: إنّ المشهور قائل بأنّ الشارع جعل خبر الواحد حجّة، وهي بمعنىجعله حكماً ظاهريّاً مطابقاً لمؤدّى الخبر، سواء كان مطابقاً للواقع أم لا،بخلاف القطع فإنّه ليس متعقّباً بالجعل وإن كان حجّة للقاطع أيضاً ولو كانمخالفاً للواقع.
وبالجملة، إنّا نقطع بحكم ظاهري في موارد الأمارات الشرعيّة، كما أنّنقطع بالحكم الواقعي في مورد القطع، وأمّا في مورد الظنّ الانسدادي علىالحكومة لايكون من القطع أثر ولا خبر، مع أنّ مرادهم من الاستنباطالاستنباط القطعي، ولذا لايشمله التعريف.
وجوابه: أنّ هذا الإشكال مبتنٍ على الاحتمال، وهو مدفوع بأنّ مرادهم منالاستنباط أعمّ من الاستنباط القطعي والظّنّي، فيشمل التعريف الظنّالانسدادي على الحكومة أيضاً.
وأمّا الإشكال الثاني على هذا التعريف فهو: أنّه لا يشمل الاُصول العمليّةالجارية في الشبهات الحكميّة.
توضيحه: يتوقّف على مقدّمة، وهي: أنّ الاُصول العمليّة على قسمين: قسممنها يجري في الشبهات الموضوعيّة كالاستصحاب وأصالة الطهارة وأصالةالحلّيّة الجارية فيها، والقسم الآخر منها يجري في الشبهات الحكميّة، مثل:أصالة البراءة وأصالة الحلّيّة والاستصحاب الجاري فيها، واختلفوا في أنّمباحث الاُصول العمليّة هل تكون من مسائل علم الاُصول أو من مسائل
(صفحه 79)
علم الفقه.
قال الشيخ الأنصاري(1) والمحقّق الخراساني(2) وعدّة من الأعاظم: إنّه تارةيكون منشأ الشكّ فقدان النصّ، وتارة يكون إجمال النصّ، وتارة يكونتعارض النصّين، وتارة يكون الاشتباه في الاُمور الخارجيّة. ثمّ فصّلوا بينهذه الأقسام الأربعة وقالوا: إن كان الشكّ من قبيل القسم الرابع ـ أي كانتالشبهة موضوعيّة ـ فهي خارجة عن مسائل علم الاُصول، وإن كان الشكّ منقبيل بقية الأقسام ـ أي كانت الشبهة حكميّة ـ فالاُصول الجارية فيها منمسائل علم الاُصول، وعلى هذا المبنى استشكلوا على المشهور.
نكتة: في الفرق بين الاُصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة والاُصولالعمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة، وهي أنّ مجري الاُصول في الشبهاتالموضوعيّة هو نفس المقلِّد والمكلَّف وإن كان أصل الفتوى بالاستصحابـ مثلاً ـ عن المجتهد، ولكن المجري في مقام تطبيق هذا الكلّي في الشبهاتالموضوعيّة هو المقلِّد، بخلاف الشبهات الحكميّة فإنّ مجري الاُصول فيها لميكن إلاّ المجتهد.
والحاصل: أنّ الاُصول العمليّة في الشبهات الحكميّة طريق لإحراز الحكمالشرعي، بخلافها في الشبهات الموضوعيّة، والتفصيل والتنقيح في محلّه.
فأوردوا على المشهور بعد تمهيد هذه المقدّمة بأنّ هذا التعريف لا يشملالاُصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة، فإنّ كلمة «الاستنباط» التيذكروها في التعريف مقتضاها كون المستنبط غير المستنبط منه، مثل: أنّالقواعد تستنبط منها أحكام شرعيّة، فلو دلّ خبر الواحد على وجوب صلاة
- (1) فرائد الاُصول 2: 544 ـ 546.
- (2) كفاية الاُصول 1: 9 ـ 10.
(صفحه80)
الجمعة ـ مثلاً ـ يصحّ قول المجتهد بأنّا نستنبط وجوب صلاة الجمعة منالرواية، وأمّا لو أحرزه من طريق الاستصحاب فلا يصحُّ التعبير بأنّا نستنبطهمن الاستصحاب، فإنّ الحكم بوجوب صلاة الجمعة كان من مصاديق «لتنقض اليقين بالشكّ»، ولا يصحُّ التعبير بأنّا نستنبط حكم الفرد من الكلّي؛لأنّه تطبيق الكلّي على المصاديق، فلو قال المولى: «أكرم كلّ عالم» وأنت عندالمواجهة مع الحسن العالم لا تقول: إنّا نستنبط وجوب إكرامه من «أكرم كلّعالم»، وإن أمكن ترتيب قياس ينتج حكماً ثابتاً لعنوان كلّي، كما يقال: وجوبصلاة الجمعة قد شكّ في بقائه، وكلُّ ما شكّ في بقائه، فهو باق، فوجوب صلاةالجمعة باقٍ، إلاّ أنّ المستنبط مصداق من مصاديق الحكم الاستصحابي الواقعكُبرى للقياس المذكور، فالاستصحاب الجاري في الشبهات الحكميّة خارجعن مسائل علم الاُصول، وهكذا سائر الاُصول.
وهذان الإشكالان أوجبا عدول المحقّق الخراساني قدسسره إلى تعريفه: بأنّهصناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أوالتي ينتهي إليها في مقام العمل، أي علم الاُصول صناعة يعرف بها القواعد التيلها إحدى الخصوصيّتين: إمّا وقوعها في طريق الاستنباط، وإمّا انتهاء المجتهدإليها في مقام العمل بعد الفحص واليأس عن الدليل في المقام، فيشمل هذالتعريف الظنّ الانسدادي على الحكومة، فإنّ بعد تماميّة المقدّمات هو الذيينتهي إليه المجتهد في مقام العمل إن لم يترتّب عليه الحكم الواقعي أو الظاهريالقطعي، وهكذا في الاستصحاب وإن لم يصدق عليه الاستنباط إلاّ أنّ المجتهدينتهي إليه في مقام العمل.
وأوردوا على هذا التعريف إشكالات متعدّدة ومهمّة: