(صفحه82)
وربما يقال بوجود الجامع بينهما وأنّه القواعد التي تشخّص وظيفة المكلّففي مقام العمل، أو أنّه القواعد التي ترفع التحيّر في مقام العمل. وكلّ منهمتشمل جميع القواعد الاُصوليّة حتّى الظنّ الانسدادي على الحكومة، والاُصولالعمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة، فإنّها ترفع التحيّر، كما يرفعه خبر الواحدوسائر القواعد والأدلّة.
ولكن يرد عليه: أنّ هذا الجامع ليس بصحيح فإنّه يشمل القواعد الفقهّيةأيضاً؛ إذ المكلّف إن شكّ وتحيّر في ضمان بيع الفاسد يرتفع تحيّره وتتعيّنوظيفته في مقام العمل بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» مثل الخبرالواحد وسائر القواعد، فالإشكال في محلّه.
والإشكال المهمّ عليه في باب الأمارات الشرعيّة، فإنّ الاُصوليّين اختلفوفي معنى حجّيّة الأمارات الشرعيّة، فالبعض قال: بأنّ معناه جعل الحكمالظاهري على طبق مؤدّاها وإن لم يكن في الواقع كذلك، مثلاً: إذا روى زرارةعن أبي عبداللّه عليهالسلام أنّ صلاة الجمعة واجبة، فيجعل الشارع بمقتضى حجّيّةخبر الثقة الوجوب حكماً ظاهريّاً لها، سواء كانت بحسب الواقع واجبة أو لا،ولذا قلنا: إنّ الاستنباط عندهم أعمّ من استنباط الحكم الظاهري والواقعي.
ولكن خالفهم المحقّق الخراساني قدسسره (1) ههنا، فإنّه قال: إنّ كلمة «الحجّة» تارةتستعمل في الأمارات العقليّة ـ مثل قولك: القطع حجّة ـ وتارة تستعمل فيالأمارات الشرعيّة ـ مثل قولك: خبر الواحد حجّة ـ ولا معنى للحجّيّة فيكليهما إلاّ المنجزيّة والمعذريّة بحسب إصابة الواقع ومخالفته، فلا يكون هنا منجعل الحكم الظاهري خبرٌ ولا أثر، كما في الأمارات العقليّة، ولكن حجّيّة
- (1) كفاية الاُصول 1: 9 ـ 10.
(صفحه 83)
القطع ذاتيّة وعقليّة لا تنالها يد الجعل نفياً ولا إثباتاً، وحجّيّة خبر الواحدوأمثاله بجعل الشارع، بمعنى: أنّ الحجّيّة الشرعيّة حكم من الأحكام الوضعيّةمجعولة للشارع كالملكيّة والزوجيّة.
إذا عرفت هذا فنقول: مع أنّ مبحث الحجّيّة في باب خبر الواحد من أهمّالمسائل ـ كما اعترف به ـ ولكن لا تشمله إحدى الخصوصيّتين المذكورتين فيالتعريف، فإنّ زرارة إذا روى وجوب صلاة الجمعة عن الأئمّة عليهمالسلام فخبره إنكان مطابقاً للواقع يتنجّز الواقع ويترتّب عليه الثواب بعد الامتثال، وإن كانمخالفاً للواقع فلا يترتّب عليه العقاب، بل هو معذور في ترك صلاة الظهر،وهذا ليس من استنباط الأحكام بوجه، كما أنّه لا يكون خبر الواحد وأمثالهمن القواعد التي ينتهي إليها في مقام العمل، فإنّا نرجع إليها في بادئ الأمر،وبعد الفحص واليأس منها نتمسّك ونرجع إلى القواعد الاُخر، فهذا التعريفلا يشمل الأمارات الشرعيّة التي تكون من أهمّ المسائل.
قال المحقّق النائيني قدسسره (1) في المقام: «إنّ علم الاُصول عبارة عن العلمبالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي».
أقول: مع قطع النظر عن ذكر كلمة العلم ـ كما ذكره المشهور في تعريفهم يرد عليه إشكالان:
الأوّل: أنّ هذا التعريف يشمل عدّة من القواعد الفقهيّة، فإنّ القواعد الفقهيّةتكون على قسمين: قسم منها بمنزلة النوع للماهيّة والمسائل الداخلة تحتهالأفراد والمصاديق، وقسم منها بمنزلة الجنس للأنواع الداخلة تحته، ولا نرتابفي أنّ القواعد التي تكون بمنزلة الجنس لأنواعه ـ مثل قاعدة ما يضمن
- (1) أجود التقريرات 1: 3، فوائد الاُصول 1: 19.
(صفحه84)
بصحيحه وعكسها ـ كانت من الكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتهيستنتج منها حكم فرعي كلّي، فإنّ البيع ـ مثلاً ـ نوع من الأنواع التي تكونتحتها، فإذا شكّ في ضمان فاسده تقول: البيع يضمن بصحيحه وكلّ ما يضمنبصحيحه يضمن بفاسده، فالبيع بجميع أفراده ومصاديقه يضمن بفاسده، وأمّالقواعد التي تكون بمنزلة النوع للأفراد لم يستنتج منها هذه النتيجة، مثلقولك: «كلّ خمر حرام» فإنّه تستنتج منه «هذا حرامُ» وهو لايكون حكمفرعيّاً كلّيّاً.
والثاني: أنّ الظاهر من هذا التعريف أنّ القواعد الاُصوليّة هي الكبرياتالتي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلّي بلا توقّف علىقواعد اُخر، مع أنّ مبحث «صيغة الأمر هل هي ظاهرة في الوجوب أم لا»كان من المباحث الاُصوليّة قطعاً، ولكن لم يستنتج منه حكم فرعي كلّي بدونضمّ ضميمةٍ، مثلاً تقول: الصلاة معروضة لهيئة «افعل»، وكلّ هيئة «افعل»ظاهرة في الوجوب، فهيئة «افعل» العارضة على الصلاة ظاهرة في الوجوب،ولا شكّ في أنّ الظهور في الوجوب ليس حكماً فرعيّاً كلّيّاً، بل الوجوب حكمفرعي كلّي، واستنتاجه من هذا المبحث يحتاج إلى ضمّ قاعدة اُخرى، مثل:قاعدة «وكلّ ظاهر حجّة»، وإلاّ لا يستفاد منها وجوب صلاة الظهر. فهذالتعريف منقوض بالإشكالين المذكورين.
وقال الشيخ ضياء الدين العراقي قدسسره (1) في مقام التعريف: «إنّه القواعد الخاصّةالتي تعمل في استخراج الأحكام الكلّيّة الإلهيّة، أو الوظائف العمليّة الفعليّة،عقليّة كانت أم شرعيّة، ولو بجعل نتيجتها كبرى القياس في استنتاج الحكم
(صفحه 85)
الشرعي الواقعي».
وهذا التعريف متضمّن للخصوصيّتين المذكورتين في تعريف اُستاذه المحقّقالخراساني قدسسره ، ولكنّه أضاف في ذيل كلامه خصوصيّة اُخرى حتّى يشمل عدّةاُخرى من المسائل الاُصوليّة أيضاً، وهي: وتوهّم استلزامه لخروج مثلمباحث العامّ والخاصّ أيضاً مدفوع، بأنّها وإن لم تكن واقعة في طريقاستنباط ذات الحكم الشرعي، إلاّ أنّها باعتبار تكفّلها لإثبات كيفيّة تعلّقالحكم بموضوعه كانت داخلة في المسائل الاُصوليّة.
ثمّ قال: وهذا بخلاف المسائل الأدبيّة، فإنّها ممحّضةٌ لإثبات موضوع الحكمبلا نظر فيها إلى كيفيّة تعلّق الحكم أصلاً، ومن ذلك البيان ظهر وجه خروجالمشتقّات أيضاً عن مسائل الاُصول، ولذا ذكروها في المقدّمة؛ إذ لابدّ فيها منالمراجعة إلى اللغة فقط ولم يتشخّص فيها الحكم، ولا كيفيّة تعلّق الحكمبالموضوع(1).
هذا، ولكن ترد عليه إشكالات متعدّدة:
منها: ما أورده المحقّق الأصفهاني قدسسره على صاحب الكفاية: بأنّ الجامع بينهذه الخصوصيّات موجودٌ أم لا؟ إن قلت: بوجود الجامع فلابدّ من ذكره فيالتعريف، وإن قلت: بعدم وجوده ـ كما هو الحقّ ـ فلابدّ من الالتزام بترتّبالأغراض الثلاثة عليها ويمكن أن يلتزم هو بذلك.
ومنها: ما أورده الإمام ـ دام ظلّه ـ(2) من أنّه: ليت شعري أيّ فرق بينمبحث المشتقّ ودلالة الفعل على الاختيار وما ضاهاهما من الأبحاث اللّغوية،
- (2) تهذيب الاُصول 1: 11، مناهج الوصول إلى علم الاُصول 1: 50.
(صفحه86)
وبين مبحث مفاد الأمر والنهي وكثير من مباحث العامّ والخاصّ التي يبحثفيها عن معنى الكلّ والألف واللام، بل المفاهيم مطلقاً، حيث أخرج الطائفةالاُولى وأدخل الثانية، مع أنّ الجميع من باب واحد تحرز بها أوضاع اللّغة،وتستنتج منها كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه، مضافاً إلى شموله للقواعد الفقهيّةأيضاً، فإنّه لم يذكر كلمة «الاستنباط» حتّى تخرجها منه. فهذا التعريف أيضليس بتامّ.
وقال بعض الأعلام في المقام على ما في كتاب المحاضرات(1): «إنّه العلمبالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكلّيّة الإلهيّةمن دون حاجة إلى ضميمة كبرى أو صغرى اُصوليّة اُخرى إليها».
أقول: يحتمل قويّاً أن يكون ذكر كلمة صغرى في التعريف سهواً من المقرّر،فإنّه في مقام توضيح هذا التعريف لا يكون في كلامه أثر ولا خبر من صغرىاُصوليّة، مع أنّا لا نجد في القواعد الاُصوليّة صغرى اُصوليّة أصلاً.
ثمّ قال في مقام التوضيح ما ملخّصه: أنّ التعريف يرتكز على ركيزتينوتدور المسائل الاُصوليّة مدارهما وجوداً وعدماً:
الركيزة الاُولى: أن تكون استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة من المسألة منباب الاستنباط والتوسيط لا من باب التطبيق ـ أي تطبيق مضامينها بنفسهعلى مصاديقها ـ كتطبيق الطبيعي على أفراده.
والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول هي الاحتراز عن القواعدالفقهيّة، فإنّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة، وليكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيط، بل من باب التطبيق، وبذلك
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 8 .