(صفحه88)
اُخرى، فيصدق عليها حينئذٍ التعريف لتوفّر هذا الشرط فيها، ولا يلزم إذمحذور دخول القواعد الفقهيّة فيه.
نعم، يرد هذا الإشكال على التعريف المشهور ـ أي العلم بالقواعد الممهّدةلاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ـ فإنّ ظاهرهم أنّهم أرادوا بالاستنباطالإثبات الحقيقي، وعليه فالإشكال وارد، ولا مجال للتفصّي عنه ـ كما عرفت ولو كان مرادهم المعنى الجامع الذي ذكرناه فلا وقع له أصلاً كما مرّ.
توضيحه: أنّ جريان الاستصحاب وقاعدة لا تنقض اليقين في صلاةالجمعة ينجّز الوجوب إن كانت الصلاة في الواقع واجباً، كما أنّه يوجبمعذوريّة المكلّف إن كانت الصلاة في الواقع حراماً، فيكون لأمثالالاستصحاب عنوان المنجّز أو المعذّر حينما يجري في موارد مشكوكة، بخلافالقواعد الفقهيّة فإنّ فيها عنوان الفرد والمصاديق بالنسبة إلى الطبيعي والكلّي،فلا يكون فيها المنجزيّة والمعذّريّة.
الركيزة الثانية: أن يكون وقوعها في طريق الحكم بنفسها من دون حاجةٍإلى ضمّ كبرى اُصوليّة اُخرى، وعليه فالمسألة الاُصوليّة هي المسألة التيتتّصف بذلك.
ثمّ إنّ النكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول أيضاً هي ألاّ تدخلفيه مسائل غيره من العلوم، كعلم النحو والصرف واللغة والرجال والمنطقونحوها، فإنّها وإن كانت دخيلة في استنباط الأحكام الشرعيّة واستنتاجهمن الأدلّة؛ لأنّ فهم الحكم الشرعي منها يتوقّف على علم النحو ومعرفةقوانينه من حيث الإعراب والبناء، وهكذا على سائر العلوم المذكورة، ولكنكلّ ذلك بالمقدار اللازم في الاستنباط لا بنحو الإحاطة التامّة، فلو لم يكن
(صفحه 89)
الإنسان عارفاً بهذه العلوم كذلك أو كان عارفاً ببعضها دون بعضها الآخر لميقدر على الاستنباط ـ إلاّ أنّ وقوعها ودخلها فيه لا يكون بنفسهوبالاستقلال، بل لابدّ من ضمّ كبرى اُصوليّة، وبدونها لا تنتج نتيجةً شرعيّةأصلاً؛ ضرورة أنّه لا يترتّب أثر شرعي على وثاقة الراوي مالم ينضمّ إليهكبرى اُصوليّة وهي حجّيّة الرواية، وهكذا.
وبذلك قد امتازت المسائل الاُصوليّة عن مسائل سائر العلوم، فإنّ مسائلسائر العلوم وإن كانت تقع في طريق الاستنباط ـ كما عرفت ـ إلاّ أنّها لبنفسها بل لابدّ من ضمّ كبرى اُصوليّة إليها. وهذا بخلاف المسائل الاُصوليّة،فإنّها كبريات لو انضمّت إليها صغرياتها لاستنتجت نتيجة فقهيّة من دونحاجة إلى ضمّ كبرى اُصوليّة اُخرى(1).
أقول: فيه: أوّلاً: أنّ ذكر كلمة «العلم» في التعريف كما بيّناه مراراً لغو، فإنّعلم الاُصول عبارة عن مجموعة من القواعد الاُصوليّة لا دخل للعلم بهوجوداً وعدماً.
وثانياً: أنّ شمول الاستنباط للتنجّز والتعذّر غير صحيح، فإنّ على فرضكون الحجّيّة بمعنى المنجزيّة والمعذّريّة ـ كما قال به المحقّق الخراساني قدسسره ـ ليكون معناهما سوى القضيّتين الشرطيّتين، مثلاً: إذا روى زرارة وجوبصلاة الجمعة وأنت قلت بحجّيّة خبره فمعناه أنّه إن كان خبره مطابقاً للواقعفالواقع منجّز علينا، وإن كان مخالفاً للواقع فنحن معذورون في مخالفة الواقع،ومعلوم أنّ ههنا لا يصدق الاستنباط، ولا يصحّ القول: بأنّا نستنبط حكمصلاة الجمعة. ومن البديهي عدم دوران الحجّيّة مدار حصول الظنّ، فإنّ خبر
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 9.
(صفحه90)
زرارة حجّة لنا ولو لم يحصل منه الظنّ.
وثالثاً: أنّ الغرض من التعريف إحراز الضابطة والمعيار للقواعد الاُصوليّة،ولا يخفى أنّا نحتاج إلى التعريف حينما كان لنا شيء مجهول، فحينئذٍ تقييدالتعريف بالكبرى الاُصوليّة يوجب الدور، فإنّ العلم بالتعريف ـ أي الضابطة متوقّف على الكبرى الاُصوليّة؛ لأنّه جزء التعريف، والعلم بالكبرى الاُصوليّةمتوقّف على التعريف ـ أي الضابطة ـ فإنّ المفروض أنّه مجهول عندنا، وإلاّ لنحتاج إلى التعريف ههنا.
وقال اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ(1) في المقام: «هو القواعد الآليّة التييمكن أن تقع كبرى استنتاج الأحكام الكلّيّة الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفةالعمليّة».
وكان لهذا التعريف خصوصيّات: منها: ذكر كلمة الآليّة، فتخرج بهالقواعد الفقهيّة؛ إذ المراد بها كونها آلة محضة، ولا ينظر فيها بل ينظر بها فقط،والقواعد الفقهيّة ينظر فيها، فتكون استقلاليّة لا آليّة؛ لأنّ قاعدة «ما يضمن»وعكسها مثلاً حكم فرعي إلهي منظور فيها على فرض ثبوتها، والبيعوالإجارة وأمثال ذلك من أفراد هذه القاعدة، وكذلك في سائر القواعد، مثل:قاعدة «لا ضرر» و«لا حرج» و«لا غرر»، فإنّها مقيّدات للأحكام، مثل:«كتب عليكُم الصيام» بنحو الحكومة، فلا تكون آلة لمعرفة حال الأحكام.
وأمّا دليل الاستصحاب مثل: «لا تنقض اليقين بالشكّ» وإن كان ظاهرهالاستقلاليّة بالنظر الابتدائي ـ مثل بقاء وجوب صلاة الجمعة، فإنّ المنشأ فيههو الرواية ـ ولكنّه في الواقع حكمٌ آليٌّ غير استقلالي، كما أنّ جعل الحجّيّة
(صفحه 91)
لخبر الواحد حكم كلّي آليٌّ بجعل الشارع وإن كان من طريق بناء العقلاءوإمضاء الشارع، ولكن مع هذا لا يمكن القول بأنّ حجّيّة خبر الواحد أمرٌاستقلالي، بل الغرض من الحجّيّة ترتّب الأثر على خبر زرارة فقط، وهكذا فيدليل الاستصحاب، والأمر هنا سهلٌ.
وأمّا الظاهر من دليل أصالة الحلّيّة ـ مثل: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلمأنّه حرام بعينه» ـ وأصالة الطهارة ـ مثل: «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّهقذر» ـ فإنّهما استقلاليّتان، كقاعدة «كلّ ما يضمن» وعكسها، فانتقضالتعريف بهما.
ولكن قال الإمام ـ دام ظلّه ـ(1): «وأمّا خروج بعض الاُصول العمليّة فلغرو فيه على فرضه، منها: ذكر كلمة ـ يمكن ـ في التعريف، وقال: إنّما قلنا:يمكن أن تقع... لأنّ مناط الاُصوليّة هو الإمكان لا الوقوع الفعلي، فالبحثعن حجّيّة القياس والشهرة والإجماع المنقول، وخبر الواحد عند من لم يقلبحجّيّته ـ مثل السيّد علم الهدى وابن إدريس ـ بحث اُصولي لإمكان وقوعهفي طريق الاستنباط.
ومنها: ذكر كلمة «الكبرى» فيه؛ كي يخرج به مباحث سائر العلوم، مثل:اللّغة والرجال والدراية، كما تقدّم في كلام بعض الأعلام.
ومنها: عدم تقييد الأحكام بالعمليّة فيه؛ لعدم عمليّة جميع الأحكام، مثلالأحكام الوضعيّة وكثير من مباحث الطهارة وغيرها؛ إذ «الدم نجسٌ» ليكون مورد العمل، بل يحتاج إلى حكم آخر، مثل: كلّ نجس يجب الاجتنابعنه.
(صفحه92)
ومنها: ذكر جملة «الوظيفة العمليّة» فيه، كما ذكرها المحقّق الخراساني قدسسره لإدخال مثل الظنّ على الحكومة.
وذكر الإمام ـ دام ظلّه ـ في آخر كلامه نكتة وهي: أنّ المسائل المتداخلةبين هذا العلم وغيره من مباحث الألفاظ، مثل: ما يبحث فيه عن الأوضاعاللّغوية ـ كدلالة طبيعة الأمر على الوجوب والنهي على الحرمة و... ـ يمكنإدخالها فيه وتمييزها عن مسائل سائر العلوم بكونها آلة محضة، فالاُصولييبحث عنها بعنوان الآليّة والوقوع في كبرى الاستنتاج وغيره بعنوانالاستقلاليّة أو جهات اُخر، ويمكن الالتزام بخروجها عنه، وإنّما يبحثالاُصولي عنها لكونها كثيرة الدوران في الفقه، ولذا لم يقنع بالبحث عنها فيمباحث الفقه، والأمر سهل.
أقول: هذا التعريف مع أنّه من أجود التعاريف من حيث الجامعيّة والمانعيّة،ولكن يرد عليه بعض الإشكالات:
منها: عدم شموله لقاعدة الحلّيّة والطهارة، كما أشار إلى دفعه بقوله: «وأمّخروج بعض الاُصول العمليّة فلا غرو فيه على فرضه» ولكن لازم هذا الدفعخروج البراءة الشرعيّة من مسائل علم الاُصول، ولزوم التفكيك بينها وبينالبراءة العقليّة، والالتزام به مشكلٌ جدّاً.
ومنها: ما أورده المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) على صاحب الكفاية، وهو: أنّلازم أخذ هذين الخصوصيّتين في التعريف ترتّب الغرضين على علم الاُصول،فإنّ الواحد لايصدر إلاّ من الواحد، ولا يؤثّر المؤثّران في أثر واحد.
ولكن هذا الإشكال لا يرد عليه؛ لأنّه قائلٌ بأنّ التأثير والتأثّر منوط