(صفحه 95)
لأحدهما أو غير مخالف ممّا لا يكاد يتيسّر للعامي، وكقاعدتي «ما يضمن» و«ما لا يضمن» فإنّ تشخيص مواردهما وتطبيقهما عليها لا يمكن لغير المجتهد.
ولذا قال بعض الأعلام في مقام التمايز: إنّ استفادة الأحكام الشرعيّة منالمسائل الاُصوليّة من باب الاستنباط والتوسيط، ومن القواعد الفقهيّة منباب تطبيق مضامينها بأنفسها على مصاديقها، سواء كانت مختصّة بالشبهاتالموضوعيّة ـ كقاعدة الفراغ واليد والحلّيّة ونحوها ـ أم كانت تعمّ الشبهاتالحكميّة أيضاً ـ كقاعدتي «لا ضرر» و «لا حرج»، بناءً على جريانهما فيموارد الضرر أو الحرج النوعي.
واُورد عليه بأنّ قاعدة الطهارة الجارية في الشبهات الحكميّة ـ مثل إحرازحكم «المشروبات الكحوليّة» منها ـ لا يكون إلاّ باستنباط حكمه منها معأنّها من القواعد الفقهيّة.
وفيه: أوّلاً: أنّا لا نُسلّم أن تكون قاعدة الطهارة من القواعد الفقهيّة، ولفرق بينها وبين قاعدة الحلّيّة في أنّ كليهما من القواعد الاُصوليّة، ولا يجوزالتفكيك بينهما بوجه.
وثانياً: أنّ تطبيق قاعدة الطهارة على شيء مشكوك فيه ـ مثل: المشروباتالكحوليّة ـ لايكون إلاّ كتطبيق قاعدة «ما يضمن» على البيع الفاسد؛ إذالمشروبات الكحوليّة مصداق نوعي لشيء شكّ في طهارته، فهذا الإيراد غيرتامّ.
والرأي الآخر في المسألة: أنّ القواعد الاُصوليّة يستفاد منها في أكثر أبوابالفقه، ولا تختصّ بباب دون باب كالاستصحاب، وأمّا القواعد الفقهيّة فيستفادمنها في باب واحد، مثل: قاعدة «ما يضمن»، فإنّها تجري في باب العقود التي
(صفحه96)
كانت فيها المعاوضة فقط، بخلاف أبواب النكاح والإرث وأمثال ذلك.
ولازم هذا الكلام ـ لو تمّ ـ خروج قاعدتي الطهارة والحلّيّة من المسائلالاُصوليّة، فإنّهما تجريان في مواردهما فقط.
والأولى في التمايز ما يستفاد من ذيل كلام اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه وهو: أنّ للقواعد الاُصوليّة عنوان الآليّة في الاستنباط، بخلاف القواعد الفقهيّةفإنّ لها عنواناً استقلاليّاً وإن وقعت في طريق استنباط الأحكام الكلّيّة وكانتكلتيهما بصورة كلّيّة الجنسيّة.
ولازم هذا الكلام كون الاُصول العمليّة الجارية في الشبهات الموضوعيّةمن المسائل الاُصوليّة، مثل: الاُصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة، كمهو الحقّ في المسألة؛ إذ لا دليل للتفكيك بينهما كما سيأتي في محلّه.
ويبقى على هذا المبنى إشكال واحد، وهو خروج قاعدتي الحلّيّة والطهارةـ أي البراءة الشرعيّة ـ من المسائل الاُصوليّة؛ إذ لا معنى للآليّة فيهما. فتدبّر.
(صفحه 97)
(صفحه98)
في تعريف الوضع
الأمر الثاني
تعريف الوضع وأقسامه
وقبل الورود في مبحث معنى الوضع لابدّ من بيان كيفيّة الارتباط بيناللّفظ والمعنى، فقد نُسب إلى بعض العلماء أنّ منشأ دلالة الألفاظ على المعانيهي المناسبة الذاتيّة بينهما، من دون أن يكون هناك وضع وتعهّد من أحد،ولكنّه لم يذكر دليلاً مستقلاًّ على مدّعاه. نعم، استدلّ لنفي مدخليّة الوضع هنا،ثمّ استفاد منه العلاقة الذاتيّة بين اللّفظ والمعنى.
أقول: هل المراد من العلاقة الذاتيّة هي العلاقة العلّيّة والمعلوليّة أو العلاقةالاقتضائيّة؟ وعلى كلا التقديرين هل المقصود من المعنى واقعيّة المعنى أوانتقال ذهن المستمع إلى المعنى؟ فلو كان المراد علّيّة تامّة وواقعيّة المعنى ـ يعنيكون الألفاظ علّة موجدة لحقيقة المعاني، مثل: كون وجود النار علّة موجدةلحقيقة الحرارة ـ فلا شكّ في بطلانه ثبوتاً وإثباتاً. وهكذا لو كان المراد العلاقةالاقتضائيّة وواقعيّة المعنى، بأن يكون اللّفظ علّة موجدة لحقيقة المعنى ولوبنحو الاقتضاء، فإنّا نرى بالبداهة تحقّق اللفظ بعد تحقّق المعنى؛ إذ التسميةتكون بعد الاختراع وولادة المولود لو التزم بشمول أعلام شخصيّة أيضاً.
أمّا لو كان المراد علّيّة تامّة لانتقال ذهن المستمع من اللفظ إلى المعنى
(صفحه 99)
فبطلانه من أوضح الواضحات؛ لأنّ لازم ذلك تمكّن كلّ شخصٍ من الإحاطةبتمام اللّغات، فضلاً عن لغة واحدة.
وأمّا لو كان المراد من المناسبة الذاتيّة أن يكون سماع اللّفظ مقتضياً لانتقالالذهن إلى معناه ففيه: أنّ ذلك وإن كان بمكان من الإمكان ثبوتاً وقابلللنزاع، إلاّ أنّه لا دليل على تحقّقها كذلك في مرحلة الإثبات، فلا يمكن الالتزامبها.
ويستفاد من كلمات الأعاظم دليلان لإبطال هذا الاحتمال: أحدهما: منكلمات الإمام ـ دام ظلّه ـ ، والآخر: من كلمات بعض الأعلام.
قال الإمام ـ دام ظلّه ـ(1): ثمّ إن دعوى وجود المناسبة الذاتيّة بين الألفاظومعانيها كافّة قبل الوضع ممّا يبطله البرهان المؤيّد بالوجدان؛ إذ الذات البحتالبسيط التي لها عدّة أسماء متخالفة من لغة واحدة أو لغات، إمّا أن يكونبجميعها الربط بها، أو لبعضها دون بعض، أو لا ذا ولا ذاك. فالأوّل يوجبتركّب الذات وخروجها من البساطة المفروضة، والأخيران يهدمان أساسالدعوى.
وقال بعض الأعلام(2): إنّه لا يعقل تحقّق المناسبة المذكورة بين جميعالألفاظ والمعاني؛ لاستلزام ذلك تحقّقها بين لفظ واحد ومعاني متضادّة أومتناقضة، كما إذا كان للفظ واحد معان كذلك، كلفظ «جون» الموضوع للأسودوالأبيض، ولفظ «القرء» للحيض والطهر، وغيرهما، وهو غير معقول.
وأمّا الدليل الذي أقاموه لنفي مدخليّة الوضع فهو: لولا هذه المناسبة بين
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 1: 32 ـ 33.