(الصفحة 121)
يريهم الأعاجيب ، ويسبي قلوب من سمع منطقه ، وهو الذي عبّر عنه النبيّ (صلى الله عليه وآله) في قصّة الرؤيا المتقدّمة بصاحب اليمن (1).
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع لباذام ـ حين أسلم وأسلمت اليمن ـ عمل اليمن كلّها ، وأمّره على جميع مخالفيها ، فلم يزل عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أيّام حياته ، فلم يعزله عنها ولا عن شيء منها ، ولا أشرك معه فيها شريكاً حتّى مات باذام ، فلمّا مات فرّق عملها بين جماعة من أصحابه ، وكان من تلك الجماعة ابن باذام المسمّى بـ «شهر» إلى أن توجّه الأسود نحو صنعاء اليمن ، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهراً سوى الركبان . . . وقد خرج إليه شهر بن باذام الذي كان عاملاً على صنعاء ، وقاتله وقتل ابن باذام ، وغلب الأسود على صنعاء ، وتزوّج امرأة شهر، وهي ابنة عمّ فيروز الذي أسند الأسود أمر الأبناء إليه وإلى داذويه .
وفي هذا الزمان كتب إليهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بكتاب يأمرهم فيه بالقيام على دينهم ، والنهوض في الحرب ، والعمل في الأسود ، إمّا غيلة وإمّا مصادمة . فعزموا على قتله . . . وأخبروا بعزيمتهم امرأته ، ووافقتهم على ذلك ، وهدتهم على كيفيّة الوصول إليه بقولها : هو متحرّز متحرّس ، وليس من القصر شيء إلاّ والحرس محيطون به غير هذا البيت . . . فإذا أمسيتم فانقبوا عليه ، فإنّكم من دون الحرس ، وليس دون قتله شيء ، وقالت: إنّكم ستجدون فيه سراجاً وسلاحاً . . .
قالوا: ففعلنا مثل ما قالت . . . فنقبنا البيت من خارج ، ثمّ دخلنا وفيه سراج تحت جفنة . . . ، وإذا المرأة جالسة . . . فعاجله [ فيروز] فخالطه وهو مثل الجمل ، فأخذ برأسه فقتله فدقّ عنقه ، ووضع ركبته في ظهره فدقّه ، ثمّ قام ليخرج ،
(الصفحة 122)
فأخذت المرأة بثوبه ، وهي ترى أ نّه لم يقتله .
فقالت: أين تَدَعُني؟ قال: أخبر أصحابي بمقتله ، فأتانا فقمنا معه ، فأردنا حزّ رأسه ، فحرّكه الشيطان فاضطرب ، فلم يضبطه ، فقلت: اجلسوا على صدره ، فجلس اثنان على صدره ، وأخذت المرأة بشعره وسمعنا بربرة ، فألجمتهُ بمئلاة ، وأمرَّ الشفرة على حلقه ، فخار كأشدّ خوار ثور سمعته قطّ ، فابتدر الحرس الباب وهم حول المقصورة ، فقالوا : ما هذا ما هذا ؟! فقالت المرأة: النبيّ يوحى إليه فخمد ، ثمّ سمرنا ليلتنا ونحن نأتمر كيف نخبر أشياعنا . . . فاجتمعنا على النداء بشعارنا الذي بيننا وبين أشياعنا ، ثمّ يُنادى بالأذان ، فلمّا طلع الفجر نادى داذويه بالشعار ، ففزع المسلمون والكافرون ، وتجمّع الحرس فأحاطوا بنا ، ثمّ ناديت بالأذان ، وتوافت خيولهم إلى الحرس فناديتهم: أشهد أنّ محمّداً رسول الله وأ نّ عبهلة كذّاب وألقينا إليهم رأسه(1) .
4 ـ طليحة بن خويلد الأسدي
وقد نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في السنة التاسعة مع وفد أسد بن خزيمة ، وأسلم ثمّ رجع وارتدّ ، فادّعى النبوّة ، فوجّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) ضرار بن الأزور إلى عمّاله على بني أسد في ذلك ، وأمرهم بالقيام في ذلك على كلّ من ارتدّ ، فأشجوا طليحة وأخافوه ، ونزل المسلمون بواردات(2) ، ونزل المشركون بسَمِيراء(3) ، فما زال المسلمون في نماء ، والمشركون في نقصان ، حتّى همَّ ضرار بالمسير إلى طليحة ، فلم يبقَ أحد إلاّ أخذه سلماً ، إلاّ ضربة كان ضربها بالجُراز (4) ، فنبا عنه ، فشاعت في الناس ، فأتى
- (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 227 ـ 235 ، حوادث سنة 11 هـ .
(2) واردات: موضع عن يسار طريق مكة ، وأنت قاصدها . معجم البلدان: 5 / 399 ، الرقم 12357 .
(3) سميراء ، بالمدّ: منزل بطريق مكة . معجم البلدان: 3 / 290 ، الرقم 6625 .
(4) الجُراز من السيوف: الماضي النافذ . لسان العرب: 1 / 407 (جرز) .
(الصفحة 123)
المسلمون ـ وهم على ذلك ـ بخبر موت نبيّهم (صلى الله عليه وآله) ، وقال ناس من الناس لتلك الضربة : إنّ السلاح لا يحيك(1) في طليحة ، فما أمسى المسلمون من ذلك اليوم حتّى عرفوا النقصان ، وارفضّ الناس إلى طليحة واستطار أمره .
فلمّا مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام عيينة بن حِصن في غطفان ، فقال: ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد ، وإنّي لمجدّد الحلف الذي كان بيننا في القديم ، ومتابع طليحة ، والله لأن نتّبع نبيّاً من الحليفين أحبّ إلينا من أن نتّبع نبيّاً من قريش ، وقد مات محمّد وبقي طليحة ، فطابقوه على رأيه ، ففعل وفعلوا(2) .
ثمّ إنّ أبا بكر لمّا رجع إليه اُسامة ومن كان معه من الجيش ، أمر خالداً أن يصمد لطليحة وعيينة بن حصن ، وهما على بُزاحة ماء من مياه بني أسد(3) ، وخرج إليه عيينة مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة ، ووقع بينهم قتال شديد ، وطليحة متلفّف في كساء له بفناء بيت له من شَعر ، يتنبّأ لهم والناس يقتتلون ، فلمّا هزّت عيينة الحرب ، وضرس القتال ، كرّ على طليحة فقال: أجاءك جبريل بعد؟ قال: لا ، فرجع فقاتل حتّى إذا ضرس القتال وهزّته الحرب ، كرّ عليه فقال: لا أبا لك ! أجاءك جبريل بعد؟ قال: لا والله ، ثمّ رجع فقاتل حتّى إذا بلغ كرّ عليه ، فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: نعم ، قال: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إنّ لك رحاً كرحاه ، وحديثاً لا تنساه .
قال: يقول عيينة : أظنّ أن قد علم الله أ نّه سيكون حديث لا تنساه ، يابني فزارة هكذا فانصرفوا ، فهذا والله كذّاب ، فانصرفوا وانهزم الناس ، فغشوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعدَّ فرسه عنده ، فلمّا أن غشوه يقولون : ماذا
- (1) يقال: ضربه بالسيف فما حاك فيه وما أحاك إذا لم يعمل فيه ، أساس البلاغة: 150 (حيك) .
(2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 256 ـ 257 .
(3) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 254 .
(الصفحة 124)
تأمرنا ؟ قام فوثب على فرسه وحمل امرأته ثمّ نجا بها ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت ، وينجو بأهله فليفعل ، فلمّا أوقع الله بطليحة وفزارة ما أوقع ، أقبل أولئك يقولون: ندخل فيما خرجنا منه ، ونؤمن بالله ورسوله ، ونسلّم لحكمه في أموالنا وأنفسنا(1) .
وقد أسلم طليحة بعد ذلك حين بلغه أنّ أسداً وغطفان وعامراً قد أسلموا ، ثمّ خرج نحو مكّة معتمراً في إمارة أبي بكر ، ومرّ بجنبات المدينة ، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة ، فقال: ما أصنع به ؟ خلّوا عنه ، فقد هداه الله للإسلام ، ومضى طليحة نحو مكّة فقضى عمرته ، ثمّ أتى عمر إلى البيعة حين استخلف ، فقال له عمر: أنت قاتلُ عُكاشة وثابت ، والله لا أحبّك أبداً ، فقال: ما تهمّ من رجلين أكرمهما الله بيدي ، ولم يهنّئ بأيديهما ، فبايعه عمر ثمّ قال له: يا خدع ما بقي من كهانتك؟ قال: نفخة أو نفختان بالكير ، ثمّ رجع إلى دار قومه ، فأقام بها حتّى خرج إلى العراق(2) .
وبالجملة: فيزعم في زمان ادّعائه للنبوّة أ نّ ملكاً ينزل الوحي عليه واسمه «ذوالنون» أو «جبرائيل» ولكنّه لم يدّع كتاباً لنفسه ، وكان من جملة ما يدّعي الوحي عليه ما حكاه عنه في معجم البلدان من قوله: «إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئاً ، فاذكروا الله قُيّاماً ، فإنّ الرغوة فوق الصريح»(3) .
وما حكاه الطبري عن رجل من بني أسد حين أُتي به خالداً ، وسأله عمّا يقول
- (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 256 .
(2) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 261 ، حوادث سنة 11 هـ ، ويلاحظ شرح حاله مختصر تاريخ دمشق: 11 / 214 ـ 219 ، ترجمة 122 وغيره .
(3) معجم البلدان: 1 / 485 ، الرقم 1851، إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة ، مصطفى صادق الرافعي: 122 ، عن معجم البلدان . الرغوة (مثلثة الراء): زبد اللبن ، رغا اللبن يرغو رغواً وأرغى: صارت له رَغوة . وارتغى فلان: أخذ الرغوة بيده، فأهوى بها إلى فمه. الإفصاح في فقه اللغة، حسين يوسف موسى وعبدالفتاح الصعيدي 1: 457.
(الصفحة 125)
طليحة لهم : «والحمام واليمام ، والصرد الصوّام ، قد صمُن قبلكم بأعوام ، ليبلغنّ ملكُنا العراق والشام»(1) واليمام الحمام البرّي .
5 ـ النضر بن الحارث بن كلدة
هو ، وعقبة بن أبي معيط ، وعاص بن وائل السهمي ; هم الذين بعثتهم قريش إلى نجران ; ليتعلّموا مسائل يسألونها رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وعن المناقب ، عن الكلبي: كان النضر بن الحارث يتّجر فيخرج إلى فارس ، ويشتري أخبار الأعاجم ، فيرويها ويحدِّث بها قريشاً ، ويقول لهم: «إنّ محمّداً عليه الصلاة والسلام يحدّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا اُحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة» فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، فنزلت فيه هذه الآية (وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم وَ يَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَـئـِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (2) .
ونقل أ نّ في أيّام الشعب كان من دخل من العرب مكّة لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ومن ابتاع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان النضر ورفيقاه وأبو جهل يخرجون من مكّة إلى الطرقات التي تدخل مكّة ، فمن رأوه معه ميرة نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذِّروه إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله(3) .
هذا ، ولكنّ الرجل لم يكن له داعية النبوّة ، ولكنّه يزعم إمكان معارضته للقرآن ، وبسبب حماقته لم يعتن به المؤرِّخون والاُدباء ، ولم يقع شيء ممّا أتى به بهذا العنوان مورداً لتوجّه من له أدنى خبرة بالبلاغة والفصاحة ، فضلاً عن غيرهما
- (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري : 3 / 260 ، حوادث سنة 11 هـ ، الكامل في التاريخ: 2 / 205 ـ 206 .
(2) أسباب النزول: 200 ، مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهرآشوب : 1 / 52 . والآية في سورة لقمان 31: 6 .
(3) إعلام الورى: 1 / 125 .