(الصفحة 144)
القارئ، وبين ما هو منقول بخبر الواحد ، واختار هذا القول جماعة من المحقّقين من العامّة، ولا يبعد دعوى كونه هو المشهور بينهم (1) ، وسيأتي(2) نقل بعض كلماتهم في هذا المقام .
وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تقديم مقدّمة تنفع لغير المقام أيضاً; وهي : أ نّ ثبوت القرآن واتّصاف كلام بكونه كذلك ـ أي قرآناً ـ ينحصر طريقه بالتواتر ، كما أطبق عليه المسلمون بجميع نحلهم المختلفة ومذاهبهم المتفرّقة (3) .
بيان ذلك : أ نّه ربما يمكن أن يتوهّم في بادئ النظر أ نّه ما الفرق بين كلام الله الذي ادّعي عدم ثبوته إلاّ بالتواتر ، وبين كلام المعصوم (عليه السلام) نبيّاً كان أو إماماً ، حيث لاينحصر طريق ثبوته به ، بل يثبت بخبر الواحد الجامع لشرائط الاعتبار والحجّية ، فكما أنّ خبر زرارة وحكايته يثبت صدور القول الدالّ على وجوب صلاة الجمعة مثلاً من الإمام (عليه السلام) ، فما المانع من أن يكون خبر الواحد مثبتاً أيضاً لكلام الله تبارك وتعالى ؟ بل ربما يمكن أن يزاد بأنّ ثبوت القرآنيّة لا طريق له إلاّ قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإخباره بأنّه قرآن وكلام إلهيّ .
وعليه يتوجّه سؤال الفرق بين كلام النبيّ المتضمّن لثبوت حكم من الأحكام الشرعيّة ، وبين إخباره بأنّ الآية الفلانية من القرآن ، فكما أنّه يثبت الأوّل بخبر الواحد، كذلك لا مجال للمناقشة في ثبوت الثاني به أيضاً ، وعدم انحصاره بالتواتر ، هذا غاية ما يمكن أن يتوهّم في المقام .
ويدفعه ما عرفت من إطباق المسلمين بأجمعهم على ذلك ، حتّى ذكر السيوطي أ نّ القاضي أبا بكر قال في الانتصار : «ذهب قوم من الفقهاء والمتكلِّمين إلى إثبات
- (1) البيان في تفسير القرآن . أضواء على القرّاء : 123 .
(2) في ص 155 ـ 156 .
(3) البيان في تفسير القران، اُضواء على القرّاء: 123 .
(الصفحة 145)
القرآن حكماً لا علماً بخبر الواحد دون الاستفاضة، وكره ذلك أهل الحقّ وامتنعوامنه»(1).
وهذا الأصل الذي مرجعه إلى عدم ثبوت وصف القرآنيّة إلاّ بالتواتر كان مسلّماً عندهم ، بحيث «بني المالكيّة وغيرهم ممّن قال بإنكار البسملة قولَهم على هذا الأصل ، وقرّروه بأ نّها لم تتواتر في أوائل السور ، وما لم يتواتر فليس بقرآن .
واُجيب من قبلنا بمنع كونها لم تتواتر . . . ويكفي في تواترها إثباتها في مصاحف الصحابة ، فمن بعدهم بخطّ المصحف ، مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه ، كأسماء السور ، وآمين ، والأعشار ، فلو لم تكن قرآناً لما استجازوا إثباتها بخطّه من غير تمييز ; لأنّ ذلك يُحمل على اعتقادها ، فيكونون مغرّرين بالمسلمين ، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً ، وهذا ممّا لا يجوز اعتقاده في الصحابة» (2) .
ونقلوا في إثبات كون البسملة قرآناً روايات كثيرة : أخرجها أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم ، كلّها تدلّ على كونها من الآيات القرآنيّة ، بل في بعضها : «أعظم آية من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم»(3) . وفي بعضها عن ابن عبّاس قال : «أغفل الناس آية من كتاب الله وما اُنزلت على أحد سوى النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلاّ أن يكون سليمان بن داود : بسم الله الرحمن الرحيم»(4) . وفي بعضها : «إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمين لا يعلمون فصل السورة وانقضاءها حتّى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم ، فإذا نزلت علموا أنّ السورة قد انقضت»(5) ،(6) .
- (1 ، 2) الإتقان في علوم القرآن : 1 / 267 ، النوع 22 ـ 27 ، التنبيه الأوّل .
(3) السنن الكبرى للبيهقي: 2 / 348 ح2465 عن ابن عبّاس.
(4) شعب الإيمان: 4 / 20 ح2124 .
(5) سنن أبي داود: 128 ب125 ح788 . المستدرك على الصحيحين: 1 / 355 ـ 356 ح844 ـ 846 ، شعب الإيمان: 4 / 21 ـ 23 ح2125 ـ 2129 عن ابن عبّاس .
(6) الإتقان فى علوم القرآن: 1/268 ـ 269 .
(الصفحة 146)
ولأجل أن يسلم هذا الأصل قال السيوطي في الإتقان : «ومن المشكل على هذا الأصل ما ذكره الإمام فخر الدين ، قال : نُقل في بعض الكتب القديمة: أ نّ ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوّذتين من القرآن . وهو في غاية الصعوبة ; لأنّا إن قلنا : إنّ النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بكون سورة الفاتحة من القرآن ، فإنكاره يوجب الكفر ، وإن قلنا : لم يكن حاصلاً في ذلك الزمان ، فيلزم أنّ القرآن ليس بمتواتر في الأصل . قال : وإلاّ غلب على الظنّ أنّ نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل ، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة»(1) .
ثمّ نقل السيوطي أقوالاً مختلفة في هذه الحكاية راجعة إلى تكذيبها ، وأ نّه موضوع على ابن مسعود ، أو إلى بطلان ما ذكره وعدم صحّته بوجه ، أو إلى تأويله بحيث لا ينافي كونها من القرآن بنحو التواتر (2) .
وبالجملة : ثبوت هذا الأصل بينهم ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، وهو يكفي في مقام الجواب عن ذلك التوهّم ، والفرق بين القرآن وغيره ، مضافاً إلى أنّه لا محيص عن انحصار ثبوت القرآن بالتواتر ; وذلك لتوفّر الدواعي على نقله ; ضرورة أنّه من أوّل نزوله لم ينزل بعنوان بيان الأحكام فقط ، بل بعنوان المعجزة الخالدة ، الذي يعجز الإنس والجنّ إلى يوم القيامة عن الإتيان بمثل سورة منه ، وقد مرّ(3) في بحث الإعجاز دلالة القرآن بنفسه على كونه معجزة خالدة ، وفي مثل ذلك تتوفّر الدواعي على نقله وضبطه ; ليحفظ ويبقى ببقائه الدين الحنيف الذي هو أكمل الأديان ، وأتمّ الشرائع .
وعليه: فما نقل بطريق الآحاد لا يكون قرآناً قطعاً ، وإلاّ لكانت الدواعي على
- (1) التفسير الكبير للفخر الرازي: 1 / 190 .
(2) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 270 ـ 272 .
(3) في ص 38 ـ 40 .
(الصفحة 147)
نقله متوفّرة ، وبذلك يخرج عن الآحاد ، فالمشكوك كونه قرآناً يقطع بعدم كونه منه ، وخروجه عن هذا الوصف الشريف ، نظير ما ذكروه في الاُصول من أنّ الشكّ في حجّية أمارة مساوق للقطع بعدم الحجّية ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّة عليه (1) .
والمقام نظير ما إذا أخبر واحد بدخول ملك عظيم في البلد ، مع كون دخوله فيه ممّا لا يخفى على أكثر أهله ; لاستلزامه عادة اطّلاعهم وتهيّئهم للاستقبال ونحوه من سائر الاُمور الملازمة لدخوله كذلك ، ففي مثل ذلك يكون إخبار واحد فقط موجباً للقطع بكذبه أو اشتباهه ; لاستحالة اطّلاعه فقط عادةً ، فكيف يكون الكتاب الذي هو الأساس للدين الإسلامي ، ولابدّ من أن يرجع إليه إلى يوم القيامة كلّ من يريد الأخذ بالعقائد الصحيحة ، والملكات الفاضلة ، والأعمال الصالحة ، والدساتير العالية ، والاطّلاع على القصص الماضية ، وحالات الاُمم السالفة ، وغير ذلك من الشؤون والجهات التي يشتمل عليها الكتاب العزيز ، ممّا لايكفي في ثبوته النقل بخبر الواحد ؟
وليس ذلك لأجل مجرّد كونه كلام الله تبارك وتعالى ، بل لأجل كونه كلام الله المتضمّن للتحدّي والإعجاز ، والهداية والإرشاد ، وإخراج جميع الناس من الظلمات إلى النور إلى يوم القيامة ، وإلاّ فمجرّد كلام الله تعالى إذا لم يكن متضمّناً لما ذكر ، كالحديث القدسي لا يلزم أن يكون متواتراً .
فقد ظهر الفرق بين مثل الكتاب الذي ليس كمثله كتاب ، وبين كلام المعصوم (عليه السلام) ـ نبيّاً كان أو إماماً ـ الذي لا ينحصر طريق ثبوته بالتواتر ; فإنّ دليل حجّية خبر الواحد الحاكي لكلام المعصوم (عليه السلام) إنّما هو ناظر إلى لزوم ترتيب الآثار
- (1) كفاية الاُصول: 279 ـ 280 ، مجمع الأفكار: 2 / 169 وج4 / 443 ، محاضرات في اُصول الفقه: 3/266 ، 276 ، مباحث الاُصول: 1 / 568 و ج2 / 71 ، 78 ، سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 187 ـ 192 .
(الصفحة 148)
عليه ، والأخذ به في مقام العمل ، ولا يلزم فيه الاعتقاد بصدوره عنه ، وأ نّه كلامه ; لأنّ الغرض مجرّد تطبيق العمل في الخارج عليه ، لا صدوره وإسناده إليه ، وهذا بخلاف كلام الله المنزل المقرون بالتحدّي والإعجاز ، ويكون هو الأساس للدين والأصل للهداية ، والميزان للخروج من ظلمات الجهل والانحراف إلى عالم نور العلم والمعرفة ; فإنّه لابدّ في مثل ذلك من وضوح كونه كلام الله ، وظهور صدوره عنه تبارك وتعالى .
أضف إلى ذلك أنّ القرآن ـ كما مرّ(1) في بحث الإعجاز مفصّلاً ـ نزل في محيط البلاغة والفصاحة ، وكان واقعاً في المرتبة التي عجز البلغاء عن النيل إليها ، والفصحاء عن الوصول إلى مثلها ، ولأجله خضع دونه البعض ، ونسب البعض الآخر إليه السحر ، ومن هذه الجهة كان موضعاً لعناية المتخصّصين في هذا الفنّ ، الذي كان هو السبب الوحيد عندهم للفضيلة والشرف ، وبه يقع التفاخر بينهم .
ومن الواضح أنّه مع هذه الموقعيّة يكون كلّ جزء من أجزائه ملحوظاً لهم ، منظوراً عندهم ، من دون فرق في ذلك بين من آمن به ، ومن لم يؤمن ، فكيف يمكن أن ينحصر نقل مثل ذلك بخبر الواحد ، كما هو غير خفيّ على من كان بعيداً عن التعصّب والعناد ، متّبعاً لحكم العقل والنظر السَّداد ؟!
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا : أنّ اتّصاف نقل القرآن بالتواتر ، وانحصاره به إنّما هو على سبيل الوجوب واللزوم ، بمعنى أنّ تواتره لا يكون مجرّد أمر واقع في الخارج ، من دون أن يكون وقوعه لازماً ، والاتّصاف بذلك واجباً ، بل الظاهر لزوم اتّصافه به ، وكون وقوعه في الخارج إنّما هو لأجل لزوم وقوعه فيه كذلك ; لعين ما تقدّم من أصل الدليل على تواتره .