(الصفحة 15)
وبعبارة اُخرى : إنّما يكون اتّصافها بالإعجاز عند الغير لا عند هذا الشخص .
الرابع: كون ذلك الأمر خارقاً للعادة الطبيعيّة ، وخارجاً عن حدود القدرة البشريّة ، وفيه إشارة إلى أنّ المعجزة تستحيل أن تكون خارقةً للقواعد العقليّة ، وهو كذلك; ضرورة أنّ القواعد العقليّة غير قابلة للانخرام، كيف ؟ وإلاّ لا يحصل لنا القطع بشيء من النتائج ، ولا بحقيقة من الحقائق ; فإنّ حصول القطع من القياس المركّب من الصغرى والكبرى ـ بما هو نتيجته ـ إنّما يتفرّع على ثبوت القاعدة العقليّة الراجعة إلى امتناع اجتماع النقيضين ; ضرورة أنّ حصول العلم بحدوث العالم مثلاً من القياس المركّب من: «العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث» إنّما يتوقّف على استحالة اتّصاف العالم بوجود الحدوث وعدمه معاً ; ضرورة أنّه بدونها لا يحصل القطع بالحدوث في مقابل العدم ، كما هو غير خفيّ .
وكذلك العلم بوجود البارئ ـ جلّت عظمته ـ من طريق البراهين الساطعة القاطعة الدالّة على وجوده ، إنّما يتوقّف على استحالة كون شيء متّصفاً بالوجود والعدم معاً في آن واحد ، وامتناع عروض كلا الأمرين في زمان فارد ، بداهة أنّه بدونها لا مجال لحصول القطع بالوجود في مقابل العدم ، كما هو ظاهر .
فالقواعد العقليّة خصوصاً قاعدة امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، التي إليها ترجع سائر القواعد ، وعليها يبتني جميع العلوم والمعارف ، بعيدة عن عالم الانخراق والانخرام بمراحل لا يمكن طيّها أصلاً .
ويدلّ على ما ذكرنا من استحالة كون المعجزة خارقةً للقواعد العقليّة في خصوص المقام: أنّ الغرض من الإتيان بالمعجزة إثبات دعوى المدّعي واستكشاف صدقه في ثبوت المنصب الإلهي ، فإذا فرضنا إمكان تصرّف المعجزة في القواعد العقليّة وانخرامها بها ، لا يحصل الغرض المقصود منها ; فإنّ دلالتها على صدق مدّعي النبوّة مثلاً إنّما تتمّ على تقدير استحالة اتّصاف شخص واحد في زمان
(الصفحة 16)
واحد بالنبوّة وجوداً وعدماً ، وإلاّ فلا مانع من ثبوت هذا الاتّصاف ، وتحقّق كلا الأمرين ، فلا يترتّب عليها الغاية من الإتيان بها ، والغرض المقصود في البين ، كما لا يخفى .
وعلى ما ذكرنا فالمعجزة ما يكون خارقاً للعادة الطبيعيّة ، التي يكون البشر عاجزاً عن التخلّف عنها ، إلاّ أن يكون مرتبطاً بمنع القدرة المطلقة المتعلّقة بكلّ شيء .
ومنه يظهر الفرق بين السحر وبين المعجزة ، وكذا بينها وبين ما يتحقّق من المرتاضين ، الذين حصلت لهم القدرة لأجل الرياضة ـ على اختلاف أنواعها وتشعّب صورها ـ على الإتيان بما يعجز عنه من لم تحصل له هذه المقدّمات ; فإنّ ابتناء مثل ذلك على قواعد علميّة أو أعمال رياضيّة توجب خروجه عن دائرة المعجزة ، التي ليس لها ظهير إلاّ القدرة الكاملة التامّة الإلهيّة ، وهكذا الإبداعات الصناعيّة ، والاختراعات المتنوّعة ، والكشفيّات المتعدّدة من الطبّية وغيرها من الحوادث المختلفة ، العاجزة عنها الطبيعة البشريّة ، قبل تحصيل القواعد العلميّة التي تترتّب عليها هذه النتائج ، وإن كان الترتّب أمراً خفيّاً يحتاج إلى الدقّة والاستنباط; فإنّ جميع ذلك ليس ممّا يعجز عنه البشر ، ولا خارقاً لناموس الطبيعة أصلاً .
نعم ، يبقى الكلام بعد وضوح الفرق بين المعجزة وغيرها بحسب الواقع ومقام الثبوت ; فإنّ الاُولى خارجة عن القدرة البشريّة بشؤونها المختلفة ، والثانية تتوقّف على مبادئ ومقدّمات يقدر على الإتيان بها كلّ من يحصل له العلم بها والاطّلاع عليها ـ في تشخيص المعجزة عن غيرها ـ بحسب مقام الإثبات ، وفي الحقيقة في طريق تعيين المعجزة عمّا يشابهها صورة ، وأنّه هل هنا أمارة مميّزة وعلامة مشخّصة أم لا؟
والظاهر أنّ الأمارة التي يمكن أن تكون معيّنة عبارة عن أنّ المعجزة لا تكون
(الصفحة 17)
محدودة من جهة الزمان والمكان ، وكذا من سائر الجهات كالآلات ونحوها ، حيث إنّ أصلها القدرة الأزليّة العامّة غير المحدودة بشيء ، وهذا بخلاف مثل السّحر والأعمال التي هي نتائج الرياضات ; فإنّها لا محالة محدودة من جهة من الجهات ولا يمكن التعدّي عن تلك الجهة ، فالرياضة التي نتيجتها التصرّف في المتحرّك وإمكانه مثلاً لا يمكن أن تتحقّق من غير طريق تلك الآلة ، وهكذا ، فالمحدوديّة علامة عدم الإعجاز .
مضافاً إلى أنّ الأغراض الباعثة على الإتيان مختلفة ، بداهة أنّ النبيّ الواقعي لا يكون له غرض إلاّ ما يتعلّق بالاُمور المعنويّة ، والجهات النفسانيّة ، والسير بالناس في المسير الكمالي المتكفّل لسعادتهم .
وأمّا النبيّ الكاذب فلا تكون استفادته من المعجزة إلاّ الجهات الراجعة إلى شخصه من الاُمور المادّية ، كالشهرة والجاه والمال وأشباهها ، فكيفيّة الاستفادة من المعجزة من علائم كونها معجزة، أم لا ، كما هو واضح .
الخامس: أن يكون الإتيان بذلك الأمر مقروناً بالتحدّي الراجع إلى دعوة الناس إلى الإتيان بمثله إن استطاعوا ، ليعلم بذلك:
أوّلاً: غرض المدّعي الآتي بالمعجزة ، وأنّ الغاية المقصودة من الإتيان بها تعجيز الناس، وإثبات عجزهم من طريق لايمكنهم التخلّص عنه،ولاالإشكال عليه.
وثانياً: أنّ عدم الإتيان بمثله لم يكن لأجل عدم تحدّيهم للإتيان ، وعدم ورودهم في هذا الوادي ، وإلاّ فكان من الممكن الإتيان بمثله ; ضرورة أنّ التحدّي الراجع إلى تعجيز الناس الذي يترتّب عليه أحكام وآثار عظيمة من لزوم الإطاعة للمدّعي ، وتصديق ما يدّعيه ، ويأتي به من القوانين والحدود ، والتسليم في مقابلها يوجب ـ بحسب الطبع البشري والجبلّة الإنسانيّة ـ تحريكهم إلى الإتيان بمثله لئلاّ يسجّل عجزهم ويثبت تصوّرهم .
(الصفحة 18)
وعليه: فالعجز عقيب التحدّي لا ينطبق عليه عنوان غير نفس هذا العنوان ، ولا يقبل محملاً غير ذلك ، ولا يمكن أن يتلبّس بلباس آخر ، ولا تعقل موازاته بالأغراض الفاسدة ، والعناد والتعصّب القبيح .
السادس: أن يكون سالماً عن المعارضة ; ضرورة أنّه مع الابتلاء بالمعارضة بالمثل ، لا وجه لدلالته على صدق المدّعى ولزوم التصديق ; لأنّه إن كان المعارض ـ بالكسر ـ قد حصّل القدرة من طريق السحر والرياضة مثلاً، فذلك كاشف عن كون المعارض ـ بالفتح ـ قد أتى بما هو خارق للعادة والناموس الطبيعي ـ وقد مرّ اعتباره في تحقّق الإعجاز الاصطلاحي بلا ارتياب ـ وإن كان المعارض قد أقدره الله ـ تبارك وتعالى ـ على ذلك لإبطال دعوى المدّعي، فلا يبقى حينئذ وجه لدلالة معجزه على صدقه أصلاً .
وبالجملة: مع الابتلاء بالمعارضة يعلم كذب المدّعي في دعوى النبوّة ، إمّا لأجل عدم كون معجزته خارقةً للعادة الطبيعيّة ، وإمّا لأجل كون الفرض من أقدار المعارض إبطال دعواه ; إذ لا يتصوّر غير هذين الفرضين فرض ثالث أصلاً ، كما لا يخفى .
السابع: لزوم التطبيق ; بمعنى أنّ الأمر الخارق للعادة ، ـ الذي يأتي به المدّعي للنبوّة والسفارة ـ وقوعه بيده بمقتضى إرادته وغرضه ; بمعنى تطابق قوله وعمله ، فإذا تخالف لا يتحقّق الإعجاز بحسب الاصطلاح ، كما حكي أنّ مسيلمة الكذّاب تفل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها ، فغار جميع ما فيها من الماء ، وأ نّه أمرَّ يده على رؤوس صبيان بني حنيفة وحنّكهم ، فأصاب القرع كلّ صبيّ مسح رأسه ، ولثغ كلّ صبيّ حنّكه (1) . وإن شئت فسمِّ هذه المعجزة الدالّة على الكذب ; لأنّه
- (1) تاريخ الاُمم والملوك للطبري: 3 / 285 ، الكامل لابن الأثير: 2 / 216 .
(الصفحة 19)
أجرى الله تعالى هذا الأمر بيده لإبطال دعواه ، وإثبات كذبه ، وهداية الناس إلى ذلك .
بقي الكلام في حقيقة المعجزة في أمر ; وهو: أ نّ الإعجاز هل هو تصرّف في قانون الأسباب والمسبّبات العاديّة ، وراجع إلى تخصيص مثل: «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بالأسباب»(1)، أو أ نّه لا يرجع إلى التصرّف في ذلك القانون ، ولا يستلزم التخصيص في مثل تلك العبارة الآبية بظاهرها عن التخصيص ، بل التصرّف إنّما هو من جهة الزمان ، وإلغاء التدريج والتدرّج بحسبه ؟ فمرجع الإعجاز في مثل جعل الشجر اليابس خضراً ـ في الفصل الذي لا يقع فيه هذا التبدّل والتغيّر عادة من الفصول الأربعة السنويّة ـ إلى تحصيل ما يحتاج إليه الشجر في الاخضرار من حرارة الشمس والهواء والماء ، وما يستفيده من الأرض في آن واحد ، لا إلى استغنائه عن ذلك رأساً؟
الظاهر هو الوجه الثاني ، وإن كان لا يترتّب على هذا البحث ثمرة كثيرة مهمّة .
إنكار المعجزة
نعم ، يظهر ممّا استظهرناه الجواب عمّا استند إليه المادّيون في دعواهم إنكار المعجزة ; من أنّ المعجزة الراجعة إلى الإتيان بما يخرق العادة يوجب انخرام أصل «العليّة والمعلوليّة» والخدشة في هذه القاعدة المسلّمة في العلوم الطبيعيّة ، وفي العلم الأعلى والفلسفة ; فإنّ ابتناءَهما على قانون العلّية ممّا لا يكاد يخفى ، ولا يمكن للعقل أيضاً إنكاره ; فإنّ افتقار الممكن ـ في مقابل الواجب والممتنع ـ إلى العلّة بديهيّ ; لأنّه حيث لا يكون في ذاته اقتضاء الوجود والعدم ، بل يكون متساوي النسبة
- (1) بصائر الدرجات: 6، الجزء الأوّل ب2 ح1و2 عن أبي عبدالله(عليه السلام) ، وعنه بحار الأنوار: 2 / 90 ح14 و15 ، ورواه في الكافي: 1/183 ، كتاب الحجّة ، باب معرفة الإمام(عليه السلام) والردّ إليه ح 7 ، وفيه: إلاّ بأسباب .