(الصفحة 163)المقام الثاني: حجّية القراءات وجواز الاستدلال بها على الحكم الشرعي وعدمها
فنقول : حكي عن جماعة حجّية هذه القراءات وجواز استناد الفقيه إليها في مقام الاستنباط ، فيمكن الاستدلال على حرمة وطء الحائض بعد نقائها من الحيض وقبل أن تغتسل بقوله ـ تعالى ـ : (وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (1) على قراءة الكوفيّين ـ غير حفص ـ بالتشديد (2) ، وظاهر تلك الجماعة حجّيتها على فرض عدم التواتر أيضاً ; بمعنى أنّ الحجّية على فرض التواتر ممّا لا ريب فيه عندهم أصلاً ، فيجوز الاستدلال بكلّ واحدة منها حسب اختيار الفقيه وإرادته ، وعلى فرض عدم التواتر أيضاً يجوز الاستدلال بها ، فلا فرق بين القولين من هذه الجهة . غاية الأمر أنّ الجواز على الفرض الأوّل أوضح .
والدليل على الحجّية ـ على فرض التواتر ـ هو القطع بأنّ كلاًّ من القراءات قرآن منزل من عند الله ، فهي بمنزلة الآيات المختلفة النازلة من عنده تعالى ، وعلى فرض عدم التواتر يمكن أن يكون هو شمول الأدلّة القطعيّة الدالّة على حجّية خبر الواحد الجامع للشرائط لهذه القراءات أيضاً ; فإنّها من مصاديق خبر الواحد على هذا التقدير ، فتشملها أدلّة حجّيته .
والجواب : أمّا على التقدير الأوّل : أ نّ التواتر وإن كان موجباً للقطع بذلك ـ على فرض كون المراد به هو التواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ إلاّ أ نّه إن كان المراد بالحجّية هي الحجّية في نفسها ; بمعنى كون كلّ واحدة من القراءات صالحة للاستدلال بها ، مع قطع النظر عن مقام المعارضة ، فلا مانع من الالتزام بها على هذا
- (1) سورة البقرة 2: 222 .
(2) البيان في تفسير القرآن : 163 .
(الصفحة 164)
الفرض ، إلاّ أنّ الظاهر عدم كونها بهذا المعنى مراداً للقائل بالحجّية ، وجواز الاستدلال .
وإن كان المراد بها هي الحجّية المطلقة الراجعة إلى جواز الاستدلال بها ، ولو مع فرض المعارضة والاختلاف ، فيرد عليه: عدم اقتضاء التواتر لذلك ; فإنّ مقتضاه القطع بها من حيث السند والصدور ، وأ مّا من حيث الدلالة فيقع بينهما التعارض ، ولا مجال للرجوع إلى أدلّة العلاج الدالّة على الترجيح أو التخيير ; فإنّ موردها الأخبار التي يكون سندها ظنّياً ، ولا تعمّ مثل الآيات والقراءات التي يكون صدورها قطعيّاً على ما هو المفروض ، فاللاّزم مع فرض التعارض للعلم الإجمالي بعدم كون الجميع مراداً في الواقع ، الرجوع إلى الأظهر لو كان في البين ، وكان قرينة عرفيّة على التصرّف في غيره الظاهر ، ومع عدمه يكون مقتضى القاعدة التساقط والرجوع إلى دليل آخر .
وأ مّا على التقدير الثاني; أي تقدير عدم التواتر :
أوّلاً : أنّ شمول أدلّة حجّية خبرالواحد للقراءات غير ظاهر; لعدم ثبوت كونها رواية، بل يحتمل أن تكون اجتهادات من القرّاء واستنباطات منهم، وقدصرّح بعض الأعلام بذلك فيما تقدّم(1) ، ولا محيص عن الالتزام بذلك ولو بالإضافة إلى بعضها ، والدليل عليه إقامة الدليل على تعيّنها ، ورجحانها على الاُخرى ، كما لايخفى .
وثانياً : أنّه على تقدير ثبوت كونها رواية لم تثبت وثاقتهم ، ولم يحرز كونها واجدة لشرائط الحجّية ، كما يظهر من التتبّع في أحوالهم وملاحظة تراجمهم .
وثالثاً : أ نّه على تقدير كونها رواية جامعة لشرائط الحجّية ، إلاّ أ نّه مع العلم الإجمالي بعدم صدور بعضها عن النبي (صلى الله عليه وآله) يقع بينها التعارض ، ولابدّ من إعمال
(الصفحة 165)
قواعد التعارض من الترجيح أو التخيير ، فلا يبقى مجال لدعوى الحجّية وجواز الاستدلال بكلّ واحدة منها ، كما هو ظاهر .
المقام الثالث: جواز القراءة بكلّ واحدة من القراءات وعدمه
فنقول : المشهور بين علماء الفريقين جواز القراءة بكلّ واحدة من القراءات السبع في الصلاة ، فضلاً عن غيرها ، وقد ادّعى الإجماع على ذلك جماعة منهم ، وحكي عن بعضهم تجويز القراءة بكلّ واحدة من العشر (1) ، وقد عرفت تصريح ابن الجزري في عبارته المتقدّمة : «بأنّ كلّ قراءة وافقت العربيّة ولو بوجه ، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ، وصحّ سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ، ولا يحلّ إنكارها»(2) ومقتضى ذلك جواز القراءة بكلّ قراءة جامعة لهذه الأركان الثلاثة ، ولو لم تكن من السبعة أو العشرة .
والدليل على الجواز في أصل المقام ـ على فرض تواتر القراءات ـ واضح لاخفاء فيه .
وأ مّا على تقدير العدم كما هو المشهور والمنصور (3)، فهو أ نّه لا ريب في أنّ هذه القراءات كانت معروفة في زمان الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، ولم ينقل إلينا أ نّهم ردعوا القائلين بإمامتهم عن القراءة بها ، أو عن بعضها ، ولو ثبت لكان واصلاً إلينا بالتواتر ; لتوفّر الدواعي على نقله ، مع أنّه لم ينقل بالآحاد أيضاً ، فتقريرهم (عليهم السلام) شيعتهم على ذلك ـ كما هو المقطوع ـ دليل على جواز القراءة بكلّ واحدة منها .
- (1) البيان في تفسير القرآن : 166 .
(2) تقدّم في ص 155 .
(3) فى ص 143 ـ 144 و 152 ـ 162 .
(الصفحة 166)
بل ورد عنهم (عليهم السلام) إمضاء هذه القراءات بقولهم : «اِقرأ كما يقرأ الناس»(1)وبقولهم : «إقرؤوا كما علّمتم»(2)، ومثلهما من التعابير .
وقد تقدّم من المحقّق القمّي(قدس سره) في كتاب القوانين تفسير تواتر القراءات بتجويز الأ ئـمّة (عليهم السلام) القراءة على طبقها ، ودعوى القطع بذلك وثبوت ذلك منهم (عليهم السلام) بنحو التواتر والإذعان به (3) .
نعم ، مقتضى ذلك الاقتصار على خصوص القراءات المعروفة في زمانهم (عليهم السلام) ، من دون اختصاص بالسبع أو العشر ، ومن دون عموميّة لجميعها ، بل خصوص ما هو المعروف منهما ، أو من غيرهما ، كما لا يخفى .
ولولا الدليل على الجواز لكان مقتضى القاعدة عدم جواز الاقتصار على قراءة واحدة في الصلاة ; لأنّ الواجب فيها هي قراءة القرآن .
وقد عرفت(4) عدم ثبوته إلاّ بالتواتر ، فلا تكفي قراءة ما لم يحرز كونه قرآناً ، بل مقتضى قاعدة الاحتياط الثابتة بحكم العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ والبراءة اليقينيّة ، تكرار الصلاة حسب اختلاف القراءات ، أو تكرار مورد الاختلاف في الصلاة الواحدة ، فيجمع بين قراءة «مالك» و«ملك» ، أو يأتي بصلاتين . وهكذا الحال بالإضافة إلى السورة الواجبة بعد قراءة الفاتحة وحكايتها ، إلاّ أن يختار سورة لم يكن فيها الاختلاف في القراءة أصلاً .
هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بالقراءات .
- (1) الكافي: 2 / 633، ح 23 عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، وعنه وسائل الشيعة: 6 / 163، كتاب الصلاة، أبواب القراءة في الصلاة ب74 ح1، وفي بحار الأنوار: 92 / 88 ح28 عن بصائر الدرجات: 193 ح3.
(2) الكافي: 2 / 631 ح 15 عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، وعنه وسائل الشيعة: 6 / 163 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب74 ح3 .
(3) تقدّم في ص 157 .
(4) في ص144 ـ 150 .
(الصفحة 167)
أُصول التفسير
* : ظواهر الكتاب .
* : قول المعصوم (عليه السلام) .
* : حكم العقل .