(الصفحة 187)
كلتا الصورتين .
توضيح ذلك : أ نّه تارةً: يستند في باب حجّية خبر الواحد إلى بناء العقلاء واستمرار سيرتهم على ذلك ، كما هو العمدة من أدلّة الحجّية على ما حقّق وثبت في محلّه(1) ، واُخرى: إلى الأدلّة الشرعيّة التعبّدية من الكتاب والسنّة والإجماع ، لو فرض دلالتها على بيان حكم تعبّديّ تأسيسيّ .
فعلى الأوّل: ـ أي بناء العقلاء ـ لابدّ من ملاحظة أ نّ اعتماد العقلاء على خبر الواحد والاستناد إليه ، هل يكون في خصوص مورد يترتّب عليه أثر عمليّ ، أو أ نّهم يتعاملون معه معاملة القطع في جميع ما يترتّب عليه؟
الظاهر هو الثاني ، فكما أنّهم إذا قطعوا بمجيء زيد من السفر يصحّ الإخبار به عندهم ، وإن لم يكن موضوعاً لأثر عمليّ ولم يترتّب على مجيئه ما يتعلّق بهم في مقام العمل ; لعدم الفرق من هذه الجهة بين ثبوت المجيء وعدمه ، فكذلك إذا أخبرهم ثقة واحد بمجيء زيد يصحّ الإخبار به عندهم ، استناداً إلى خبر الواحد ، ويجري هذا الأمر في جميع الأمارات التي استمرّت سيرة العقلاء عليها ; فإنّ اليد مثلاً أمارة لديهم على ملكيّة صاحبها ، فيحكمون معها بوجودها ، كما إذا كانوا قاطعين بها ، فكما أنّهم يرتّبون آثار الملكيّة في مقام العمل فيشترون منه مثلاً ، فكذلك يخبرون بالملكيّة استناداً إلى اليد .
وبالجملة : إذا كان المستند في باب حجّية خبر الواحد هو بناء العقلاء ، لا يبقى فرق معه بين ما إذا أخبر عادل بأنّ المعصوم (عليه السلام) فسّر الآية الفلانية بما هو خلاف ظاهرها ، وبين نفس ظواهر الكتاب التي لا دليل على اعتبارها إلاّ بناء العقلاء على العمل بظواهر الكلمات ، وتشخيص المرادات من طريق الألفاظ والمكتوبات ، فكما
- (1) سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 576 ـ 589 .
(الصفحة 188)
أنّه لا مجال لدعوى اختصاص حجّية الظواهر من باب بناء العقلاء ، بما إذا كان الظاهر مشتملاً على إفادة حكم من الأحكام العمليّة ، بل الظواهر مطلقاً حجّة .
فكذلك لا ينبغي توهّم اختصاص اعتبار الرواية الحاكية لقول المعصوم (عليه السلام) في باب التفسير ، بما إذا كان في مقام بيان المراد من آية متعلّقة بحكم من الأحكام العمليّة ، بل الظاهر أ نّه لا فرق من هذه الجهة بين هذه الصورة ، وبين ما إذا كان في مقام بيان المراد من آية غير مرتبطة بالأحكام أصلاً . وعليه: فلا خفاء في حجّية الرواية المعتبرة في باب التفسير مطلقاً .
وعلى الثاني: الذي يكون المستند هي الأدلّة الشرعيّة التعبّديّة ، فالظاهر أيضاً عدم الاختصاص ; فإنّه ليس في شيء منها عنوان «الحجّية» وما يشابهه حتّى يفسّر بالمنجّزيّة والمعذّريّة الثابتتين في باب التكاليف المتعلّقة بالعمل ; فإنّ مثل مفهوم آية النبأ على تقدير ثبوته ودلالته على حجّية خبر الواحد إذا كان المخبر عادلاً ، يكون مرجعه إلى جواز الاستناد إليه ، وعدم لزوم التبيّن عن قوله ، والتفحّص عن صدقه ، وليس فيه ما يختصّ بباب الأعمال .
نعم ، لا محيص عن الالتزام بالاختصاص بما إذا كان له ارتباط بالشارع ، وإضافة إليه بما أ نّه شارع ، ولكن ذلك لا يستلزم خروج المقام ; فإنّ الإسناد إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ وتشخيص مراده من الكتاب العزيز ، ولو لم يكن متعلّقاً بآية الحكم ، بل بالمواعظ والنصائح أو القصص والحكايات أو غيرهما من الشؤون التي يدلّ عليها الكتاب أمر يرتبط بالشارع لا محالة ، فيجوز الإسناد إلى الله ـ تعالى ـ بأنّه أخبر بعدم كون عيسى (عليه السلام) مقتولاً ، ولا مصلوباً وإن لم يكن لهذا الخبر ارتباط بباب التكاليف أصلاً .
وبالجملة : لا مجال للإشكال في حجّية خبر الواحد في باب التفسير مطلقاً .
نعم ، قد وقع النزاع في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ـ بعد
(الصفحة 189)
الاتّفاق على عدم جواز نسخه به ـ على أقوال ، وحيث إنّ المسألة محرّرة في الاُصول(1) لا حاجة إلى التعرّض لها هنا ، مضافاً إلى أنّ القائل بالعدم فريق من علماء السنّة على اختلاف بينهم أيضاً (2) ، وأدلّتهم على ذلك واضحة البطلان ، فراجع .
الأمر الثالث : حكم العقل
لا إشكال في أنّ حكم العقل القطعي وإدراكه الجزمي من الاُمور التي هي اُصول التفسير ، ويبتني هو عليها ، فإذا حكم العقل كذلك ، بخلاف ظاهر الكتاب في مورد لا محيص عن الالتزام به ، وعدم الأخذ بذلك الظاهر ; ضرورة أنّ أساس حجّية الكتاب ، وكونه معجزة كاشفة عن صدق الآتي به ، إنّما هو العقل الحاكم بكونه معجزة خارقة للعادة البشريّة ، ولم يؤت ولن يؤتى بمثلها ; فإنّه الرسول الباطني الذي لا مجال لمخالفة حكمه ووحيه .
ففي الحقيقة يكون حكمه بخلاف الظاهر وإدراكه الجزمي لذلك ، بمنزلة قرينة لفظيّة متّصلة موجبة للصرف عن المعنى الحقيقي ، وانعقاد الظهور في المعنى المجازي ; فإنّ الظهور الذي هو حجّة ليس المراد منه ما يختصّ بالمعنى الحقيقي ; ضرورة أنّ أصالة الحقيقة قسم من أصالة الظهور ، الجارية في جميع موارد انعقاد الظهور ; سواء كان ظهوراً في المعنى الحقيقي ، كما فيما إذا كان اللفظ الموضوع خالياً عن القرينة على الخلاف مطلقاً ، أو ظهوراً في المعنى المجازي ، كما فيما إذا كان مقروناً بقرينة على خلاف المعنى الحقيقي .
- (1) سيرى كامل در اصول فقه: 8 / 505 وما بعدها .
(2) اُنظر الإحكام في اُصول الأحكام للآمدي : 2 / 347 ـ 352 ، المسألة الخامسة .
(الصفحة 190)
فكما أنّ قوله : «رأيت أسداً» ظاهر في المعنى الحقيقي ، فكذلك قوله : «رأيت أسداً يرمي» ظاهر في المعنى المجازي ; ضرورة أنّ المتفاهم العرفي منه هو الرجل الشجاع ، من دون فرق بين أن نقول بأنّه ليس له إلاّ ظهور واحد ينعقد للجملة بعد تمامها ; نظراً إلى أنّ ظهور «أسد» في معناه الحقيقي متوقّف على تماميّة الجملة ، وخلوّها عن القرينة على الخلاف ، وفي صورة وجود تلك القرينة لا ظهور له أصلاً ، بل الظهور ينعقد ابتداءً في خصوص المعنى المجازي .
أو نقول بوجود ظهورين : ظهور لفظ «الأسد» في معناه الحقيقي ، وظهور «يرمي» في المعنى المجازي ، غاية الأمر كون الثاني أقوى ، ولأجله يتقدّم على الظهور الأوّل ، وفي الحقيقة كلّ من اللّفظين ظاهر في معناه الحقيقي ، لكن يكون ظهور القرينة فيه ، الذي يكون معنى مجازيّاً بالإضافة إلى المعنى الأوّل أقوى وأتمّ ; فإنّه على كلا القولين تكون الجملة ظاهرة في المعنى المجازي الذي هو عبارة عن الرجل الشجاع .
وبالجملة : أصالة الظهور الراجعة إلى أصالة تطابق الإرادة الجدّية ، مع الإرادة الاستعمالية ، وكون المقصود الواقعي من الكلام هو ما يدلّ عليه ظاهر اللفظ جارية في كلا الصورتين ; من دون أن يكون هناك تفاوت في البين ، وحينئذ فإذا حكم العقل في مورد بخلاف ما هو ظاهر لفظ الكتاب ، يكون حكمه بمنزلة قرينة قطعيّة متّصلة موجبة لعدم انعقاد ظهور له واقعاً ، إلاّ فيما حكم به العقل .
فقوله ـ تعالى ـ : (وَ جَآءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (1) وإن كان ظهوره الابتدائي في كون الجائي هو الربّ بنفسه ، وهو يستلزم الجسميّة الممتنعة في حقّه تعالى ، إلاّ أنّ حكم العقل القطعي باستحالة ذلك ـ لاستلزامه التجسّم للافتقار
(الصفحة 191)
والاحتياج المنافي لوجوب الوجود ; لأنّ المتّصف به غنيّ بالذات ـ يوجب عدم انعقاد ظهور له في هذا المعنى ، وهو اتّصاف الرّبّ بالمجيء .
وهكذا قوله ـ تعالى ـ : (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (1) ومثله الآيات الظاهرة على خلاف حكم العقل .
فانقدح أنّ حكم العقل ـ مع كونه من الاُمور التي هي اُصول التفسير ، ولا مجال للإغماض عنه في استكشاف مراد الله ـ تعالى ـ من كتابه العزيز ـ يكون مقدّماً على الأمرين الآخرين ، ولا موقع لهما معه . أ مّا تقدّمه على الظهور فلِما عرفت من عدم انعقاده مع حكم العقل على الخلاف ; لأنّه بمنزلة قرينة متّصلة . وأ مّا تقدّمه على الأمر الآخر; فلأنّ حجّية قوله إنّما تنتهي إلى حكم العقل وتستند إليه ، فكيف يمكن أن يكون مخالفاً له ؟ فالمخالفة تكشف عن عدم صدوره عن المعصوم (عليه السلام) ، أو عدم كون ظاهر كلامه مراداً له ، فكما أنّه يصير صارفاً لظاهر الكتاب ، يوجب التصرّف في ظاهر الرواية بطريق أولى ، كما لا يخفى .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الذي يبتني عليه التفسير إنّما هو خصوص الاُمور الثلاثة المتقدّمة : الظاهر ، وقول المعصوم ، وحكم العقل ، ولا يسوغ الاستناد في باب التفسير إلى شيء آخر .
نعم ، في باب الظواهر لابدّ من إحراز الصغرى ; وهي الظهور الذي مرجعه إلى الإرادة الاستعماليّة ; ضرورة أنّ التطابق بين الإرادتين لا يتحقّق بدون تشخيص الإرادة الاستعماليّة ، وإحراز مدلول اللفظ . ويقع الكلام حينئذ في طريق هذا التشخيص لمن لا يكون عارفاً بلغة العرب ، ولا يكون من أهل اللّسان ، ولا يجوز الاتّكال في ذلك على قول المفسّر ، أو اللّغوي ، مع عدم إفادة قولهما اليقين ،