(الصفحة 200)
الاختلاف في القراءة . . .» (1) .
وحينئذ فالاختلاف إنّما كان في القراءة لا في الكلمات ، كما سيظهر(2) إن شاء الله تعالى .
مذهب الإماميّة في عدم التحريف المتسالم عليه
الأمر الثاني : في عقيدة المسلمين في هذا الباب ، فنقول : المعروف بينهم عدم وقوع التحريف في الكتاب ، وأ نّه كما لم يقع التحريف بالزيادة إجماعاً كما عرفت ، كذلك لم يقع التحريف بالنقيصة ، وأ نّ ما بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على الرسول الاُمّي (صلى الله عليه وآله) ، وقد صرّح بعدم وقوع التحريف في الكتاب أعاظم علماء الشيعة الإمامية وأعلامهم من المتقدّمين والمتأخِّرين ، وإليك نقل بعض كلماتهم :
قال شيخ المحدّثين صدوق الطائفة في محكيّ كتاب الاعتقادات : «اعتقادنا أ نّ القرآن الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيّه محمد (صلى الله عليه وآله) هو ما بين الدفّتين ; وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك . . . ومن نسب إلينا أ نّا نقول: إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب» (3) .
وقال المفيد ـ رحمه الله تعالى ـ في أوائل المقالات : «وقد قال جماعة من أهل الإمامة : إنّه لم ينقص من كلمة ، ولا من آية ، ولا من سورة ، ولكن حُذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله ـ تعالى ـ الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَ لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ
- (1) البيان في تفسير القرآن : 256 .
(2) فى ص 297 .
(3) الاعتقادات ، المطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد : 5 / 84 ، باب الاعتقاد في مبلغ القرآن (33) .
(الصفحة 201)
مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا) (1) . فسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف .
وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل ، والله أسأل توفيقه للصواب» (2) .
وقال السيِّد المرتضى(قدس سره) في المحكي عنه في جواب المسائل الطرابلسيّات : إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار ، والوقائع العظام والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ; فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدٍّ لم يبلغه ما ذكرناه ; لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة ، والضبط الشديد ؟
وقال أيضاً قدّس الله روحه : إنّ العلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ، ككتاب سيبويه والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما ، حتّى لو أنّ مدخلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب ، لَعُرف وميّز ، وعلم أ نّه ملحق وليس من أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني . ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء .
وذكر أيضاً (رضي الله عنه) : أ نّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلّفاً على
- (1) سورة طه 20 : 114 .
(2) أوائل المقالات ، المطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد : 4 / 81 .
(الصفحة 202)
ما هو عليه الآن . واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأ نّه كان يعرض على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويتلى عليه ، وأ نّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود واُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث .
وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإماميّة والحشويّة لا يعتدّ بخلافهم ; فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّتها (1) .
وقال الشيخ الطوسي ـ قدّس سرّه القدوسي ـ في أوّل تفسيره المسمّى بالتبيان : أ مّا الكلام في زيادته ونقصانه ، فممّا لا يليق به ـ يعني بالتفسير ـ أيضاً ; لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه ، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى (رحمه الله) ، وهو الظاهر في الروايات ، غير أ نّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً ، والأولى الإعراض عنها . . .(2) .
وتبعه على ذلك المحقّق الطبرسي في مقدّمة تفسيره «مجمع البيان»(3) ، الذي هو كالتلخيص لتفسير «التبيان» .
وقال كاشف الغطاء في محكي كشفه : لا ريب في أ نّه ـ يعني القرآن ـ محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديّان ، كما دلّ عليه صريح القرآن ، وإجماع العلماء في جميع
- (1) حكي عنه في مجمع البيان : 1 / 15 ـ 16 مقدّمة الكتاب ، الفنّ الخامس .
(2) التبيان في تفسير القرآن : 1 / 3 مقدّمة الكتاب .
(3) مجمع البيان في تفسير القرآن : 1 / 15 مقدمة الكتاب .
(الصفحة 203)
الأزمان ، ولا عبرة بالنادر ، وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها ـ إلى أن قال : ـ فلابدّ من تأويلها بأحد وجوه . . .(1) .
وعن السيِّد القاضي نور الله في مصائب النواصب : ما نسب إلى الشيعة الإماميّة من قولهم بوقوع التغيير في القرآن ليس ممّا قال به جمهور الإماميّة ، وإنّما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم (2) .
و عن الشيخ البهائي(قدس سره) بأنّه قال: وأيضاً اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه ، والصحيح أ نّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادةً كان أو نقصاناً ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) (3) ، وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أميرالمؤمنين (عليه السلام) منه في بعض المواضع ، مثل قوله ـ تعالى ـ : (يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) (4) ـ في عليّـ وغير ذلك ، فهو غير معتبر عند العلماء (5) .
وعن المقدس البغدادي في شرح الوافية : . . .وإنّما وقع الخلاف في النقيصة ، والمعروف بين أصحابنا حتّى حكي عليه الإجماع عدم النقيصة أيضاً .
وعنه أيضاً، عن الشيخ عليّ بن عبد العالي(6) ، أ نّه صنَّف في نفي النقيصة رسالة مستقلّة، وذكر كلام الصدوق المتقدّم، ثمّ اعترض بما يدلّ على النقيصة من الأحاديث، وأجاب بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنّة المتواترة أو الإجماع ، ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه ، وجب طرحه (7) .
- (1) كشف الغطاء : 3 / 453 ـ 454 ، كتاب القرآن .
(2) مصائب النواصب: 121 ، الطائفة الثامنة ، وعنه الشيخ البلاغي في آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 64ـ65 .
(3) سورة الحجر 15 : 9 .
(4) سورة المائدة 5 : 67 .
(5) كما ذكره صاحب آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 1 / 65 .
(6) توفّي سنة 940 .
(7) حكى عنه أيضاً في آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 1 / 65 .
(الصفحة 204)
وحكي هذا القول ـ أيضاً ـ عن العلاّمة الجليل الشهشهاني في بحث القرآن من كتابه «العروة الوثقى» ناسباً له إلى جمهور المجتهدين (1) .
وعن المحدّث الشهير المولى الفيض الكاشاني في كتابي «الوافي(2) وعلم اليقين» (3) .
وصرّح به أيضاً فقيد العلم الكامل الجامع الشيخ محمد جواد البلاغي في مقدّمة تفسيره ، المسمّى بـ «آلاء الرحمن» (4) .
وبالجملة : لا مجال للارتياب في أنّ المشهور بين علماء الشيعة الإماميّة بل المتسالم عليه بينهم ، هو القول بعدم التحريف ، وإنّما ذهب إليه منهم طائفة قليلة من الأخباريّين (5) ، اغتراراً بظاهر الروايات الدالّة على ذلك ، التي سيجيء الجواب عن الاستدلال بها ، ومع ذلك فلا مساغ لنسبة هذا القول إلى الطائفة المحقّة ، وجعل ذلك من المطاعن في الفرقة الناجية ، كما يظهر من بعض مفسِّري أهل السنّة وغيرهم .
ولا بأس بنقل عبارة بعضهم ليظهر ركوبهم مركب التعصّب وهو عثور ، وينقدح ابتلاء الطائفة المحقّة بمثل هذه الافتراءات الكاذبة ، والنسب الباطلة غير الصادقة ، فنقول :
قال الآلوسي في مقدّمة تفسيره روح المعاني : وزعمت الشيعة أنّ عثمان ، بل أبا بكر وعمر أيضاً حرّفوه ، وأسقطوا كثيراً من آياته وسوره ، فقد روى الكليني
- (1) ذكر هذا السيد الخوئي في كتابه البيان : 200 .
(2) الوافي: 9 / 1778 ـ 1780 .
(3) علم اليقين في اُصول الدين : 1 / 562 ـ 569 ، الفصل 8 من الباب الثاني عشر من المقصد الثالث .
(4) آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 1 / 63 ـ 71 .
(5) قال في قوانين الاُصول 1 / 403 ، المقصد الثاني من الباب السادس ، قانون 2: فعن أكثر الأخباريّين: أنّه وقع فيه ـ أي في القرآن ـ التحريف والزيادة والنقصان ، ثمّ أجاب عنه .