(الصفحة 210)
التلاوة ، الذي هو في الحقيقة تحريف ، حيث قال في عبارته المتقدّمة : «نعم، أُسقط زمن الصديق ما لم تتواتر وما نسخت تلاوته ، وكان يقرؤه من لم يبلغه النسخ» .
والعجب! أ نّه لا يختصّ هذا الإيراد بالرجل ، بل هو شائع بين الجمهور ، حيث إنّهم قد صرّحوا بنفي التحريف ، وإثبات نسخ التلاوة ، وعليه حملوا الروايات الكثيرة المرويّة بطرقهم ، الدالّة على اشتمال القرآن الأوّلي على أزيد من ذلك ، وقد نسخت تلاوة الزائد ، وقد نقل بعضها الآلوسي في عبارته المتقدّمة ، ولا بأس بذكر البعض الآخر أيضاً مثل :
ما روى المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : أَلم تجد فيما اُنزل علينا : «أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة » ؟ فإنّا لا نجدها ! قال : اُسقطت فيما اُسقط من القرآن (1) .
وروى ابن أبي داود ، عن ابن شهاب قال : بلغنا أنّه كان اُنزل قرآن كثير، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ، ولم يكتب ، الحديث(2) .
وروى عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلاّ ما هو الآن(3) .
وروى ابن عبّاس ، عن عمر أ نّه قال : إنّ الله ـ عزّوجلّ ـ بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) بالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان ممّا أنزل الله آية الرّجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجمنا بعده . . . ثمّ قال : إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من
- (1) الإتقان في علوم القرآن: 3 / 84 ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 1 / 232 .
(2) المصاحف لابن أبي داود السجستاني: 100 ح 81، كنز العمال: 2 / 584 ح 4778 ، وتأتي بتمامها فى ص276.
(3) الإتقان في علوم القرآن: 3 / 82 ، الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي: 14 / 113 ، محاضرات الاُدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء : 4 / 169 .
(الصفحة 211)
كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم; فإنّه كفر بكم . . . أو أنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم(1) .
وآية الرّجم التي ادّعى عمر ـ على طبق الرواية ـ أ نّها من القرآن رويت بوجوه:
منها : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيز حكيم (2) .
ومنها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة بما قضيا من اللّذة(3) .
ومنها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة (4) .
وغير ذلك من الموارد التي التزموا فيها بنسخ التلاوة ، مع أ نّه لا يعلم مرادهم من نسخ التلاوة هل كان نسخها بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، أو بأيدي من تصدّى للزعامة والخلافة بعده؟
فإن كان الأوّل ، فما الدليل على النسخ بعد ثبوت كون المنسوخ من القرآن بنحو التواتر على اعتقادهم ؟ ولذا يقولون بأ نّه «كان يقرؤه من لم يبلغه النسخ» ، وصرّح بذلك الآلوسي في عبارته المتقدّمة ، فإن كان المثبت له هو خبر الواحد ، فقد قرّر في محلّه من علم الاُصول(5) وغيره أ نّه لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، والظاهر الاتّفاق عليه (6) ، وإن وقع الاختلاف في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد (7) .
- (1) صحيح البخاري: 8 / 33، باب رجم الحبلى 31، قطعة من ح6330 . (2 ، 3) الإتقان في علوم القرآن: 3 / 82 .
(4) المسند لابن حنبل: 8 / 142 ح 21652 ، سنن الدارمي 2: 124 ح 2320 .
(5) كفاية الاُصول: 276 ، حقائق الاُصول: 1 / 535 .
(6) البيان في تفسير القرآن: 284 ، فقد جزم بإجماع المسلمين عليه .
(7) الإحكام في اُصول الأحكام: 2 / 347 المسألة الخامسة .
(الصفحة 212)
وإن كان هو السنّة المتواترة ، فمع عدم ثبوت التواتر ـ كما هو واضح ـ نقول : إنّه حكي عن الشافعي ، وأكثر أصحابه ، وأكثر أهل الظاهر : القطع بعدم جواز نسخ الكتاب بالسنّة المتواترة ، وحكي عن أحمد أيضاً في إحدى الروايتين عنه ، بل أنكر جماعة من القائلين بالجواز وقوعه وتحقّقه (1) .
وإن كان الثاني : فهو عين القول بالتحريف ، وكأنّ الآلوسي ومن يحذو حذوه توهّموا أ نّ النزاع في باب التحريف نزاع لفظي ، وإلاّ فأيّ فرق بينه وبين نسخ التلاوة بهذا المعنى ؟ وعلى ذلك يصحّ أن يقال : إنّ جمهور علماء السنّة قائلون بالتحريف ; لتصريحهم بنسخ التلاوة ، الذي يرجع إليه ، بل هو عينه ، كما أنّه ينكشف أ نّ من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
وأمّا رابعاً : فلأنّه كيف يصحّ الالتزام بأنّ سورتي الخلع والحفد ـ اللّتين سمّـاهما الراغب في المحاضرات سورتي القنوت (2) ، ونسبوهما إلى مصحف ابن عبّاس ، ومصحف زيد وقراءة اُبيّ وأبي موسى(3) ـ أن يكونا من القرآن ؟ فإنّه كيف يصحّ قوله : «يفجرك» في السورة الاُولى ؟ وكيف تتعدّى كلمة «يفجر» ؟ وأيضاً أ نّ الخلع يناسب الأوثان ، فماذا يكون المعنى ؟ وبماذا يرتفع الغلط؟ أو ما هي النكتة في التعبير بقوله : «ملحق» ؟ وما هو وجه المناسبة وصحّة التعليل لخوف المؤمن من عذاب الله بأنّ عذاب الله بالكافرين ملحق ؟ فإنّ هذه العبارة إنّما تناسب التعليل ; لأن لا يخاف المؤمن من عذاب الله ; لأنّ عذابه بالكافرين ملحق .
وكذا آية الرجم ـ التي ادّعى عمر أ نّها من القرآن ـ يسأل من القائل بنسخ
- (1) الإحكام في اُصول الأحكام: 3 / 165 ، المسألة العاشرة .
(2) محاضرات الأُدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء: 4 / 168 .
(3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 226ـ 227 .
(الصفحة 213)
تلاوته على تقدير صحّة روايته ، وأ نّه ما وجه دخول «الفاء» في قوله : «الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة بما قضيا من اللّذة» ، وليس هناك ما يصحّح دخولها من شرط أو نحوه ، لا ظاهراً ، ولا على وجه يصحّ تقديره ، وإنّما دخلت «الفاء» على الخبر في قوله ـ تعالى ـ : ( الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِى فَاجْلِدُوا . . .) (1); لأنّ كلمة اجلدوا بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ ، والزنا بمنزلة الشرط ، وليس الرجم جزاءً للشيخوخة ، ولا هي سبباً .
فالظاهر أنّ الوجه في دخول «الفاء» هي الدلالة على كذب الرواية ، كما هو غير خفيّ على اُولي الدّراية .
ثمّ إنّ قضاء اللّذة أعمّ من الجماع ، والجماع أعمّ من الزنا ، والزنا أعمّ من سبب الرجم الذي هو الزنا مع الإحصان ، فكيف يصحّ إطلاق القول بوجوب رجمهما مع قضاء اللّذة والشهوة ؟ كما هو واضح .
وإن قيل بكونه كناية عن الزنا نقول : على تقدير تسليمه بأنّ السبب كما عرفت ليس هو الزنا المطلق ، وليست الشيخوخة ملازمة للإحصان ، كما لا يخفى .
إذا عرفت هذين الأمرين يقع الكلام بعدهما في أدلّة الطرفين وتحقيق ما هو الحقّ في البين، فنقول :
أدلّة عدم التحريف ومناقشة القائلين به
الدليل الأوّل : قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) (2); فإنّ دلالته على أنّ القرآن مصون من التحريف والتغيير ، وأ نّه لا يتمكّن أحد من أن يتلاعب فيه ، ظاهرة ، ولكنّ الاستدلال به يتوقّف على
- (1) سورة النور 24 : 2 .
(2) سورة الحجر 15 : 9 .
(الصفحة 214)
إثبات كون المراد من «الذكر» فيه هو القرآن ; لاحتمال أن يكون المراد به هو الرسول ، لاستعمال الذكر فيه أيضاً في مثل قوله ـ تعالى ـ : (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَّسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـتِ اللَّهِ) (1) .
ولكن يدفع هذا الاحتمال :
أوّلاً : منع كون المراد بالذكر في الآية الثانية أيضاً هو الرسول ، وذلك بقرينة التعبير بالإنزال ; ضرورة أ نّه لا يناسب الرسول ; لكونه ساكناً في الأرض مخلوقاً كسائر الخلق ، محشوراً معهم ، والتنزيل والإنزال وما يشابهما إنّما يناسب الاُمور السماويّة ، كالكتّاب، والملائكة، وأمثالهما ، وذكر كلمة «الرسول» بعد ذلك لا يؤيّد كونه المراد بالذكر ; لأنّه ابتداء آية مستقلّة ، وليس جزءاً لما قبله ، واحتمل في مجمع البيان أن يكون انتصابه لأجل كونه مفعول فعل محذوف ، تقديره : «أرسل رسولاً» لا بدلاً من «ذكراً» ، كما أنّه احتمل أن يكون مفعول قوله: «ذكراً» ، ويكون تقديره «أنزل الله إليكم أن ذكر رسولاً» (2) .
وبالجملة : فلم يثبت كون المراد من «الذكر» في هذه الآية هو الرسول ، لو لم نقل بظهورها ـ بقرينة ذكر الإنزال ـ في كونه هو الكتاب .
وثانياً : أ نّه على تقدير كون المراد بالذكر في تلك الآية هو الرسول ، لكنّه لايتمّ احتماله في المقام; وهي آية الحفظ; لكونها مسبوقة بما يدلّ على أنّ المراد به هو الكتاب ; وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَ قَالُوا يَـأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ* لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَـئـِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ* مَا نُنَزِّلُ الْمَلَـئـِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ) (3) .
- (1) سورة الطلاق 65 : 10 ـ 11 .
(2) مجمع البيان في تفسير القرآن: 10 / 44 .
(3) سورة الحجر 15 : 6 ـ 8 .