(الصفحة 214)
إثبات كون المراد من «الذكر» فيه هو القرآن ; لاحتمال أن يكون المراد به هو الرسول ، لاستعمال الذكر فيه أيضاً في مثل قوله ـ تعالى ـ : (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَّسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـتِ اللَّهِ) (1) .
ولكن يدفع هذا الاحتمال :
أوّلاً : منع كون المراد بالذكر في الآية الثانية أيضاً هو الرسول ، وذلك بقرينة التعبير بالإنزال ; ضرورة أ نّه لا يناسب الرسول ; لكونه ساكناً في الأرض مخلوقاً كسائر الخلق ، محشوراً معهم ، والتنزيل والإنزال وما يشابهما إنّما يناسب الاُمور السماويّة ، كالكتّاب، والملائكة، وأمثالهما ، وذكر كلمة «الرسول» بعد ذلك لا يؤيّد كونه المراد بالذكر ; لأنّه ابتداء آية مستقلّة ، وليس جزءاً لما قبله ، واحتمل في مجمع البيان أن يكون انتصابه لأجل كونه مفعول فعل محذوف ، تقديره : «أرسل رسولاً» لا بدلاً من «ذكراً» ، كما أنّه احتمل أن يكون مفعول قوله: «ذكراً» ، ويكون تقديره «أنزل الله إليكم أن ذكر رسولاً» (2) .
وبالجملة : فلم يثبت كون المراد من «الذكر» في هذه الآية هو الرسول ، لو لم نقل بظهورها ـ بقرينة ذكر الإنزال ـ في كونه هو الكتاب .
وثانياً : أ نّه على تقدير كون المراد بالذكر في تلك الآية هو الرسول ، لكنّه لايتمّ احتماله في المقام; وهي آية الحفظ; لكونها مسبوقة بما يدلّ على أنّ المراد به هو الكتاب ; وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَ قَالُوا يَـأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ* لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَـئـِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ* مَا نُنَزِّلُ الْمَلَـئـِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ) (3) .
- (1) سورة الطلاق 65 : 10 ـ 11 .
(2) مجمع البيان في تفسير القرآن: 10 / 44 .
(3) سورة الحجر 15 : 6 ـ 8 .
(الصفحة 215)
فكأ نّ هذه الآية وقعت جواباً عن قولهم السخيف وافترائهم العنيف ; وهو: أ نّ المجنون لا يمكن له حفظ الذكر ، ولا يليق بأن ينزل عليه ، فأجابهم الله ـ تبارك وتعالى ـ بأ نّ التنزيل إنّما هو فعل الله وهو الحافظ له عن التحريف والتغيير : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) (1) .
فانقدح ممّا ذكرنا وضوح كون المراد بالذكر في آية الحفظ هو الكتاب ، ولامجال للاحتمال المذكور بوجه أصلاً .
ومن الغريب ـ بعد ذلك ـ ما ذكره المحدّث المعاصر(2) في مقام المناقشة على الاستدلال بالآية من أ نّه : قد أجمع الاُمّة على عدم جواز التمسّك بمتشابهات القرآن إلاّ بعد ورود النصّ الصريح في بيان المراد منها ، ولا شكّ أنّ المشترك اللفظي إذا لم يكن معه قرينة تعيّن بعض أفراده ، والمعنوي إذا علم عدم إرادة القدر المشترك منها ، بل اُريد منه أحد أفراده ، ولم يقترن بما يعيّنه من أقسام المتشابهات ، و«الذكر» قد اُطلق في القرآن كثيراً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ومن الجائز أن يكون هو المراد منه هنا أيضاً ، ويكون سبيل تلك الآية سبيل قوله ـ تعالى ـ : (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (3)، وليس ذكر الإنزال قرينة على كون المراد منه القرآن; لقوله تعالى ـ : «إنَّا أنزلنا إليكم ذكْرًا رسولاً» (4) .
- (1) سورة الحجر 15 : 9 .
(2) وهو المحدّث حسين بن محمد تقي النوري (1254 ـ 1320 هـ ق) . وكتابه «فصل الخطاب في تحريف كتاب ربِّ الأرباب» طبعة حجريّة ، يقع في 398 صفحة ، النسخة التي عثرت عليها أكثر صفحاتها غير مرقّمة . انتهى من تأليف كتابه هذا سنة 1298 هـ ق . سجّلت على هذا الكتاب من قبل جمع من علماء الإماميّة وغيرهم عدّة ردود واعتراضات ومناقشات ، اتّسم بعضها بالسخريّة ممّا كتبه ، والاستخفاف بما توصّل إليه واعتمد عليه .
(3) سورة المائدة 5 : 67 .
(4) فصل الخطاب : 336 الباب الثاني في ذكر أدلّة القائلين بعدم تطرّق التغيير مطلقاً ، وهي اُمور عديدة: الأوّل قوله ـ تعالى ـ :«إنَّا أنزلْنا الذّكْر وإنَّا لَهُ لَحَـفظُون».
(الصفحة 216)
وقد عرفت قيام القرينة الواضحة على كون المراد به في المقام هو الكتاب ، وأ نّه ليست آية الحفظ من المتشابهات بوجه ، والعجب منه (رحمه الله) مع كونه محدّثاً مشهوراً وذا عناية بالروايات المأثورة عن العترة الطاهرة عليهم آلاف الثناء والتحيّة ولو كانت رواتها كذّابين وضّاعين ، كما سيأتي(1) في البحث عن الروايات الدالّة على التحريف ـ كيف نقل آية الحفظ هكذا : «إنّا أنزلنا الذكر...»(2) .
وكيف حكى الآية التي استشهد بها على كون المراد بالذكر هو الرسول بالنحو الذي نقلنا عنه ، مع أنّ الآية هكذا : ( قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا* رَّسُولاً) (3) .
وحينئذ فيُسأل عن الوجه في عدم الاعتناء بالكتاب ، و التسامح في نقل ألفاظه المقدّسة وآياته الكريمة ، ولعمري أنّ هذا وأشباهه هو السبب في طعن المخالفين على الفرقة الناجية المحقّة ، وإفترائهم عليهم بأنّهم لا يعتنون بالكتاب العزيز ، ولايراعون شأنه العظيم ، وقولهم : إنّهم مشتركون معنا في ترك العمل بحديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ; فإنّ الطعن علينا والإيراد بنا بترك العترة الطاهرة ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وعدم التمسّك بهم ، منقوض بعدم تمسّكهم بالكتاب الذي هو أيضاً أحد الثقلين ، بل هو الثقل الأكبر، والمعجزة الخالدة الوحيدة للنبوّة والرسالة .
وكيف كان ، فلا إشكال في المقام في أنّ المراد بالذكر في آية الحفظ هو الكتاب الذي نزّله الله .
ولكنّه اُورد على الاستدلال بها على عدم التحريف ، بوجوه اُخر من الإشكال :
الإيراد الأوّل : أ نّه لا دليل على كون المراد من الحفظ فيها هو الحفظ عن
- (1) فى ص 269 ـ 295.
(2) المصدر السابق.
(3) سورة الطلاق 65: 10 ـ 11 .
(الصفحة 217)
التلاعب والتغيير والتبديل ، بل يحتمل :
أوّلاً : أن يكون المراد من الحفظ هو العلم ، فمعنى قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) : إنّا له لعالمون ، فلا دلالة فيها حينئذ على عدم التحريف بوجه ، ولا تعرّض لها من هذه الحيثيّة ، وقد ذكر هذا الاحتمال المحقّق القمّي في كتاب «القوانين»(1) .
وثانياً : أ نّه على تقدير كون المراد من الحفظ هو الصيانة ، لكن يحتمل أن يكون المراد هو صيانته عن القدح فيه ، وعن إبطال ما يشتمل عليه من المعاني العالية ، والمطالب الشامخة ، والتعاليم الجليلة ، والأحكام المتينة .
والجواب : أ مّا عن الاحتمال الذي ذكره المحقّق القمّي (رحمه الله) ، فهو وضوح عدم كون الحفظ ـ لغةً وعرفاً ـ بمعنى العلم ; فإنّ المراد منه هو الصيانة ، وأين هو من العلم بمعنى الإدراك والاطّلاع ؟! ومجرّد الاحتمال إنّما يقدح في الاستدلال إذا كان احتمالاً عقلائيّاً منافياً لانعقاد الظهور للّفظ ، ومن الواضح عدم ثبوت هذا النحو من الاحتمال في المقام .
وأمّا عن الاحتمال الثاني ، فهو أنّه إن كان المراد من صيانته عن القدح والإبطال هو الحفظ عن قدح الكفّار والمعاندين ـ بمعنى أ نّه لم يتحقّق في الكتاب قدح من ناحيتهم بوجه ، والسبب فيه هو الله تبارك وتعالى ; فإنّه منعهم عن ذلك ـ فلا ريب في بطلان ذلك ; لأنّ قدحهم في الكتاب فوق حدّ الإحصاء ، والكتب السخيفة المؤلّفة لهذه الأغراض الشيطانيّة كثيرة .
وإن كان المراد أ نّ القرآن لأجل اتّصاف ما يشتمل عليه من المعاني بالقوّة والاستحكام والمتانة ، لا يمكن أن يصل إليه قدح القادحين ، ولا يقع فيه تزلزل
- (1) قوانين الاُصول: 1 / 405 ، المقصد الثاني من الباب السادس ، قانون 2 .
(الصفحة 218)
واضطراب من قبل شبه المعاندين ، فهذا المعنى وإن كان أمراً صحيحاً مطابقاً للواقع ، إلاّ أنّه لا يرتبط بما هو مفاد الآية الشريفة ; ضرورة أنّ ما ذكر إنّما هو شأن القرآن ووصف الكتاب ، والآية إنّما هي في مقام توصيف الله تبارك وتعالى ، وأ نّه المنزل للكتاب العزيز ، والحافظ له عن التغيير والتبديل .
وبعبارة اُخرى : مرجع ما ذكر إلى أنّ القرآن حافظ لنفسه بنفسه ; لاستحكام مطالبه ، ومتانة معانيه ، وعلوّ مقاصده ، والآية تدلّ على افتقاره إلى حافظ غيره ، وهو الله الذي نزّله ، فأين هذا من ذاك ؟! فتدبّر جيّداً .
الإيراد الثاني : أنّ مرجع الضمير في قوله : ( وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) إن كان المراد به هو كلّ فرد من أفراد القرآن من المكتوب والمطبوع وغيرهما ، فلا ريب في بطلانه ; لوقوع التغيير في بعض أفراده قطعاً ، بل ربما مزّق أو فرّق ، كما صنع الوليد(1) وغيره .
وإن كان المراد به هو حفظه في الجملة ، كفى في ذلك حفظه عند الإمام الغائب ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ فلا يدلّ على عدم التحريف في الأفراد التي بأيدينا من الكتاب العزيز ، والقائل بالتحريف إنّما يدّعيه في خصوص هذه الأفراد ، لا ما هو الموجود عند محمّد وآله صلوات الله عليه وعليهم أجمعين (2) .
والجواب : أنّ القرآن ليس أمراً كليّاً قابلاً للصدق على كثيرين ، بحيث تكون نسبته إلى النسخ المتكثّرة كنسبة طبيعة الإنسان إلى أفرادها المختلفة ، وكانت لها أفراد موجودة ، وافراد انعدمت بعد وجودها ، أو يمكن أن توجد ، بل القرآن هو الحقيقة النازلة على الرسول الأمين ، التي قال الله في شأنها : (إِنَّـآ أَنزَلْنَـهُ فِى
- (1) الأغاني: 7 / 49 ، آداب الدنيا والدين: 500 ـ 501 ، الكامل في التاريخ: 4 / 307 ، الجامع لأحكام القرآن: 9/350 ، فوات الوفيات: 4 / 257 ، خزانة الأدب: 1 / 328 ـ 329 .
(2) فصل الخطاب الباب الثاني في ذكر أدلّة القائلين بعدم تطرّق التغيير مطلقاً ، الأوّل: 336 .