(الصفحة 218)
واضطراب من قبل شبه المعاندين ، فهذا المعنى وإن كان أمراً صحيحاً مطابقاً للواقع ، إلاّ أنّه لا يرتبط بما هو مفاد الآية الشريفة ; ضرورة أنّ ما ذكر إنّما هو شأن القرآن ووصف الكتاب ، والآية إنّما هي في مقام توصيف الله تبارك وتعالى ، وأ نّه المنزل للكتاب العزيز ، والحافظ له عن التغيير والتبديل .
وبعبارة اُخرى : مرجع ما ذكر إلى أنّ القرآن حافظ لنفسه بنفسه ; لاستحكام مطالبه ، ومتانة معانيه ، وعلوّ مقاصده ، والآية تدلّ على افتقاره إلى حافظ غيره ، وهو الله الذي نزّله ، فأين هذا من ذاك ؟! فتدبّر جيّداً .
الإيراد الثاني : أنّ مرجع الضمير في قوله : ( وَ إِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ) إن كان المراد به هو كلّ فرد من أفراد القرآن من المكتوب والمطبوع وغيرهما ، فلا ريب في بطلانه ; لوقوع التغيير في بعض أفراده قطعاً ، بل ربما مزّق أو فرّق ، كما صنع الوليد(1) وغيره .
وإن كان المراد به هو حفظه في الجملة ، كفى في ذلك حفظه عند الإمام الغائب ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ فلا يدلّ على عدم التحريف في الأفراد التي بأيدينا من الكتاب العزيز ، والقائل بالتحريف إنّما يدّعيه في خصوص هذه الأفراد ، لا ما هو الموجود عند محمّد وآله صلوات الله عليه وعليهم أجمعين (2) .
والجواب : أنّ القرآن ليس أمراً كليّاً قابلاً للصدق على كثيرين ، بحيث تكون نسبته إلى النسخ المتكثّرة كنسبة طبيعة الإنسان إلى أفرادها المختلفة ، وكانت لها أفراد موجودة ، وافراد انعدمت بعد وجودها ، أو يمكن أن توجد ، بل القرآن هو الحقيقة النازلة على الرسول الأمين ، التي قال الله في شأنها : (إِنَّـآ أَنزَلْنَـهُ فِى
- (1) الأغاني: 7 / 49 ، آداب الدنيا والدين: 500 ـ 501 ، الكامل في التاريخ: 4 / 307 ، الجامع لأحكام القرآن: 9/350 ، فوات الوفيات: 4 / 257 ، خزانة الأدب: 1 / 328 ـ 329 .
(2) فصل الخطاب الباب الثاني في ذكر أدلّة القائلين بعدم تطرّق التغيير مطلقاً ، الأوّل: 336 .
(الصفحة 219)
لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (1) والقرآن المكتوب أو الملفوظ إنّما هو حاك عن تلك الحقيقة ، وكاشف عمّا اُنزل في تلك الليلة المباركة ، ومن المعلوم أ نّها ليست متكثّرة متنوّعة ، ومرجع حفظها إلى ثبوتها بتمامها من دون نقص وتغيير ، وكون الحاكي حاكياً عنها كذلك ، وهذا مثل ما نقول : إنّ القصيدة الفلانية محفوظة ; فإنّ معناها أ نّ الكتب الحاكية عنها أو الصدور الحافظة لها حاكية عنها بأجمعها ، وحافظة لها بتمامها ، كما لا يخفى .
الإيراد الثالث : ما ذكره المحدّث المعاصر من أنّ آية الحفظ مكّية ، واللفظ بصورة الماضي ، وقد نزل بعدها سور وآيات كثيرة ، فلا تدلّ على حفظها لو سلّمنا الدلالة (2) .
والجواب : واضح ; فإنّ الناظر في الآية العارف بأساليب الكلام يقطع بأنّ الحفظ إنّما يتعلّق بما هو الذكر الذي هو شأن القرآن بأجمعه ، فكما أنّ صفة التنزيل صفة عامّة ثابتة لجميع الآيات والسور بملاحظة نفس هذه الآية الشريفة ، ولا يكاد يتوهّم عاقل دلالتها على اتّصاف الآيات الماضية بذلك ، فكذلك وصف الحفظ والمصونيّة .
الإيراد الرابع : ـ وهو العمدة ـ أنّ القائل بالتحريف يحتمل وجود التحريف في نفس هذه الآية الشريفة ; لأنّها بعض آيات القرآن ، فلاحتمال التحريف فيه مجال ، ومع هذا الاحتمال لا يصحّ الاستدلال ، فكيف يصحّ الاستدلال بما يحتمل فيه التحريف على نفسه ؟ وهل هذا إلاّ الدور الباطل؟! .
والجواب : أنّ الاستدلال إن كان في مقابل من يدّعي التحريف في موارد مخصوصة ; وهي الموارد التي دلّت عليها روايات التحريف ، فلا مجال للمناقشة
- (1) سورة القدر 97 : 1 . (2) فصل الخطاب ، الباب الثاني في ذكر أدلّة القائلين بعدم تطرّق التغيير مطلقاً ، الأوّل: 337 .
(الصفحة 220)
فيه; لعدم كون آية الحفظ من تلك الموارد على اعترافه ; ضرورة أ نّه لم ترد رواية تدلّ على وقوع التحريف في آية الحفظ أصلاً .
وإن كان في مقابل من يدّعي التحريف في القرآن إجمالاً ; بمعنى أنّ كلّ آية عنده محتملة لوقوع التحريف فيها ، وسقوط القرينة الدالّة على خلاف ظاهرها عنها .
فتارةً: يقول القائل بهذا النحو من التحريف بحجّية ظواهر الكتاب ، مع وصف التحريف .
واُخرى: لا يقول بذلك ، بل يرى أنّ التحريف مانع عن بقاء ظواهر الكتاب على الحجّية ، وجواز الأخذ والتمسّك بها ، ويعتقد أنّ الدليل على عدم الحجّية هو نفس وقوع التحريف .
فعلى الأوّل : لا مجال للمناقشة في الاستدلال بآية الحفظ على عدم التحريف ; لأنّه بعدما كانت الظواهر باقية على الحجّية ، ووقوع التحريف غير مانع عن اتّصاف الظواهر بهذا الوصف ، كما هو المفروض ، نأخذ بظاهر آية الحفظ ، ونستدلّ به على العدم كما هو واضح .
وعلى الثاني : الذي هو عبارة عن مانعيّة التحريف عن العمل بالظواهر والأخذ بها ، فإن كان القائل بالتحريف مدّعياً للعلم به ، والقطع بوقوع التحريف في القرآن إجمالاً ، وكون كلّ آية محتملة لوقوع التحريف فيها ، فالاستدلال بآية الحفظ لا يضرّه ، ولو كان ظاهرها باقياً على وصف الحجّية ; لأنّ ظاهر الكتاب إنّما هو حجّة بالإضافة إلى من لا يكون عالماً بخلافه ; ضرورة أنّه من جملة الأمارات الظنّية المعتبرة ، وشأن الأمارة اختصاص حجّيتها بخصوص الجاهل بمقتضاها .
وأ مّا العالم بالخلاف المتيقّن له ، فلا معنى لحجّية الأمارة بالإضافة إليه ، فخبر الواحد مثلاً الدالّ على وجوب صلاة الجمعة إنّما يعتبر بالنسبة إلى من لا يكون عالماً بعدم الوجوب . وأمّا بالإضافة إلى العالم ، فلا مجال لاعتباره بوجه ، فظاهر
(الصفحة 221)
آية الحفظ ـ على تقدير حجّيته أيضاً ـ إنّما يجدي لمن لا يكون عالماً بالتحريف ، والبحث في المقام إنّما هو مع غير العالم .
وإن كان القائل به لا يتجاوز عن مجرّد الاحتمال ، ولا يكون عالماً بوقوع التحريف في الكتاب ، بل شاكّاً ، فنقول :
مجرّد احتمال وقوع التحريف ـ ولو في آية الحفظ أيضاً ـ لا يمنع عن الاستدلال بها لعدم التحريف ، كيف ، وكان الدليل على عدم حجّية الظواهر والمانع عنها هو التحريف ، فمع عدم ثبوته واحتمال وجوده ، وعدمه كيف يرفع اليد عن الظاهر ، ويحكم بسقوطه عن الحجّية ؟ بل اللاّزم الأخذ به والحكم على طبق مقتضاه ، الذي عرفت أنّ مرجعه إلى عدم تحقّق التحريف بوجه ، ولا يستلزم ذلك تحقّق الدور الباطل ; ضرورة أنّ سقوط الظاهر عن الحجّية فرع تحقّق التحريف وثبوته ، وقد فرضنا أنّ الاستدلال إنّما هو في مورد الشكّ وعدم العلم .
ومن الواضح: أنّ الشكّ فيه لا يوجب سقوط الظاهر عن الحجّية ما دام لم يثبت وقوعه ، فتدبّر جيّداً .
وقد انقدح ممّا ذكرنا تماميّة الاستدلال بآية الحفظ ، والجواب عن جميع الإشكالات ، لا سيّما الأخير الذي كان هو العمدة في الباب .
الدليل الثاني : قوله ـ تعالى ـ : ( وَ إِنَّهُ لَكِتَـبٌ عَزِيزٌ* لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـطِـلُ مِنبَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيم حَمِيد) (1) ، ولا خفاء في ظهوره في أنّه لا يأتي الكتاب العزيز الباطل بجميع أقسامه ، ومن شيء من الطرق والجوانب ; ضرورة أنّ النفي إذا ورد على الطبيعة المعرفة بلام الجنس ، أفاد العموم بالإضافة إلى جميع أنواعها وأصنافها وأفرادها ، فالباطل في ضمن أيّ نوع تحقّق ، وأيّ صنف
- (1) سورة فصّلت 41 : 41 ـ 42 .
(الصفحة 222)
حصل ، وأيّ فرد وجد ، بعيد عن الكتاب بمراحل لا يمكن له إتيانه والاتّصال إليه .
ومن الواضح: أنّ «التحريف» من أوضح مصاديق الباطل ، وأظهر أصنافه ، فالآية تنفيه وتخبر عن عدم وقوعه، وبُعده عن الكتاب .
مضافاً إلى أنّ توصيف الكتاب بالعزّة يلائم مع حفظه عن التغيير والتنقيص ، كما أنّ قوله ـ تعالى ـ في ذيل الآية : (تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيم حَمِيد) الذي هو بمنزلة التعليل للحكم بعدم إتيان الباطل الكتاب يناسب مع بقائه ، وعدم تطرّق التحريف إليه ; فإنّ ما نزل من الحكيم لا يناسبه عروض التغيير ، ويكون مصوناً من أن تتلاعب به الأيدي الجائرة ، ومحفوظاً من أن تمسّه الأفراد غير المطهّرة .
وقد اُورد على الاستدلال بوجوه من الإشكال (1):
الإشكال الأوّل : أنّه قد ورد في تفسير الآية روايات دالّة على أنّ المراد منها غير ما ذكرنا ، مثل :
رواية علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : «لا يأتيه الباطل من قبل التوراة ، ولا من قبل الإنجيل والزبور ، ولا من خلفه ، أي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله» (2) .
ورواية مجمع البيان عن الصادقين (عليهما السلام) : «أنّه ليس في أخباره عمّا مضى باطل ، ولا في أخباره عمّا يكون في المستقبل باطل» (3) .
والجواب : أنّ اختلاف الروايتين في تفسير الآية ، وبيان المراد منها ـ ضرورة
- (1) ذكر هذه الاشكالات صاحب فصل الخطاب في الباب الثاني في ذكر أدلّة القائلين بعدم تطرّق التغيير مطلقاً ، الثاني : 338 .
(2) تفسير القمي: 2 / 266 ، وعنه تفسير كنز الدقائق: 9 / 212 ، والبرهان في تفسير القرآن: 4 / 792 ح9450 ، وبحار الأنوار: 17 / 209 ح12 و ج92 / 13 ح4 .
(3) مجمع البيان: 9 / 24 ، وعنه تفسير كنز الدقائق: 9 / 212، والبرهان في تفسير القرآن: 4 / 792 ح9449 .