(الصفحة 223)
أنّه لا يكاد يمكن الجمع بينهما ; فإنّ الإخبار عمّا مضى لا يرتبط بالتوراة والإنجيل والزبور ، والإخبار عمّا يكون في المستقبل لا يلائم الكتاب الذي يأتي من بعده ـ دليل على عدم حصر الباطل في شيء من مفادهما ، وأ نّهما بصدد بيان المصداق ، ولا دلالة لهما على الحصر أصلاً . وعليه: فظهور الآية في العموم ، وعدم تطرّق شيء من أقسام الباطل وأفراده إليه واضح لا معارض له بوجه .
الإشكال الثاني : التأمّل في صدق الباطل على ورود التحريف عليه ، خصوصاً بعد ملاحظة وحدة المراد منه فيما سبق القرآن أو لحقه ; إذ لا يتوهّم في الباطل الذي بين يديه ذلك ، فيكون ما في خلفه كذلك .
والجواب : من الواضح أنّ كون التحريف من أظهر مصاديق الباطل ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، وتعلّق النفي بالطبيعة المعرفة يفيد العموم على ما ذكرنا ، ولا مجال لملاحظة وحدة المراد ; فإنّ الحكم لم يتعلّق بالأفراد حتّى تلاحظ وحدة المراد ، بل بنفس الطبيعة في السابق واللاّحق ، كما هو غير خفيّ .
الإشكال الثالث : أنّه لا يظهر في شيء من الكتب الموضوعة في تفسير القرآن ، تفسير الآية بما ذكر ، ولا احتمله أحد من المفسِّرين ، وإليك نقل بعض كلمات أعلامهم :
قال الشيخ الطوسي(قدس سره) في محكي التبيان : قوله ـ تعالى ـ : ( لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـطِـلُ . . .) قيل في معناه أقوال خمسة :
أحدها : أ نّه لا تعلّق به الشبهة من طريق المشاكلة ، ولا الحقيقة من جهة المناقضة ; وهو الحقّ المخلص الذي لا يليق به الدنس .
ثانيها : قال قتادة والسدِّي : معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّاً ولايزيد فيه باطلاً .
ثالثها : أ نّ معناه لا يأتي بشيء يوجب بطلانه ممّا وجد قبله ولا معه ، ولا ممّا
(الصفحة 224)
يوجد بعده . وقال الضحّاك : لا يأتيه كتاب من بين يديه يبطله ، ولا من خلفه ; أي ولا حديث من بعده يكذبه .
رابعها : قال ابن عباس : معناه لا يأتيه الباطل من أوّل تنزيله ، ولا من آخره .
خامسها : أ نّ معناه لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدّم ، ولا من خلفه ولا عمّا تأخّر (1) .
وقال السيِّد الرضي في محكيّ الجزء الخامس من تفسيره المسمّى بـ «حقائق التأويل» في تفسير قوله ـ تعالى ـ : ( . . .بِكَلِمَة مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ . . .) (2) ـ بعد ذكر سرّ تذكير الضمير فيه ، وتأنيثه في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَـئـهَآ إِلَى مَرْيَمَ) (3) ـ ما لفظه :
«وإذا نظرت بعين عقلك بانَ لك ما بين الموضعين من التمييز البيّن والفرق النيّر ، وعجبت من عمائق قعر هذا الكتاب الشريف الذي لا يدرك غورها ، ولاينضب بحرها ; فإنّه كما وصفه سبحانه بقوله : (لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـطِـلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ) (4) .
ومن أحسن ما قيل في تفسير ذلك : «إنّه لا يشبه كلاماً تقدّمه ، ولا يشبهه كلام تأخّر عنه ، ولا يتّصل بما قبله ، ولا يتّصل به ما بعده ، فهو الكلام القائم بنفسه ، البائن من جنسه ، العالي على كلّ كلام قُرن إليه وقيس به»(5) .
وبالجملة: فتفسير الآية بما ذكر في الاستدلال مخالف لما يظهر من الفحول
- (1) التبيان في تفسير القرآن: 9 / 129 ـ 130 .
(2) سورة آل عمران 3 : 45 .
(3) سورة النساء 4 : 171 . (4) سورة فصّلت 41: 42 .
(5) حقائق التأويل في متشابه التنزيل: 102 ، المسألة 10 .
(الصفحة 225)
والرجال من مفسِّري العامّة والخاصّة . وعليه: فلا يبقى للتمسّك بها مجال .
والجواب : أنّا قد حقّقنا في أوّل مبحث اُصول التفسير(1) : أ نّ الأصل الأوّلي في باب التفسير ، وكشف مراد الله ـ تبارك وتعالى ـ من كتابه العزيز هو ظواهر الكتاب ، وأ نّ الاعتماد في باب التفسير عليها ممّا لا ينبغي الارتياب فيه . وقول المفسِّرين لم يقم دليل على اعتباره ما لم يكن مبتنياً على تلك الاُصول ، وقد عرفت(2) أنّ ظاهر الآية تعلّق النفي بطبيعة الباطل ، وأ نّ التحريف من أوضح مصاديقه، ولا يعارض ذلك قول المفسِّرين إلاّ إذا كان مستنداً إلى بيان المعصوم (عليه السلام) ، الذي هو أيضاً من تلك الاُصول ، والظاهر عدم الاستناد في المقام ، وعلى تقديره فالروايات المستند إليها هي الروايات المتقدّمة ، وقد عرفت عدم دلالتها على حصر الباطل في مفادها ، والدليل عليه وجود الاختلاف بينها ، كما لا يخفى .
الإشكال الرابع : نظيره من أنّه إن اُريد بالقرآن الذي لا يأتيه الباطل جميع أفراده الموجودة بين الناس ، فهو خلاف الواقع ; للإجماع على أنّ ابن عفّان أحرق مصاحف كثيرة، حتّى قيل : إنّه أحرق أربعين ألف مصحف ، ويمكن ذلك لآحاد أهل الإسلام والمنافقين ، فليكن ما صدر من أولئك من التحريف في الصدر الأوّل من هذا القبيل ، وإن اُريد في الجملة ، فيكفي في انتفاء الباطل عنه انتفاؤه عن ذلك الفرد المحفوظ عند أهل البيت (عليهم السلام) .
والجواب عنه قد تقدّم في الأمر الأوّل ، والتكرار موجب للتطويل .
الدليل الثالث : ما أفاده بعض الأعاظم في تفسيره المسمّى بـ «الميزان في تفسير القرآن» وحاصله : أنّ من ضروريّات التاريخ أ نّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) جاء قبل أربعة عشر قرناً تقريباً ، وادّعى النبوّة ، وأنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن ، وينسبه إلى ربّه ،
- (1) في ص 170 ـ 185 .
(2) فى ص 221 ـ 222.
(الصفحة 226)
وكان يتحدّى به ويعدّه آيةً لنبوّته ، وأ نّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به ، وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة ; بمعنى أنّه لم يضع من أصله بأن يفقد كلّه ، ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه ، ويشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
فهذه اُمور لا يرتاب في شيء منها إلاّ مصاب في فهمه ، ولا احتمله أحد من الباحثين في مسألة التحريف ، وإنّما المحتمل زيادة شيء يسير كالجملة أو الآية ، أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها .
ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامّة آياته ، ونجد ما بأيدينا من القرآن ـ أعني ما بين الدفّتين ، واجداً لما وصف به من أوصاف تحدّى بها .
فنجده يتحدّى بالبلاغة والفصاحة ، ونجد ما بأيدينا مشتملاً على ذلك النظم العجيب البديع ، لا يشابهه شيء من كلام البلغاء والفصحاء المحفوظ منهم ، والمرويّ عنهم من شعر أو نثر وأمثالهما .
ونجده يتحدّى بقوله : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوافِيهِ اخْتِلَـفًا كَثِيرًا) (1) بعدم وجود اختلاف فيه ، ونجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء .
ونجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربيّة ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا) (2) .
ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الذي لا مرية فيه ، ويهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من اُصول المعارف الحقيقيّة ، وكلّيات الشرائع
- (1) سورة النساء 4: 82 .
(2) سورة الإسراء 17 : 88 .
(الصفحة 227)
الفطريّة ، وتفاصيل الفضائل الخلقيّة ، من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة والخلل ، أو نحصل على شيء من التناقض والزلل ، بل نجد جميع المعارف على سعتها وكثرتها حيّة بحياة واحدة ، مدبّرة بروح واحد ، هو مبدأ جميع المعارف القرآنيّة ، والأصل الذي إليه ينتهي الجميع ويرجع ، وهو التوحيد ، فإليه ينتهي الجميع بالتحليل ، وهو يعود إلى كلّ منها بالتركيب .
ونجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء واُممهم ، ونجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم ، ويفصّل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين ، ويناسب نزاهة ساحة النبوّة .
ونجده يورد آيات في الملاحم ، ويخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة ، ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن .
ونجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة ، كما يصف نفسه بأنّه نور ، وأ نّه هاد يهدي إلى صراط مستقيم ، وإلى الملّة التي هي أقوم ، ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من ذلك .
ومن أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أ نّه ذكر لله ; فإنّه يذكر به تعالى بما أنّه آية دالّة عليه حيّة خالدة ، وبما أنّه يصفه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، ويصف سنّته في الصنع والإيجاد ، ويصف ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وأحكامه وما ينتهي إليه أمر الخلقة ، وتفاصيل ما يؤول إليه أمر الناس من السعادة والشقاوة والجنّة والنار .
ففي جميع ذلك ذكر الله; وهو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذكر ، ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من معنى الذكر .
ولكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شؤون القرآن عبّر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان والتغيير والتحريف