(الصفحة 240)
معيّن ، بل ظاهره دوام هذا الحكم بدوام الدين ، واستمراره باستمرار شريعة سيِّد المرسلين صلوات الله عليه وعلى أولاده الطاهرين .
وحينئذ فلا يبقى مجال لما ذكره المحدِّث المعاصر من عدم منافاة ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) ثبوت التغيير بعده ، وورود الرواية به ، نظراً إلى عدم حصول التغيير في عصره (1) .
وقد عرفت أنّ الحكم دائميّ غير محدود ، فيجري في هذه الأخبار ما يجري في الأخبار الواردة عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) ، الدالّة على عرض أخبارهم على الكتاب ، وتشخيص الحقّ عن الباطل بسببه .
وأمّا ما ورد عنهم (عليهم السلام) في ذلك ، فدلالته على عدم وقوع التحريف والتبديل في الكتاب ، وكونه حجّة مستقلّة مبتنية على ملاحظة أ نّ الغرض من هذه الأخبار هو بيان الميزان الذي به يتحقّق تمييز الحقّ عن الباطل من الروايات الصادرة المنقولة عنهم (عليهم السلام) ، وأ نّ الملاك والمناط في ذلك هو موافقة الكتاب ، وعدم مخالفته ، ففي الحقيقة تكون الموافقة قرينة على الصدق ، وأمارة على الصدور منهم (عليهم السلام) ، ولايتحقّق ذلك إلاّ بكون الكتاب حجّة مستقلّة غير متوقّفة على شيء ; ضرورة أنّ الكتاب الذي يحتاج إلى التصويب والإمضاء كيف يكون ميزاناً لتمييز الحقّ عن الباطل ، ممّا ورد عنهم ، ونسب إليهم (عليه السلام) ؟! .
وبالجملة : غرض الأ ئـمّة (عليهم السلام) من هذه الأخبار نفي كون أقوالهم ، وما ورد عنهم (عليهم السلام) من أحكام مخالفة الكتاب الذي هو الثقل الأكبر ، والميزان الذي لا يرتاب فيه مسلم ، ولا يلائم ذلك أصلاً مع توقّف حجّيته على تصويبهم وإمضائهم ، فأخبار العرض على الكتاب من أعظم الشواهد على عدم وقوع التحريف في الكتاب ، وبقائه على الحجّية المستقلّة إلى يوم القيامة .
- (1) فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الرابع : 340 .
(الصفحة 241)
وممّا ذكرنا ينقدح النظر فيما ذكره المحدّث المعاصر من أنّ ما جاء عنهم (عليهم السلام) فهو قرينة على أنّ الساقط لم يضرّ بالموجود ، وتمامه من المنزل للإعجاز ، فلا مانع من العرض عليه (1); فإنّك عرفت أ نّ العرض على الكتاب لتمييز الحقّ عن الباطل ، وتشخيص السقيم عن الصحيح ، ولا يلائم ذلك مع توقّف حجّية الكتاب على إمضائهم (عليهم السلام) أصلاً .
كما أنّ دعوى اختصاص ذلك بخصوص آيات الأحكام ، فلا يعارض ما ورد في النقص فيما يتعلّق بالفضائل والمثالب ، بل صريح المحدّث البحراني (رحمه الله) في الدرر النجفيّة : «أ نّه لم يقع فيها (آيات الأحكام) شيء من ذلك ; لعدم دخول النقص عليهم (على الخلفاء) من جهتها»(2) .
مدفوعة ـ مضافاً إلى عدم ثبوت ذلك في خصوص تلك الآيات ـ بأنّ الاختصاص بها لا وجه له ، بعد ملاحظة أنّ الكتاب كما مرّ(3) مراراً ليس كتاباً فقهيّاً يتعرّض لخصوص القوانين التشريعيّة ، والأحكام العمليّة ، وبعد ملاحظة عدم اختصاص تلك الأخبار الدالّة على العرض بخصوص الروايات المتعرّضة للأحكام ، كما هو واضح .
فقد ظهر من جميع ما ذكرنا : تماميّة الاستدلال بأخبار العرض على الكتاب ; لعدم تحريفه وعدم وقوع النقص فيه . كما أنّ الاستدلال بالروايات الحاكية لاستشهاد الأ ئـمّة (عليهم السلام) في موارد متعدّدة بالكتاب لذلك ممّا لا تنبغي المناقشة فيه أصلاً ; ضرورة أنّه لو لم يكن الكتاب حجّة مستقلّة ، ودليلاً تامّاً غير متوقّف على
- (1) فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الرابع: 340 .
(2) الدرر النجفيّة ، للعلاّمة المحدّث الشيخ يوسف البحراني : 4 / 69 ، وعنه فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الرابع: 340 .
(3) في ص106 و 229 ـ 230 .
(الصفحة 242)
الإمضاء والتصويب ; لما كان وجه للاستشهاد ، وليس الاستشهاد منحصراً بالموارد التي يكون محلّ الخلاف بينهم وبين علماء العامّة .
فقد عرفت سابقاً(1) بعض الموارد التي استدلّ (عليه السلام) بالكتاب في مقابل زرارة ، وإفهام بعض السائلين من الشيعة ، بل يستفاد من رواية زرارة المتقدّمة(2) الواردة في المسح ببعض الرأس : أ نّ الكتاب من طرق علم الإمام (عليه السلام) ، فكيف يكون مع ذلك متوقّفاً على إمضائه (عليه السلام) ؟ .
فانقدح أ نّ المتأمِّل المنصف ، الخالي عن العناد والتعصّب ، لا يكاد يرتاب في دلالة هذه الأخبار أيضاً على خلوّ القرآن عن النقص والتحريف ، والتغيير والتبديل.
الدليل السادس : من الاُمور الدالّة على عدم التحريف ، الأخبار الكثيرة الواردة في بيان أحكام أو فضائل لختم القرآن أو سوره ، قال الصدوق (رحمه الله) فيما حكي عنه :
«وما روي من ثواب قراءة كلّ سورة من القرآن ، وثواب من ختم القرآن كلّه(3) ، وجواز قراءة سورتين في ركعة نافلة ، والنهي عن القِران بين سورتين في ركعة فريضة(4) ، تصديق لما قلناه في أمر القرآن ، وأ نّ مبلغه ما في أيدي الناس . وكذلك ما روي من النهي عن قراءة القرآن كلّه في ليلة واحدة ، وأ نّه لا يجوز أن يختم في أقلّ من ثلاثة أيّام(5); تصديق لما قلناه أيضاً» (6) .
- (1 ، 2) في ص174 ـ 177 .
(3) ثواب الأعمال: 125 ـ 158 ، بحار الأنوار: 92 / 223ـ 369 .
(4) وسائل الشيعة: 6 / 440 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب4 ح2 و 3 ، وص50 ـ 53 ب8 ، وبحار الأنوار: 85 / 53 ـ 54 ح45 وملحقه، ومستدرك الوسائل: 4 / 162ـ 163 ب6 .
(5) الكافي: 2 / 617ـ 619 ، باب في كم يقرأ القرآن ويختم ، وسائل الشيعة: 6 / 215ـ 218 ، كتاب الصلاة ، أبواب قراءة القرآن ب27 .
(6) الاعتقادات للشيخ الصدوق ، المطبوع مع سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد: 5 / 84 ب 33 .
(الصفحة 243)
وأدلّ من ذلك وجوب قراءة سورة كاملة في كلّ ركعة من الصلوات المفروضة ، وجواز تقسيمها في صلاة الآيات ; فإنّه من الواضح أنّ هذا الحكم كان ثابتاً في أصل الشريعة بتشريع الصلاة ، وأ نّ الصلاة التي كان المسلمون في الصدر الأوّل يصلّونها مشتملة على حكاية سورة من القرآن زائدة على فاتحة الكتاب ، التي لا صلاة إلاّ بها ، كما في الرواية (1) .
وحينئذ لا يبقى خفاء في أنّ المراد بها هي السورة الكاملة من الكتاب الواقعي الذي كان بأيدي المسلمين في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولم يقع فيه تحريف ولا تغيير على فرض وقوعه بعده .
وحينئذ فالقائل بالتحريف يلزم عليه ـ في قبال هذا الحكم الذي موضوعه هو الكتاب الواقعي ـ الالتزام بأحد اُمور لا ينبغي الالتزام بشيء منها ، ولا يصحّ ادّعاؤه أصلاً :
الأوّل : عدم جوب قراءة السورة بعد عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لعدم التمكّن من إحرازها ، فلا وجه لوجوبها ; لأنّ الأحكام إنّما تتوجّه في خصوص صورة التمكّن ، والمفروض عدمه بعد ذلك العصر الشريف .
ويردّه ـ مضافاً إلى عدم التزامه به لا قولاً ولا عملاً ; لعدم خلوّ صلاته عن قراءة السورة ، وإلى وضوح ظهور تشريعها ، وإيجابها في الدوام والاستمرار ، وعدم الاختصاص بزمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولو من جهة عدم التمكّن بعده ـ ورود الروايات الكثيرة من الأ ئـمّة الطاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ الدالّة على وجوب
- (1) وسائل الشيعة: 6 / 37 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب1 ، مستدرك الوسائل: 4/ 158 ب1 ح4367ـ 4369 . ورواه أبو عوانة في مسنده: 1 / 450 ـ 451 ب48، والدارقطني في سننه: 1 / 316ـ 319 ح1200ـ 1203 ، 1205 و 1208ـ 1213 ، حلية الأولياء: 7 / 124 .
(الصفحة 244)
السورة في كلّ صلاة فريضة إلاّ في بعض الموارد المستثناة(1) .
ومن الواضح: أ نّه على هذا التقدير تلزم اللّغوية ; لأنّه بعدما كان المفروض عدم التمكّن من إحراز السورة الكاملة بوجه ، لا وجه لبيان هذا الحكم ، وصدوره منهم (عليهم السلام) في زمن كان القرآن الواقعي غير موجود عند الناس ولا تصل إليه أيديهم ، كما هو غير خفيّ .
سلّمنا عدم وجوب السورة بعد ذلك العصر ، بل سلّمنا عدم وجوب السورة أصلاً في الصلوات المفروضة ، وقلنا بأنّ السورة ليست من الأجزاء الواجبة للصلاة ، لكن نقول : دلالة الأخبار المرويّة عن العترة الطاهرة على مجرّد الاستحباب(2) تكفي في إثبات عدم التحريف ; لأنّه لو فرض عدم التمكّن من إحراز السورة الكاملة في عصرهم (عليهم السلام) لا يبقى معه مجال لورود تلك الروايات الكثيرة على الاستحباب .
وهل يسوغ التعرّض ـ سيّما مع كثرته ـ لحكم استحبابيّ لا يكون له موضوع أصلاً ، ولا يتمكّن الناس من إيجاده بوجه ، وهل لا يكون لغواً ؟
إن قلت : التعرّض لذلك لعلّه إنّما كان لأجل استحباب قراءة القرآن في الصلاة من دون تقيّد بكونها سورة كاملة .
قلت : مع هذا الاحتمال لا وجه لذكر عنوان «السورة الكاملة» ، بل و«السورة» أصلاً ، فالظاهر أ نّه حكم استحبابيّ خاصّ لا يرتبط بالحكم العامّ ، وهو استحباب قراءة القرآن في الصلاة ، لو كان قراءته فيها مستحبّاً خاصّاً ، غير مرتبط بأصل
- (1) وسائل الشيعة: 6 / 40ـ 41 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب2 ح2 ، 4 و 6، وص43 ب4 ح1و2 وص130 ب55 ح1 ، وج8 : 388 ، كتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ب47 ح4 .
(2) وسائل الشيعة: 6 / 78 ـ 80 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب23 و 24، وص112ـ 154 ب45و47ـ 50 و 53 ـ 56 و 61ـ 66 و 70 .