(الصفحة 245)
استحباب قراءة القرآن مطلقاً في الصلاة وغيرها .
فانقدح أنّ دلالة تلك الروايات الواردة في السورة ، ولو على استحبابها ، وكونها من الأجزاء غير الواجبة للصلاة تصدق القول بعدم التحريف ، وتؤيّد بقاء الكتاب على واقعه الذي نزل عليه ، مشروطاً ببقاء البصيرة الكاملة ، والخلوّ عن التعصّب غير الصحيح .
الثاني : الاقتصار على خصوص سورة لا يحتمل فيها التحريف ; نظراً إلى عدم جريان هذا الاحتمال في جميع السور ، بل هناك بعض السور لا يجري فيه هذا الاحتمال ، كسورة التوحيد ، وعليه: فلابدّ في الصلاة من الاقتصار عليه ، نظراً إلى اقتضاء الاشتغال اليقيني للبراءة اليقينيّة .
ويدفعه : مضافاً إلى ما عرفت من عدم التزامه به لا قولاً ولا عملاً ، إطلاق ما ورد من الأ ئـمّة (عليهم السلام) في هذا الباب ، وعدم تقييد شيء منها بمثل ذلك ، كان عليهم البيان في مثل هذا الحكم الذي تعمّ به البلوى ، وهو مورد لاحتياج العموم في كلّ يوم وليلة عشر مرّات ، وليس في شيء منها الإشعار بالاختصاص ، فضلاً عن الدلالة والظهور .
وتؤيّده الروايات الواردة في باب العدول من سورة إلى اُخرى ، الدالّة على جواز الانتقال ما لم يتجاوز النصف ، وعدم جواز الانتقال من بعض السّور إلى اُخرى ، إلاّ إلى خصوص بعضها(1) ; فإنّها متعرّضة لحكم العدول مطلقاً ، وعلى تقدير التحريف لا يبقى مجال لبيان هذا الحكم على النحو الوسيع المذكور في الروايات ، كما هو ظاهر .
الثالث : دعوى كون الثابت في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو وجوب قراءة سورة كاملة من
- (1) وسائل الشيعة: 6 / 99 ـ 101 ، كتاب الصلاة ، أبواب القراءة في الصلاة ب36 و 37 .
(الصفحة 246)
القرآن الواقعي ، والثابت في زمن الأ ئـمّة (عليهم السلام) بمقتضى الروايات الصادرة عنهم ، هو وجوب قراءة سورة من القرآن الموجود الذي كان بأيدي الناس ، وإن لم تكن سورة كاملة من القرآن الواقعي، وبهذاالوجه يصحّ للمكلّف اختيارماشاءمن السور، ففي الحقيقة يكون ذلك ترخيصاً من الأ ئـمّة (عليهم السلام) وتسهيلاً من ناحيتهم المقدّسة .
ويردّه : أ نّ هذه الدعوى ترجع إلى النسخ ; ضرورة أنّه ليس إلاّ رفع الحكم الثابت الظاهر في الدوام والاستمرار ، فإذا كان الحكم الثابت في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) عبارة عن وجوب قراءة سورة كاملة من القرآن الواقعي ، وفرض ارتفاعه وتبدّله إلى الحكم بوجوب قراءة سورة من الكتاب الموجود ، فليس هذا إلاّ النسخ ، وهو وإن فرض إمكانه بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، إلاّ أنّه قد وقع الإجماع والاتّفاق على عدم وقوعه ، فهذه الدعوى مخالفة للإجماع .
ثمّ إنّه أجاب المحدّث المعاصر عن أصل الدليل الذي ذكره الصدوق (رحمه الله) بما حاصله : أ نّ ما جاء من ذلك عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو أقلّ قليل في كتب الأحاديث المعتبرة ، فلا منافاة بينه وبين ورود التحريف عليه بعده (صلى الله عليه وآله) ، وعدم التمكّن من امتثال ما ذكره وأمره ، كما لا منافاة بين حثّه (صلى الله عليه وآله) على التمسّك باتّباع الإمام (عليه السلام) ، وأمره بأخذ الأحكام عنه ، ومتابعة أقواله وأفعاله وسيره ، والكون معه حيثما كان ، وعدم القدرة على ذلك ; لعدم تمكّنه (عليه السلام) لإظهار ما أودع عنده لخوف وتقيّة ، أو عدم تمكّن الناس من الوصول إليه (عليه السلام) والانتفاع به (عليه السلام) لذلك أو لغيره من الأعذار .
وما ورد عن الأ ئـمّة (عليهم السلام) من بعده ، فالمراد منه الداير بين الناس ; للانصراف ، ولكون بنائهم على إمضاء الموجود ، وتبعيّة غيرهم فيه . . . ثمّ إنّ الثواب المذكور إمّا للموجود خاصّة ، كما هو الظاهر من الروايات ، ويكون للمشتمل على المحذوف أزيد منه ، لم يذكروه لعدم القدرة على تحصيله ، أو هو للثاني ، وإنّما يجزئ قارئ الناقص به تفضّلاً من الله تعالى ; لعدم كونهم سبباً للنقص ، وللتسامح في النقيصة ،
(الصفحة 247)
وصدق قراءة ما علّق عليه في الخبر عليه(1) .
ويدفعه : ما عرفت(2) من عدم كون ما ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) مقصوراً على زمانه ، ومحدوداً بحياته ، بل هو كسائر الأحكام المشرّعة في زمانه ، الظاهرة في الدوام والاستمرار ، فيشمله مثل قوله : «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(3) ، فلا ينفع عدم وقوع التحريف في زمنه ، ووقوعه بعده ـ على تقديره ـ في قصر الحكم على مدّة حياته .
ومن أنّ كون المراد ممّا ورد عن الأ ئـمّة (عليهم السلام) هو القرآن الموجود ; لبنائهم على التبعيّة يرجع إلى النسخ لا محالة ، وقد عرفت الاتّفاق على عدم تحقّقه بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) . وإذن فلا محيص عن القول بأنّ ما ورد في ذلك من النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) ظاهر في بقاء الكتاب على ما هو عليه ، وعدم وقوع تحريف فيه ، وأ نّ ما بأيدي الناس نفس ما نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) من دون اختلاف ، وقد عرفت أيضاً(4) في بعض الاُمور السابقة الفرق بين الرجوع إلى الكتاب ، وبين التمسّك بالعترة (عليهم السلام) ، وأ نّه لا مجال لمقايسة أحدهما على الآخر أصلاً ، فراجع .
الدليل السابع : من الاُمور الدالّة على عدم التحريف : الدليل العقلي الذي ذكره بعض الأعلام ، وملخّصه مع تقريب منّا : «أ نّ القائل بالتحريف إمّا أن يدّعي وقوعه وصدوره من الشيخين بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإمّا أن يدّعي وقوعه وتحقّقه من
- (1) فصل الخطاب ، الباب الثاني ، الأمر الثالث : 339 ـ 340 .
(2) في ص239 ـ 240 .
(3) بصائر الدرجات: 148 ، الجزء 3 ب 13 ح 7 ، الكافي: 1 / 58 ، كتاب فضل العلم ب 19 ح 19 عن أبي عبدالله (عليه السلام) . وأخرجه في بحار الأنوار: 11 / 56 قطعة من ح55 و ج68 / 326 قطعة من ح2 عن المحاسن: 1 / 420 قطعة من ح963 ، وفي ج16 / 353 قطعة من ح38 عن الكافي 2 / 18 قطعة من 2 .
(4) فى ص 232 ـ 233 .
(الصفحة 248)
عثمان بعد انتهاء الأمر إليه ووصول النوبة به ، وإمّا أن يقول بصدوره من شخص آخر بعده ، فهذه احتمالات ثلاثة لا رابع لها» وجميعها فاسدة .
أمّا الاحتمال الأوّل : فيدفعه أنّهما في هذا التحريف إمّا أن يكونا غير عامدين ، وإنّما صدر عنهما من جهة عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، نظراً إلى عدم كونه مجموعاً قبل ذلك في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وإمّا أن يكونا متعمّدين ، وعلى هذا التقدير ، فإمّا أن يكون التحريف الواقع منهما في الآيات التي لها مساس بزعامتهما لوقوع التصريح فيها ، أو ظهورها في ثبوت الخلافة والولاية لأهلها ; وهو عليّ أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين ، وإمّا أن يكون في غيرها من الآيات .
فالتقادير المتصوّرة ثلاثة :
أمّا التقدير الأوّل : الذي مرجعه إلى عدم وصول القرآن إليهما بتمامه ، وكونهما غير متعمّدين في التحريف .
فيردّه : أ نّ اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأمر القرآن ، والأمر بحفظه وقراءته ، وترتيل آياته ، واهتمام الصحابة بذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته ، يورث القطع بكون القرآن محفوظاً عندهم ، جمعاً أو متفرّقاً ، حفظاً في الصدور ، أو تدويناً في القراطيس ، وقد اهتمّوا بحفظ أشعار الجاهليّة وخطبها ، فكيف لم يكن يهتمّون بأمر الكتاب العزيز الذي عرّضوا أنفسهم للقتل في نشر دعوته ، وإعلان أحكامه ، وهجروا في سبيله أوطانهم ، وبذلوا أموالهم ، وأعرضوا عن نسائهم وأطفالهم ؟ وهل يحتمل عاقل مع ذلك كلّه عدم اعتنائهم بالقرآن ، حتّى يضيع بين الناس ، أو يحتاج في إثباته إلى شهادة شهادتين ؟
على أنّ روايات الثقلين دالّة على بطلان هذا الاحتمال ; فإنّ قوله (صلى الله عليه وآله) : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله، وعترتي»(1) لا يصحّ إذا كان بعض القرآن ضائعاً في
- (1) كمال الدين: 234ـ 241 ح44 ـ 64 ، وقد تقدّمت بتفصيلها والبحث فيها في ص228 ـ 237 .
(الصفحة 249)
عصره ; فإنّ المتروك حينئذ يكون بعض الكتاب لا جميعه ، بل وفي هذه الروايات دلالة صريحة على تدوين القرآن وجمعه في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لأنّ الكتاب لا يصدق على مجموع المتفرّقات ، ولا على المحفوظ في الصدور .
وأمّا التقدير الثاني : الذي يرجع إلى أ نّهما حرّفا القرآن عمداً في الآيات التي لا تمسّ بالزعامة والخلافة . فهو بعيد في نفسه ، بل مقطوع العدم ; ضرورة أنّ الخلافة كانت مبتنية على السياسة ، وإظهار الاهتمام بأمر الدين ، وحفظ القرآن الذي كان مورداً لاهتمام المسلمين ، وهلاّ احتجّ بذلك أحد الممتنعين عن بيعتهما ، المعترضين على أبي بكر في أمر الخلافة ؟ ولم يذكر ذلك عليّ (عليه السلام) في خطبته الشقشقيّة(1) ـ المعروفة ـ وغيرها .
وأمّا التقدير الثالث : الذي يرجع إلى وقوع التحريف منهما عمداً في الآيات الواردة في موضوع الخلافة . فهو أيضاً مقطوع العدم ; فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) والصدِّيقة الطاهرة ـ سلام الله عليها ـ وجماعة من الصحابة قد عارضوهما في أمر الخلافة ، واحتجّوا عليهما بما سمعوا من النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، واستشهدوا على ذلك من شهد من المهاجرين والأنصار ، واحتجّوا عليه بحديث الغدير وغيره ، ولو كان في القرآن شيء يمسّ بزعامتهم ; لكان أحقّ بالذكر في مقام الاحتجاج ، وأحرى بالاستشهاد عليه من جميع المسلمين ، مع أنّه لم يقع ذلك بوجه ، كما يظهر من كتاب «الاحتجاج» المشتمل على احتجاج اثني عشر رجلاً على أبي بكر في أمر الخلافة (2) ، ومن العلاّمة المجلسي ـ رحمة الله تعالى عليه ـ في البحار ، حيث عقد باباً لاحتجاج أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) في أمر الخلافة (3) .
- (1) نهج البلاغة للدكتور صبحي صالح: 48، الخطبة 3 .
(2) الاحتجاج: 1 / 186 ـ 203 ، الرقم 37 ، وعنه بحار الأنوار: 28 / 189 ب 4 ح 2 .
(3) بحار الأنوار: 29 / 3 ب5 ، وج31 / 315 ـ 447 ب26 و 27 .