(الصفحة 250)
فانقدح أنّ الاحتمال الأوّل فاسد بجميع تقاديره .
وأمّا الاحتمال الثاني : وهو وقوع التحريف من عثمان ، فهو أبعد من الدعوى الاُولى ; لأنّ الإسلام قد انتشر في زمانه على نحو لم يكن في إمكانه وإمكان من هو أكبر منه أن ينقص من القرآن شيئاً .
ولأنّه لو كان محرِّفاً للقرآن لكان في ذلك أوضح حجّة ، وأكبر عذر لقتلة عثمان علناً ، ولما احتاجوا في الاحتجاج على ذلك إلى مخالفته لسيرة الشيخين في بيت مال المسلمين ، وإلى ما سوى ذلك من الحجج .
ولأ نّه كان من الواجب على عليّ (عليه السلام) بعد عثمان أن يردّ القرآن إلى أصله الذي كان يقرأ به في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) وزمان الشيخين ، ولم يكن عليه في ذلك شيء ينتقد به ، بل ولكان ذلك أبلغ أثراً في مقصوده ، وأظهر لحجّته في الثائرين بدم عثمان ، ولاسيّما أ نّه (عليه السلام) قد أمر بإرجاع القطائع التي أقطعها عثمان ، وقال في خطبة له : «والله لو وجدته قد تُزُوِّج به النساء ، ومُلك به الإماء لرددته ; فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل ، فالجور عليه أضيق»(1) هذا أمر عليّ (عليه السلام) في الأموال ، فكيف يكون أمره في القرآن لو كان محرّفاً؟!(2) .
- (1) نهج البلاغة ، للدكتور صبحي الصالح: 57 ، الخطبة 15 .
(2) والإنصاف : أ نّ هذه الجهة بنفسها تكفي لدفع احتمال التحريف الذي يدّعي القائل به وقوعه في زمن الخلفاء الثلاثة ; فإنّ إمضاء عليّ(عليه السلام) للقرآن الموجود في عصره ، وعدم التعرّض لتكميله على تقدير التحريف ، بل وعدم التفوّه بذلك ، دليل على كماله وعدم نقصه ; لأنّه(عليه السلام) لم يتقبّل أمر الخلافة الظاهريّة لأجل حبّها وحبّ الرئاسة ، بل لأجل ترويج الدين وتأييد شريعة سيِّد المرسلين (صلى الله عليه وآله) . ومع هذا الفرض فلم يكن هناك موضوع أهمّ من ردّ القرآن إلى أصله لو كان محرّفاً ، مع كونه هو الثقل الأكبر ، والمعجزة الوحيدة الخالدة إلى يوم القيامة ، واقتداره على ذلك بعد استقرار أمره كان واضحاً ضروريّاً ، وعلى تقدير العدم فالمبارزة لأجله ـ حتّى مع البلوغ إلى مرتبة بذل الخلافة والإعراض عنها ـ كانت لائقة ، فالإنصاف أ نّ هذا الدليل كاف لدفع أصل التحريف وإبطال القول به ، بشرط الخلوّ عن التعصّب ، وعدم الجمود على خلاف إدراك العقل .
(الصفحة 251)
وأمّا الاحتمال الثالث : الذي مرجعه إلى دعوى وقوع التحريف بعد زمان الخلفاء ، فلم يدّعها أحد فيما نعلم ، غير أنّها نسبت إلى بعض القائلين بالتحريف ، فادّعى أ نّ الحجّاج لمّا قام بنصرة بني اُميّة أسقط من القرآن آيات كثيرة كانت قد نزلت فيهم ، وزاد فيه ما لم يكن منه ، وكتب مصاحف وبعثها إلى مصر والشام والحرمين ، والبصرة والكوفة ، وأ نّ القرآن الموجود اليوم مطابق لتلك المصاحف ، وأمّا المصاحف الاُخرى فقد جمعها ولم يُبقِ منها شيئاً ولا نسخة واحدة (1) .
أقول : ولعلّ من هذه الجهة قول بعض القائلين بالتحريف في آية (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر) (2) في سورة القدر : إنّ أصلها كان هكذا : «ليلة القدر خير من ألف شهر» يملكها بنو اُميّة وليس فيها ليلة القدر(3) ، مع أنّ ملاحظة مقدار آيات تلك السورة وقصور معنى هذه الآية الأصليّة ، بل عدم ارتباط موضوع ليلة القدر بأمر خلافتهم يكفي في القطع ، بخلاف ذلك وإن لم يكن هنا دليل على عدم التحريف ، فضلاً عن الأدلّة الكثيرة المتقدّمة الدالّة على ذلك بأقوى دلالة .
وكيف كان ، فالدليل على بطلان الاحتمال الثالث: أ نّ الحجّاج كان واحداً من ولاة بني اُميّة ، وهو أقصر باعاً ، وأصغر قدراً ، وأقلّ وزناً من أن ينال القرآن بشيء ، بل وهو أحقر من أن يغيّر شيئاً من الفروع الإسلامية ، فكيف في إمكانه أن يغيّر ما هو أساس الدين ، وقوام الشريعة ؟! ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها ، مع انتشار القرآن فيها ؟!
وعلى تقديره ، وفرض وقوعه . فكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرّخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده ، مع ما فيه من الأهمّية ، وكثرة الدّواعي إلى نقله ؟! وكيف أغضى المسلمون عن هذه الجناية ـ التي لم يكن مثلها جناية ـ بعد انتهاء أمر
- (1) اُنظر مناهل العرفان في علوم القرآن: 1 / 217 .
(2) سورة القدر 97 : 3 .
(3) تفسير القمّي: 2 / 431 ، سنن الترمذي: 5 / 444 ب 97 ح 3361 .
(الصفحة 252)
الحجّاج ، وانقضاء عهده ، وزوال اقتداره وسلطنته ؟! .
على أنّه كيف تمكّن من جمع نسخ المصاحف كلّها ، ولم تشذّ عن قدرته نسخة واحدة في أقطار المسلمين المتباعدة ؟ وعلى تقدير تمكّنه من ذلك ، فهل تمكّن من إزالته من صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن ، وعددهم في ذلك الوقت لايحصيه إلاّ الله ؟!
مع أنّ القرآن لو كان في بعض آياته يمسّ بني اُميّة ، لاهتمّ معاوية بإسقاطه قبل زمان الحجّاج ، وهو أشدّ منه قدرةً ، وأعظم نفوذاً ، ولاستدلّ به أصحاب عليّ (عليه السلام) على معاوية ، كما احتجّوا عليه بما حفظه التاريخ وكتب الحديث والكلام»(1) .
أضف إلى ذلك : التحريف بالزيادة قد قام الإجماع على عدمه ، وأ نّ موضوع الخلاف هو التحريف بالنقيصة ، فكيف ادّعى القائل وقوع الزيادة فيه ؟! فهذا الاحتمال أيضاً فاسد ، وبفساده يتمّ الدليل السابع الذي كان هو الدليل العقلي على عدم التحريف ، فانقدح أ نّ الاعتبار إنّما يساعد على عدم التحريف لا ثبوته ، كما ادّعاه صاحب الكفاية(قدس سره) (2) .
وبما قدّمنا من الاُمور والأدلّة السبعة على عدم التحريف; يتّضح أنّ من يدّعي التحريف مع كونه مخالفاً للنقل يضادّ بداهة العقل أيضاً ، وأ نّ دعوى التحريف لاتكاد تصدر إلاّ ممّن اغترّ ببعض ما يدلّ عليه ، ممّا سيجيء الجواب الوافي عنه إن شاء الله تعالى ، وممّن خدع من طريق الجهات السياسيّة المشبوهة التي لا ترى الارتقاء والتسلّط لنفسها إلاّ بتضعيف الدين ، وإيجاد التفرقة بين المسلمين ، وتنقيص الكتاب المبين ، الذي كان الغرض من تنزيله هداية الناس إلى يوم الدين ،
- (1) البيان في تفسير القرآن: 215 ـ 219 .
(2) كفاية الأصول: 284 ـ 285 ، حجّية ظواهر الكتاب .
(الصفحة 253)
وإخراجهم من ظلمات الريب والشكّ إلى عالم النور واليقين .
وربما كان المدّعي للتحريف ممّن له التفات إلى هذه الجهات ، وكان الغرض من دعواه ما ذكرنا من إيجاد الثلمة في الإسلام والمسلمين نعوذ بالله من كلا الأمرين ، ونسأل منه التوفيق للتمسّك بالثقلين ، وأن لا نتعصّى من حكم العقل في كلّ ما يقع في البين .
وحيث إنّه يمكن أن يتخيّل الباحث الطالب للحقيقة صحّة ما يقول به القائل بالتحريف من الشبهة ، أو يقع في الارتياب بعض الطلبة ، فلابدّ لنا من التعرّض للجميع والجواب الصحيح ، فنقول : الشبهات التي تشبّث بها القائلون بالتحريف متعدّدة .
(الصفحة 254)