(الصفحة 27)وجوه إعجاز القرآن
آيات التحدّي
ليس في الكتاب العزيز ما يدلّ بظاهره على توصيفه بالإعجاز الاصطلاحي بهذه اللفظة ، بل وقع فيه التحدّي به ، الذي هو الركن الأعظم للمعجزة ، وتتقوّم به حقيقتها ، والآيات الدالّة على التحدّي بمجموع القرآن أو ببعضه لا تتجاوز عن عدّة آيات:
أوّلها : الآية الكريمة الواردة في سورة الإسراء : (قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوابِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِوَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا) (1) .
والظاهر من الآية الكريمة الإخبار عن عدم الإتيان بمثل القرآن ; لأجل عدم تعلّق قدرتهم به ، وأنّ القرآن يشتمل على خصوصيّات ومزايا من جهة اللفظ والمعنى لا يكاد يقدر عليها الإنس والجنّ ، وإن اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيراً ، فاتّصاف القرآن بأنّه معجز إنّما هو من جهة الخصوصيّة الموجودة في نفسه ،
- (1) سورة الإسراء 17 : 88 .
(الصفحة 28)
البالغ بتلك الخصوصيّة حدّاً يعجز البشر عن الإتيان بمثله .
وعليه: فما ذهب إليه من وصف بأنّه شيطان المتكلِّمين(1); من القول بالصرف في إعجاز القرآن ، وأنّ الله صرف الناس عن الإتيان بمثله مع ثبوت وصف القدرة لهم ، وتوفّر دواعيهم عليه (2) ، مناف لما هو ظاهر الآية الشريفة ، المعتضد بما هو المرتكز في أذهان المتشرّعة من بلوغ القرآن علوّاً وارتفاعاً إلى حدٍّ لا تصل إليه أيدي الناس ، ولا محيص لهم إلاّ الاعتراف بالعجز والقصور والخضوع لديه .
فهذا القول باطل من أصله وإن استصوبه الفخر الرازي في تفسيره ، واختاره ،
- (1) وهو أبو إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام ، شيخ الجاحظ; وهو من زعماء المعتزلة ، ونسبت إليه الفرقة النظاميّة ، توفي سنة بضع وعشرين ومائتين في خلافة المعتصم العباسي أو الواثق . ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي 9 : 213 ـ 214 الرقم 1710 . وذكر الرافعي في إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة : 101 ، بأنّ النظّام شيطان المتكلّمين ، وأنّه من شياطين أهل الكلام .
(2) فقد ذهب إلى القول بالصرفة عددٌ من علماء المعتزلة وغيرهم وإن اختلفوا في المقصود منها . فأبو إسحاق النظّام ، ذهب إلى أنّ إعجاز القرآن إنّما كان بـ «الصِّرفة» أي: أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ صرف البشر عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها ، وخلق فيهم العجز عن محاكاته في أنفسهم وألسنتهم ، ولولا أنّ الله صرفهم عن ذلك لاستطاعوا أن يأتوا بمثله; أي كان مقدوراً لهم ، ولكن عاقهم أمر خارجيّ . . . وقد بالغ النظّام في القول بالصرفة حتى عُرِفت به ، فصوّبه فيه قوم وشايعه عليه آخرون فيما خالفه جمع كثير ، وكان من ردودهم عليه واعتراضاتهم أنّ قوله هذا يستلزم كون القرآن ليس معجزاً بذاته بل بأمر خارجي ، بل الصرفة هي المعجزة لا القرآن . . . .[ اُنظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ت 671 هـ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، الجزء الأوّل: 75 ـ 76 ] ، الإتقان في علوم القرآن 4 : 7 ، إعجاز القرآن والبلاغة النبويّة: 101 ، التبيان في علوم القرآن للصابوني: 149 . وممّن ذهب إلى هذا القول الشيخ المفيد; وهو من علماء الإماميّة ، حيث قال في جهة إعجاز القرآن: إنّ جهة ذلك هو الصّرف من الله ـ تعالى ـ لأهل الفصاحة واللّسان عن المعارضة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بمثله في النّظام عند تحدّيه لهم ، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم ـ دليلاً على نبوّته (صلى الله عليه وآله) ، واللطف من الله ـ تعالىـ مستمرّ في الصّرف عنه إلى آخر الزمان ، وهذا من أوضح برهان في الإعجاز وأعجب بيان ، وهو مذهب النظّام ، وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال .[ أوائل المقالات ، المطبوع ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد 4: 63 ] .
(الصفحة 29)
خصوصاً بالإضافة إلى السور القصيرة ، كسورتي العصر والكوثر ; زاعماً أنّ دعوى خروج الإتيان بأمثال هذه السور عن مقدور البشر مكابرة ، والإقدام على أمثال هذه المكابرات ممّا يطرق التّهمة إلى الدين(1) . وسيأتي(2) البحث معه في اتّصاف السورة القصيرة بالإعجاز .
ثانيها : ما ورد في سورة يونس من قوله ـ تعالى ـ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَئهُ قُلْ فَأْتُوابِسُورَة مِّثْلِهِوَ ادْعُوامَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ) (3) .
ثالثها : ما ورد في سورة هود من قوله ـ تعالى ـ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَئهُ قُلْ فَأْتُوابِعَشْرِ سُوَر مِّثْلِهِمُفْتَرَيَـت وَ ادْعُوامَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُواأَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (4) .
وهذه السور الثلاث على ما رواه الجمهور نزلت بمكّة متتابعات (5) ، وفي رواية عن ابن عبّاس: أنّ سورة يونس مدنيّة ، والرواية الاُخرى عنه الموافقة لقول الجمهور ولاُسلوبها ; فإنّه اُسلوب السور المكّية(6) .
وها هنا إشكال ، وهو: أنّ الترتيب الطبيعي في باب التحدّي يقتضي التحدّي أوّلاً بالقرآن بجملته ، ثمّ بعشر سور مثله ، ثمّ بسورة واحدة مثله ، مع أنّه على رواية
- (1) التفسير الكبير للفخر الرازي: 1 / 349 .
(2) في ص36 ـ 38.
(3) سورة يونس 10 : 38 .
(4) سورة هود 11 : 13 ـ 14 .
(5) السور الثلاث (يونس وهود والإسراء) مكيّة إلاّ بعض الآيات على قول ، لاحظ كتب التفاسير ، منها: التفسير الكبير للفخر الرازي: 6 / 183 تفسير سورة يونس ، و ص 312 تفسير سورة هود، و ج 7: 291 تفسير سورة الإسراء . والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8 / 304 تفسير سورة يونس ، و ج 9 / 1 تفسير سورة هود ، و ج10: 203 تفسير سورة الإسراء .
(6) عمدة القاري: 13 / 41 ، الإتقان في علوم القرآن : 1 / 47 ، روح المعاني: 11 / 79 .
(الصفحة 30)
الجمهور وقع التحدّي بالعشر متأخّراً عن التحدّي بسورة واحدة . نعم ، لا مجال لهذا الإشكال بناءً على إحدى روايتي ابن عبّاس من كون سورة يونس بتمامها مدنيّة .
وحكي عن بعض(1) في مقام التفصّي عن هذا الإشكال أنّ الترتيب بين السور ونزول بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور ، فكم من آية مكّية موضوعة في سورة مدنيّة وبالعكس ، فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدّي من هذا القبيل ; بأن تكون آية التحدّي بعشر سور نازلةً بعد آية التحدّي بالقرآن في جملته ، وقبل آية التحدّي بسورة واحدة ، بل جعل الفخر الرازي في تفسيره مقتضى النظم والترتيب الطبيعي قرينةً على هذا التقديم والتأخير(2) .
ويرد على هذا البعض: أنّ مجرّد الاحتمال لا يحسم مادّة الإشكال ، وعلى الفخر : أنّ صيرورة ذلك قرينة إنّما تتمّ على تقدير عدم إمكان التوجيه بما لا يخالف الترتيب الطبيعي ، وهو لم يثبت بعد .
وحكي عن بعض آخر(3) في مقام الجواب عن أصل الإشكال ما حاصله ـ على ما لخّصه بعض من مفسِّري العصر ـ : أنّ القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمّنه من المعارف ، والأخلاق ، والأحكام ، والقصص وغيرها ، وينعت به من الفصاحة والبلاغة وانتفاء الاختلاف ، وإنّما تظهر صحّة المعارضة والإتيان بالمثل عند إتيان عدّة من السور يظهر به ارتفاع الاختلاف ، وخاصّة من بين القصص المودعة فيها مع سائر الجهات ، كالفصاحة والبلاغة والمعارف وغيرها .
- (1) الحاكي هو الشيخ محمّد رشيد رضا في تفسير القرآن العظيم ، المعروف بـ «تفسير المنار»: 12 / 30 والعلاّمة الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن: 10 / 168ـ 169 .
(2) التفسير الكبير للفخر الرازي: 1 / 349 ، الآية 23 ـ 24 من سورة البقرة .
(3) وهو الشيخ محمّد رشيد رضا في تفسير القرآن العظيم ، المعروف بـ «تفسير المنار»: 12 /30ـ 34 .
(الصفحة 31)
وإنّما يتمّ ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التي تشتمل على جميع الشؤون المذكورة ، وتتضمّن المعرفة والقصّة والحجّة وغير ذلك ، كسورتي الأعراف والأنعام .
والتي نزلت من السور الطويلة القرآنية ممّا يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود ـ على ما ورد في الرواية(1) ـ هي: سورة الأعراف ، وسورة يونس ، وسورة مريم ، وسورة طه ، وسورة الشعراء ، وسورة النمل ، وسورة القصص ، وسورة القمر ، وسورة ص ، فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود ، وهذا هو الوجه في التحدّي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات(2) .
واُورد عليه ـ مضافاً إلى عدم ثبوت الرواية التي عوّل عليها ـ بأنّ ظاهر الآية أنّ رميهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالافتراء قول تقوّلوه بالنسبة إلى جميع السور القرآنيّة ، طويلتها وقصيرتها ، فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادّة الشبهة بالنسبة إلى كلّ سورة قرآنيّة ، لا خصوص الإتيان بعشر سور طويلة جامعة للفنون القرآنيّة ، مع أنّ الضمير في «مثله» الواقع في الآية الشريفة إن كان راجعاً إلى القرآن ـ كما هو ظاهر هذا القائل ـ أفاد التحدّي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقاً ; سواء في ذلك الطوال والقصار ، فتخصيص التحدّي بعشر سور طويلة جامعة; تقييد من غير مقيّد ، وإن كان عائداً إلى سورة هود كان مستبشعاً من القول ، خصوصاً بعد عدم اختصاص الرمي بالافتراء بسورة هود ; لأنّه كيف يستقيم في مقام الجواب عن الرمي بأنّ مثل سورة الكوثر من الافتراء أن يقال: ائتوا بعشر سور مفتريات مثل سورة هود؟ كما هو واضح(3) .
- (1) لم نعثر عليه عاجلاً .
(2) هذا ما لخّصه صاحب تفسير الميزان: 10 / 169 ـ 170 .
(3) المورد هو العلاّمة الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن: 10 / 170 .