(الصفحة 287)
أبو الدرداء عويمر بن زيد ، معاذ بن جبل بن أوس ، أبو زيد ثابت بن زيدبن النعمان ، أُبيّ بن كعب بن قيس بن ملك بن امرئ القيس ، عبيد بن معاوية بن زيد ابن ثابت بن الضحاك(1) .
وما قاله الحارث المحاسبي(2) في محكيّ كتاب «فهم السنن» ممّا هذا لفظه: كتابة القرآن ليست بمحدثة ; فإنّه (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بكتابته ، ولكنّه كان مفرَّقاً في الرقاع والأكتاف والعُسُب ، فإنّما أمر الصدِّيق بنسخها من مكان إلى مكان مجتمعاً ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وُجدت في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فيها القرآن منتشر ، فجمعها جامع وربطها بخيط حتّى لا يضيع منها شيء(3) .
الجهة الثالثة: تعارضها مع الكتاب والعقل
إنّ هذه الروايات التي استند إليها القائل بالتحريف مخالفةٌ للكتاب والعقل:
أمّا مخالفتها للكتاب; فلأنّه قد وقع في الكتاب العزيز تعبيرات لا تتلاءم إلاّ مع تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتميّز السور بعضها عن بعض ، وحصول التأليف والتركيب بين الآيات ، بل وبين السّور ، وذلك مثل التعبير بـ «السورة» في آيات متعدّدة; كآيات التحدّي بالسورة(4) ، أو بعشر سور(5) ; فإنّ هذا التعبير لا يتلاءم
- (1) كتاب الفهرست للنديم: 30 .
(2) هو الحارث بن أسد المحاسبي ، ويكنّى أبا عبدالله ، من أكابر الصوفيّة ، كان عالماً بالاُصول والمعاملات ، له كتاب الرعاية لحقوق الله عزّوجلّ ، وهو اُستاذ أكثر البغداديّين في عصره ، توفّي ببغداد سنة 243هـ . اُنظر (وفيات الأعيان لابن خلّكان) 2: 57 ـ 58 ، وتهذيب التهذيب 2: 134 ، الرقم 226 .
(3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 206 ـ 207 ، النوع الثامن عشر .
(4) سورة البقرة 2: 23 ، سورة التوبة 9: 64 ، 86 ، 124 و 127 ، سورة يونس 10: 38 ، سورة النور 24: 1 ، سورة محمّد (صلى الله عليه وآله) 47: 20 .
(5) سورة هود 11: 13 .
(الصفحة 288)
مع تفرّق الآيات وتشتّتها ، وعدم تحقّق التأليف والتركيب بينها ; ضرورة أنّ السورة عبارة عن مجموعة آيات متعدّدة مركّبة منضمّة متناسبة من حيث الغرض المقصود منها ، فالتعبير بها لا يتناسب إلاّ مع التميّز والاختصاص .
ومثل التعبير عن القرآن بـ «الكتاب» ، كما في آيات كثيرة التي منها: قوله ـ تعالى ـ : (ذَ لِكَ الْـكِتَـبُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (1) . وقوله ـ تعالى ـ : (كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَـتِ إِلَى النُّورِ) (2) .
وقد وقع هذا الإطلاق في لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله) في مثل حديث الثقلين المعروف بين الفريقين (3); فإنّ لفظ «الكتاب» ظاهر في المكتوب الذي كان مجموعاً مؤلّفاً ، ولو نوقش في هذا الظهور بملاحظة أصل اللغة ، فلا مجال للمناقشة بالنظر إلى العرف العامّ الذي اُلقي عليهم مثل هذه التعبيرات ; ضرورة أنّ ظهوره في المجموع المؤلّف ممّا لا ينبغي الارتياب فيه بهذا النظر ، فتدبّر .
وأ مّا مخالفتها للعقل ; فلأنّ الدعوة الإسلاميّة كانت من أوّل شروعها مبتنية على أمرين ، ومشتملة على جهتين:
إحداهما: أصل النبوّة والسفارة والوساطة .
ثانيتهما: كونه خاتمة للنبوّات والسفارات .
ومرجع الأخير إلى بقاء الدين القويم إلى يوم القيامة ، واستمرار الشريعة المقدّسة ودوامها ، بحيث لا نبيّ بعده ، ولا ناسخ له أصلاً ، «حلال محمّد (صلى الله عليه وآله) حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»(4) .
- (1) سورة البقرة 2 : 2 .
(2) سورة إبراهيم 14 : 1 .
(3) تقدّم في ص 172 ، 228 ـ 229 و 248.
(4) بصائر الدرجات: 148 ، الجزء الثالث ب 13 ح 7 ، الكافي: 1 / 57 ، كتاب فضل العلم ب 19 ح 19 ، وقد تقدّم في ص247 .
(الصفحة 289)
ومن الواضح: أ نّ الإتيان بالمعجزة المثبتة لهذه الدعوى لابدّ وأن يكون صالحاً لإثبات كلا الأمرين ، وقابلاً للاستناد إليه في كلتا الدعويين ، فالمعجزة في هذا الدين تمتاز عن معجزات الأنبياء السالفين ، وتختصّ بخصوصيّة لا توجد في معجزات السفراء الماضين ، ولأجله تختلف ـ سنخاً ونوعاً ـ مع تلك المعجزات غير الباقية ، والاُمور الخارقة للعادة التي كان الغرض منها إثبات أصل النبوّة .
ومن المعلوم أيضاً: أنّ هذا الوصف إنّما يختصّ به القرآن المجيد ، ولا يوجد في معجزات النبيّ (صلى الله عليه وآله) الأُخرى ; فإنّه هي المعجزة الوحيدة الخالدة، والدليل الفذّ الباقي إلى يوم القيامة ، فالقرآن من حين نزوله كان ملحوظاً بهذا الوصف ، ومنظوراً من هذه الجهة ، التي ليس فوقها جهة ولا يرى شأن أعظم منها ، كما لا يخفى .
ومع وجود هذه الخصوصيّة ، وثبوت هذه العظمة ، كيف يمكن توهّم أ نّه لم يجمع في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ولم يعتنِ بشأنه ـ من جهة الجمع ـ الرسولُ الأعظم ، ولا أحد من المسلمين ، مع شدّة اهتمامهم به وبحفظه وقراءته وتعلّمه وتعليمه ، وتدريسه وتدرّسه ، وأخذ فنون المعارف والأحكام والقصص والحِكم وسائر الحقائق منه؟!
وهل يتوهّم من له عقل سليم وطبع مستقيم أن يوكِلَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله) أمرَ جمع القرآن إلى من بعده ، ولا سيّما مع علمه بأنّ الذي يتصدّى للجمع بعده هو الذي لايكون متّصفاً بوصف العصمة ، بل وأعظم من ذلك من لاحظَّ له من العلم والمعرفة بوجه ; إذ لا محالة يكون جمعه ناقصاً من جهة التحريف، ومن جهة عدم تحقّق التناسب الكامل بين الآيات .
ومن الواضح: مدخليّته في ترتّب الغرض المقصود منه ; ضرورة أنّ ارتباط أجزاء الكتاب ووقوع كلّ جزء في موضعه ، له كمال المدخليّة في ترتّب غرض الكتاب ، خصوصاً في القرآن الذي كان غرضه أهمّ الأغراض من ناحية ، وعدم
(الصفحة 290)
كونه منحصراً بعلم خاصّ وفنّ مخصوص من ناحية اُخرى ; فإنّ التناسب في مثله لو لم يراع لا يتحقّق الغرض أصلاً .
فلا محيص عن الالتزام بتحقّق الجمع والتأليف في عصره(صلى الله عليه وآله) ، وكون سوره وآياته متميّزة بعضها عن بعض ، خصوصاً مع أنّه في القرآن جهات عديدة يكفي كلّ واحدة منها لأن تكون موضعاً لعناية المسلمين ، وسبباً لاشتهاره بين الناس ، حتّى عند الكافرين والمنافقين ، وذلك:
مثل بلاغته وفصاحته التي هي الغرض المهمّ للعرب في ذلك العصر ، ووضوح كون بلاغته واقعة في الدرجة العليا ، وفصاحته حائزة للمرتبة القصوى ، ومن هذه الجهة كان موضع توجّه لعموم الناس ـ المؤمن وغيره ـ المؤمن يحفظه ويقرؤه لإيمانه ، وللتلذّذ بألفاظه المقدّسة ، ومعانيها العالية ، والكافر والمنافق يمارسه رجاء معارضته ، والإتيان بمثله ، وإبطال حجّته .
ومثل الجهات الاُخر ; كالأجر والثواب المترتّب على حفظه وقراءته وتعليمه ، بل وعلى مجرّد النظر إلى آياته وسوره ، وكون النبيّ (صلى الله عليه وآله) مرغّباً في حفظه ومحرّكاً للمؤمنين إلى الرجوع إليه ، وكون الحافظ له شأن عظيم ، ومرتبة خاصّة بين المسلمين ، وغير ذلك من الجهات .
ولا بأس هنا بذكر كلام السيِّد المرتضى ـ قدّس سرّه الشريف ـ في هذا الشأن ، وكلام البلخي المفسِّر من علماء العامّة ، والجواب عمّا أورد عليهما المحدِّث المعاصر في كتابه الموضوع في التحريف .
قال السيّد المرتضى: إنّ القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن ، واستدلّ على ذلك بأ نّ القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتّى عيّن على جماعة من الصحابة ، في حفظهم له ، وأ نّه كان يعرض على النبيّ (صلى الله عليه وآله) ويُتلى عليه ، وأ نّ جماعة من الصحابة; مثل عبدالله بن مسعود ، وأُبيّ بن
(الصفحة 291)
كعب ، وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور ولا مبثوث(1) .
وقال البلخي في تفسيره المسمّى بـ «جامع علم القرآن» ـ على ما نقله عنه السيّد ابن طاووس في محكيّ «سعدالسعود» ـ مالفظه:
وإنّي لأعجب من أن يقبل المؤمنون قول من زعم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترك القرآن الذي هو حجّة على اُمّته ، والذي تقوم به دعوته، والفرائض التي جاءبها من عند ربّه، وبه يصحّ دينه الذي بعثه الله داعياً إليه، مفرّقاً في قطع الخرق ، ولم يجمعه ولم يصنه ، ولم يحفظه ، ولم يحكم الأمر في قراءته ، وما يجوز من الاختلاف فيها وما لا يجوز ، وفي إعرابه ومقداره ، وتأليف سوره وآيه; هذا لايتوهّم على رجل من عامّة المسلمين، فكيف برسول ربّ العالمين (صلى الله عليه وآله) ؟!(2)
وأورد المحدِّث المعاصر على السيّد المرتضى:
أوّلاً : أنّ القرآن نزل نجوماً ، وتمّ بتمام عمره (صلى الله عليه وآله) ، فإن صحّ ما نقله ، فالمراد درس ما كان عنده من السور والآيات .
وثانياً: أنّ قعود أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيته بعده (صلى الله عليه وآله) لجمع القرآن وتأليفه خوفاً من ضياعه ، ممّا لا يقبل الإنكار بعد استفاضة الأخبار بذلك ، وكيف يجتمع هذا مع كونه مجموعاً مؤلَّفاً مرتّباً متداولاً بين الصحابة في حياته .
وثالثاً: بما ملخّصه: أنّ ما نقله ابن مسعود ، وأُبيّ وغيرهما ، فإنّما هو من خبر ضعيف ، رواه المخالفون ، ثمّ ذكر طائفة من الروايات المتقدّمة الدالّة على أنّ الجمع وقع في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) (3) .
- (1) حكى عنه في مجمع البيان: 1 / 15 ـ 16 مقدّمة الكتاب ، الفنّ الخامس . وذكره المحدث النوري في فصل الخطاب: 14 مع تغيير لا يضرّ .
(2) سعد السعود: 315 . وذكره المحدّث النوري في فصل الخطاب: 14 مع تغيير يسير .
(3) فصل الخطاب: 16 ـ 17 .