(الصفحة 292)
وأورد على البلخي:
أوّلاً: بالنقض على مذهبه ، فإنّه (صلى الله عليه وآله) مع علمه بأنّه يموت في مرضه ، وتختلف اُمّته بعده ثلاثاً وسبعين فرقة(1) ، وأنّه ترجع بعده كفّاراً يضرب بعضهم رقاب بعض(2) ، كيف لم يعيّن لهم من يقوم مقامه ، ولا قال لهم: اختاروا أنتم حتّى تركهم في ضلال مبين إلى يوم الدين . . .؟! فإذا جاز توكيل هذا الأمر العظيم إليهم مع اختلاف الآراء وتشتّت الأهواء ، جاز توكيل أمر جمع القرآن وتأليفه إليهم .
وبالحلّ ثانياً: وهو; أ نّا نسلّم أنّ القرآن بتمامه كان عنده (صلى الله عليه وآله) متفرّقاً ، وإنّما فوّض أمر الجمع والتأليف الذي هو سبب لبقائه وحفظه إلى من فوّض إليه جميع اُموره واُمور اُمّته بعده ، واحتياج الناس إليه; بحيث يختلّ عليهم أمرهم لولاه إنّما هو بعده ، وليس في ذلك تنقيص في نبوّته أصلاً ، بل في ذلك إعلاء لشأن من فوّض إليه الأمر ، وتثبيت لإمامته ، وإعلام برفعته ، وقد امتثل ما أمره به فجمعه بعده ، وحينئذ ، فإن أراد أنّ ما كان بأيديهم إنّما نسخوه من هذا المجموع المعيّن ، لا من الأماكن المتفرّقة من الصدور والألواح ، ففيه:
أوّلاً: أنّه لم يكن مرتّباً ، وإنّما ألّفه ورتّبه أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وقد هجروا مصحفه.
وثانياً: أنّ ما تقدّم بطرقهم المستفيضة صريح في أنّهم جمعوه من الأفواه والألواح المتفرّقة (3) .
والجواب: أمّا عن إيراده على السيّد المرتضى(قدس سره) : أ نّ نزول القرآن نجوماً وتماميّته بتمام عمره الشريف ، لا ينافي ما أفاده السيّد المرتضى بوجه ، خصوصاً بعد
- (1) بحار الأنوار 28: 2 ـ 36 ب1 .
(2) بحار الأنوار 9: 150 ، وج18: 122 ، وج22: 465 ، 487 ـ 488 ، وج32: 193 ، 290 ، 291 ، 293 و294 ، وج36: 23 و 33 ، و ج37: 183 و . . .
(3) فصل الخطاب 14 ـ 15 .
(الصفحة 293)
ملاحظة ما قدّمناه(1) من أنّ القرآن كان من حين نزوله متّصفاً بأنّه هي المعجزة الوحيدة الخالدة ، التي يتوقّف أساس الدين وأصل الشريعة على بقائها ووجودها بين الناس كما نزلت إلى يوم القيامة .
وسيأتي البحث(2) عن مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) وامتيازه عن المصحف المعروف ، وأ نّه لا يتفاوت معه في شيء يرجع إلى أصل القرآن وآياته أصلاً . ومانقله من أنّ ابن مسعود وأُبيّاً وغيرهما لا يكون الاعتماد فيه على ضعاف الأخبار العامّية ، بل على الأمر المعروف بين المسلمين من وجود مصحف لكلّ واحد منهم ، وظهور كون جمعهم في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعصره .
وأ مّا عن إيراده على البلخي: فإنّ النقض بمسألة الخلافة على طبق عقيدته فاسد ، خصوصاً لو كان مستنده ما ينسبونه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) : لا تجتمع اُمّتي على خطإ(3) ، كما هو واضح ، واختلاف المسألتين وتفاوتهما ، وانحصار الإعجاز في الكتاب ممّا لا ريب فيه ، وأ نّ المراد من الجمع والتأليف ـ الذي فوّض النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمره إلى من فوّض إليه جميع اُموره ـ إن كان الجمع بنحو يرجع إلى ترتيب الآيات والسور بحيث لم يكن في عهده (صلى الله عليه وآله) مواقع الآيات مبيّنة ، ولا مواضعها مشخّصة ، فنحن نمنع ذلك حتّى يحتاج النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى التفويض إلى عليّ (عليه السلام) ، وإن كان المراد الجمع في محلّ واحد كقرطاس ومصحف ، فهذا لا ينافي ما ذكره البلخي بوجه ، ولا يرجع إلى عدم كون القرآن مرتّباً في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
- (1) في ص 289.
(2) في ص 301 ـ 309.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8 : 123 . وجاء بألفاظ متعدّدة: سألتُ الله ألاّ تجتمع أُمّتي على خطإ ، لم يكن الله ليجمع أُمّتي على ضلال ولا خطإ ، لا تجتمع اُمّتي على ضلالة . وقد جاء في بحار الأنوار 2: 225 ، وج5: 20 و 68 ، وج28: 104 ، وج34: 366 هكذا: لاتجتمع اُمّتي على ضلالة، أو الضلال ، أو الضلالة .
(الصفحة 294)الجهة الرابعة: مخالفتها لضرورة تواتر القرآن
إنّ هذه الروايات الدالّة على أنّ القرآن قد جمع بيد الخلفاء وفي زمنهم ، وأ نّ الاستناد في ذلك كان منحصراً بشهادة شاهدين ، أو شاهد واحد إذا كان معادلاً لشخصين ، مخالفة لما قدّمناه سابقاً(1) من ثبوت الإجماع بل الضرورة على أنّ طريق ثبوت القرآن منحصر بالتواتر ، وأ نّه فرق بينه ، وبين الخبر الحاكي لقول المعصوم (عليه السلام) ، المشتمل على حكم من الأحكام الشرعيّة .
ومع هذه المخالفة ، كيف يمكن الأخذ بها والالتزام بمضمونها ، وتفسير الشهادتين بالحفظ والكتابة كما عن بعضهم ، مع أ نّه مخالف للظاهر ، ولنفس تلك الروايات لا يجدي في رفع الإشكال ، وأ نّ القرآن لا يثبت بغير طريق التواتر .
الجهة الخامسة: استلزامها للقول بالتحريف
إنّ الاستناد إلى هذه الروايات لعدم تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبيد المعصوم (عليه السلام) ، واستكشاف وجود النقص في القرآن من هذا الطريق ، لا ينطبق على المدّعى ، بل اللازم على المستدلّ أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة أيضاً ; وذلك لقضاء العادة بأنّ المستند ـ وهي شهادة الشاهدين ـ لا يكون مطابقاً للواقع دائماً ; ضرورة أنّ الالتزام بكونها كذلك ، ودعوى حصول القطع بأنّ كلّ ما شهد به شاهدان أو من بحكمهما على أ نّه من القرآن ، مطابق للواقع ، في غاية البُعد ، بل الظاهر هو العلم الإجمالي بتحقّق الكذب في البعض ، خصوصاً مع ثبوت الدواعي من الكفّار والمنافقين على تخريب الدين ، والسعي في اضمحلاله وانهدام بنائه ، وحينئذ فيعلم إجمالاً بوجود الزيادة في القرآن كالنقيصة .
ودعوى أنّ الآية بمرتبتها الواقعة فوق مراتب الكلام البشري ، فيها قرينة على
(الصفحة 295)
كونها من القرآن وعدم كونها كلام البشر .
مدفوعة بأ نّه على ذلك لا تكون شهادة الشاهدين مصدّقة للآية ، وكونها من كلام الله ، بل كانت الآية مصدّقة لها ، ولكونها شهادة مطابقة للواقع . وعليه: فلاحاجة إلى الشهادة أصلاً ، وهو خلاف مفاد الروايات المتقدّمة (1).
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا ـ بطوله وتفصيله ـ بطلان هذه الروايات ، وعدم إمكان الأخذ بمضمونها ، وأ نّه لا محيص عن الالتزام بكون الجمع والتأليف الراجع إلى تميّز الآيات بعضها عن بعض ، وتبيّن كون الآية الفلانية جزءاً من السورة الفلانية ، بل وموقعها من تلك السورة ، وأ نّها هي الآية الثانية منها مثلاً أو الثالثة أو الرابعة وهكذا ، وكذا تميّز السور بعضها عن بعض ، واقعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعصره بأمره وإخباره . غاية الأمر تفرّقها وتشتّتها من جهة الأشياء المكتوبة عليها والمنقوشة فيها ، كالعسيب واللخاف ومثلهما .
نعم ، لا ينبغي إنكار ارتباط جهة من القرآن بأبي بكر وكذا بعثمان:
أمّا ارتباطه بأبي بكر : فهو أ نّه قد جمع تلك المتفرّقات التي كان شأنها مبيّناً من جميع الجهات ، وكانت خالية من نقاط الإبهام والإجمال بتمام المعنى في قرطاس أو مصحف الذي هو بمعنى القرطاس ، أو قطع الجلد المدبوغ ، وقد وقع التصريح في بعض الروايات المتقدّمة(2) بأنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن بين اللّوحين ، وقد عرفت تصريح الحارث المحاسبي بذلك (3) ، وأ نّ جمع أبي بكر بمنزلة خيط ربط الأوراق المتفرّقة الموجودة في بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولا يبعد الالتزام بما في بعض تلك الروايات(4) من كون المصحف الذي جمع أبو بكر فيه القرآن ، هو الذي كان عنده
- (1) في ص 269 ـ 278.
(2) في ص270 .
(3) في ص 287 .
(4) في ص269 ـ 271 ح 1 و 5.
(الصفحة 296)
زمن حياته ، وكان بعده باختيار عمر ، وانتقل منه إلى حفصة بنته زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ الإشكال والاشتباه إنّما نشأ من الخلط ، وعدم تبيّن مفهوم كلمة «الجمع» الواقعة في الروايات المتقدّمة(1) ، وتخيّل كون المراد من هذه الكلمة هو الذي يكون محلّ البحث في المقام ، ومورداً للنقض والإبرام ، ولابدّ من التوضيح وإن كان المتأمِّل قد ظهر له الفرق ممّا ذكرنا، فنقول :
أمّا الجمع الذي هو محلّ البحث في المقام; هو الجمع بمعنى التأليف والتركيب ، وجعل كلّ آية في السورة التي هي جزء لها ، وفي موضعها من تلك السورة ، والجمع بهذا المعنى لا يكون إلاّ وظيفة النبيّ(صلى الله عليه وآله) بما هو نبيّ ، ولم يتحقّق إلاّ منه ، ولا معنى لصدوره من غيره ، حتّى في عصره وزمن حياته ، ومنه يظهر أنّ الروايات الدالّة على تحقّق الجمع من أشخاص معيّنين في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، لا يكون المراد بها هذا المعنى ; فإنّ مثل اُبيّ بن كعب لا يقدر على ذلك ، وإن كان في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; ضرورة أ نّه من شؤون القرآن وما به تقوم حقيقته ، ولا طريق له إلاّ الوحي .
وأ مّا الجمع الوارد في الروايات المتقدّمة(2) ، أعمّ من الروايات الدالّة على عدم تحقّقه في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والروايات الدالّة على تحقّقه في زمنه من ناحية الأشخاص ، فالمراد به هو جمع المتفرّقات والمتشتّتات من جهة الأشياء المكتوبة عليها ، والمنقوشة فيها . غاية الأمر أنّ الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان بمعنى القدرة على تحصيل القرآن بأجمعه ، وحصوله له كذلك .
وبعبارة اُخرى: كان عنده جميع القرآن في الأشياء المتفرّقة ، والجمع بعد حياته بمعنى جمعه في اللوحين والقرطاس والمصحف .
فقد ظهر أنّ الجمع ـ بمعناه الذي هو محلّ الكلام ـ بعيد عن مفاد جميع الروايات
- (1 ، 2) في ص269 ـ 278 و 283 ـ 287 .