(الصفحة 293)
ملاحظة ما قدّمناه(1) من أنّ القرآن كان من حين نزوله متّصفاً بأنّه هي المعجزة الوحيدة الخالدة ، التي يتوقّف أساس الدين وأصل الشريعة على بقائها ووجودها بين الناس كما نزلت إلى يوم القيامة .
وسيأتي البحث(2) عن مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) وامتيازه عن المصحف المعروف ، وأ نّه لا يتفاوت معه في شيء يرجع إلى أصل القرآن وآياته أصلاً . ومانقله من أنّ ابن مسعود وأُبيّاً وغيرهما لا يكون الاعتماد فيه على ضعاف الأخبار العامّية ، بل على الأمر المعروف بين المسلمين من وجود مصحف لكلّ واحد منهم ، وظهور كون جمعهم في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعصره .
وأ مّا عن إيراده على البلخي: فإنّ النقض بمسألة الخلافة على طبق عقيدته فاسد ، خصوصاً لو كان مستنده ما ينسبونه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) : لا تجتمع اُمّتي على خطإ(3) ، كما هو واضح ، واختلاف المسألتين وتفاوتهما ، وانحصار الإعجاز في الكتاب ممّا لا ريب فيه ، وأ نّ المراد من الجمع والتأليف ـ الذي فوّض النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمره إلى من فوّض إليه جميع اُموره ـ إن كان الجمع بنحو يرجع إلى ترتيب الآيات والسور بحيث لم يكن في عهده (صلى الله عليه وآله) مواقع الآيات مبيّنة ، ولا مواضعها مشخّصة ، فنحن نمنع ذلك حتّى يحتاج النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى التفويض إلى عليّ (عليه السلام) ، وإن كان المراد الجمع في محلّ واحد كقرطاس ومصحف ، فهذا لا ينافي ما ذكره البلخي بوجه ، ولا يرجع إلى عدم كون القرآن مرتّباً في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
- (1) في ص 289.
(2) في ص 301 ـ 309.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8 : 123 . وجاء بألفاظ متعدّدة: سألتُ الله ألاّ تجتمع أُمّتي على خطإ ، لم يكن الله ليجمع أُمّتي على ضلال ولا خطإ ، لا تجتمع اُمّتي على ضلالة . وقد جاء في بحار الأنوار 2: 225 ، وج5: 20 و 68 ، وج28: 104 ، وج34: 366 هكذا: لاتجتمع اُمّتي على ضلالة، أو الضلال ، أو الضلالة .
(الصفحة 294)الجهة الرابعة: مخالفتها لضرورة تواتر القرآن
إنّ هذه الروايات الدالّة على أنّ القرآن قد جمع بيد الخلفاء وفي زمنهم ، وأ نّ الاستناد في ذلك كان منحصراً بشهادة شاهدين ، أو شاهد واحد إذا كان معادلاً لشخصين ، مخالفة لما قدّمناه سابقاً(1) من ثبوت الإجماع بل الضرورة على أنّ طريق ثبوت القرآن منحصر بالتواتر ، وأ نّه فرق بينه ، وبين الخبر الحاكي لقول المعصوم (عليه السلام) ، المشتمل على حكم من الأحكام الشرعيّة .
ومع هذه المخالفة ، كيف يمكن الأخذ بها والالتزام بمضمونها ، وتفسير الشهادتين بالحفظ والكتابة كما عن بعضهم ، مع أ نّه مخالف للظاهر ، ولنفس تلك الروايات لا يجدي في رفع الإشكال ، وأ نّ القرآن لا يثبت بغير طريق التواتر .
الجهة الخامسة: استلزامها للقول بالتحريف
إنّ الاستناد إلى هذه الروايات لعدم تحقّق الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبيد المعصوم (عليه السلام) ، واستكشاف وجود النقص في القرآن من هذا الطريق ، لا ينطبق على المدّعى ، بل اللازم على المستدلّ أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة أيضاً ; وذلك لقضاء العادة بأنّ المستند ـ وهي شهادة الشاهدين ـ لا يكون مطابقاً للواقع دائماً ; ضرورة أنّ الالتزام بكونها كذلك ، ودعوى حصول القطع بأنّ كلّ ما شهد به شاهدان أو من بحكمهما على أ نّه من القرآن ، مطابق للواقع ، في غاية البُعد ، بل الظاهر هو العلم الإجمالي بتحقّق الكذب في البعض ، خصوصاً مع ثبوت الدواعي من الكفّار والمنافقين على تخريب الدين ، والسعي في اضمحلاله وانهدام بنائه ، وحينئذ فيعلم إجمالاً بوجود الزيادة في القرآن كالنقيصة .
ودعوى أنّ الآية بمرتبتها الواقعة فوق مراتب الكلام البشري ، فيها قرينة على
(الصفحة 295)
كونها من القرآن وعدم كونها كلام البشر .
مدفوعة بأ نّه على ذلك لا تكون شهادة الشاهدين مصدّقة للآية ، وكونها من كلام الله ، بل كانت الآية مصدّقة لها ، ولكونها شهادة مطابقة للواقع . وعليه: فلاحاجة إلى الشهادة أصلاً ، وهو خلاف مفاد الروايات المتقدّمة (1).
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا ـ بطوله وتفصيله ـ بطلان هذه الروايات ، وعدم إمكان الأخذ بمضمونها ، وأ نّه لا محيص عن الالتزام بكون الجمع والتأليف الراجع إلى تميّز الآيات بعضها عن بعض ، وتبيّن كون الآية الفلانية جزءاً من السورة الفلانية ، بل وموقعها من تلك السورة ، وأ نّها هي الآية الثانية منها مثلاً أو الثالثة أو الرابعة وهكذا ، وكذا تميّز السور بعضها عن بعض ، واقعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعصره بأمره وإخباره . غاية الأمر تفرّقها وتشتّتها من جهة الأشياء المكتوبة عليها والمنقوشة فيها ، كالعسيب واللخاف ومثلهما .
نعم ، لا ينبغي إنكار ارتباط جهة من القرآن بأبي بكر وكذا بعثمان:
أمّا ارتباطه بأبي بكر : فهو أ نّه قد جمع تلك المتفرّقات التي كان شأنها مبيّناً من جميع الجهات ، وكانت خالية من نقاط الإبهام والإجمال بتمام المعنى في قرطاس أو مصحف الذي هو بمعنى القرطاس ، أو قطع الجلد المدبوغ ، وقد وقع التصريح في بعض الروايات المتقدّمة(2) بأنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن بين اللّوحين ، وقد عرفت تصريح الحارث المحاسبي بذلك (3) ، وأ نّ جمع أبي بكر بمنزلة خيط ربط الأوراق المتفرّقة الموجودة في بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، ولا يبعد الالتزام بما في بعض تلك الروايات(4) من كون المصحف الذي جمع أبو بكر فيه القرآن ، هو الذي كان عنده
- (1) في ص 269 ـ 278.
(2) في ص270 .
(3) في ص 287 .
(4) في ص269 ـ 271 ح 1 و 5.
(الصفحة 296)
زمن حياته ، وكان بعده باختيار عمر ، وانتقل منه إلى حفصة بنته زوج النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
وممّا ذكرنا ظهر أنّ الإشكال والاشتباه إنّما نشأ من الخلط ، وعدم تبيّن مفهوم كلمة «الجمع» الواقعة في الروايات المتقدّمة(1) ، وتخيّل كون المراد من هذه الكلمة هو الذي يكون محلّ البحث في المقام ، ومورداً للنقض والإبرام ، ولابدّ من التوضيح وإن كان المتأمِّل قد ظهر له الفرق ممّا ذكرنا، فنقول :
أمّا الجمع الذي هو محلّ البحث في المقام; هو الجمع بمعنى التأليف والتركيب ، وجعل كلّ آية في السورة التي هي جزء لها ، وفي موضعها من تلك السورة ، والجمع بهذا المعنى لا يكون إلاّ وظيفة النبيّ(صلى الله عليه وآله) بما هو نبيّ ، ولم يتحقّق إلاّ منه ، ولا معنى لصدوره من غيره ، حتّى في عصره وزمن حياته ، ومنه يظهر أنّ الروايات الدالّة على تحقّق الجمع من أشخاص معيّنين في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، لا يكون المراد بها هذا المعنى ; فإنّ مثل اُبيّ بن كعب لا يقدر على ذلك ، وإن كان في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; ضرورة أ نّه من شؤون القرآن وما به تقوم حقيقته ، ولا طريق له إلاّ الوحي .
وأ مّا الجمع الوارد في الروايات المتقدّمة(2) ، أعمّ من الروايات الدالّة على عدم تحقّقه في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والروايات الدالّة على تحقّقه في زمنه من ناحية الأشخاص ، فالمراد به هو جمع المتفرّقات والمتشتّتات من جهة الأشياء المكتوبة عليها ، والمنقوشة فيها . غاية الأمر أنّ الجمع في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان بمعنى القدرة على تحصيل القرآن بأجمعه ، وحصوله له كذلك .
وبعبارة اُخرى: كان عنده جميع القرآن في الأشياء المتفرّقة ، والجمع بعد حياته بمعنى جمعه في اللوحين والقرطاس والمصحف .
فقد ظهر أنّ الجمع ـ بمعناه الذي هو محلّ الكلام ـ بعيد عن مفاد جميع الروايات
- (1 ، 2) في ص269 ـ 278 و 283 ـ 287 .
(الصفحة 297)
بمراحل، وأ نّ المتّصف به لا يكون غير النبيّ (صلى الله عليه وآله) بوجه ، فالروايات وكذا التواريخ الدالّة على تحقّق الجمع من أشخاص في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أجنبيّ عن المقام بالمقدار الذي تكون الروايات التي هي مورد لاستدلال القائل بالتحريف كذلك، وعدم الالتفات إلى ذلك صارموجباً للخلط والاشتباه والانحراف عن مسير الحقيقة ، كما عرفت.
وأ مّا ارتباطه بعثمان الذي اشتهر إضافة القرآن وانتسابه إليه ، واشتهر عنه حرق مصاحف غيره ، حتّى سمّي بحرّاق المصاحف (1) ، وانتقد عليه من هذه الجهة ، فليس لأمر يرجع إلى الجمع والتأليف بالمعنى الذي ذكرنا من تميّز الآيات والسور ، وتبيّن بعض كلّ واحدة منهما عن البعض الآخر ، بل الظاهر ـ كما دلّ عليه بعض الروايات المتقدّمة(2) ـ أ نّ ارتباطه بعثمان إنّما هو من جهة أنّه جمع المسلمين على قراءة واحدة ، بعد تحقّق اختلاف القراءة بينهم ، من جهة اختلاف القبائل والأمكنة في اللحن والتعبير .
قال الحارث المحاسبي: المشهور عند الناس أ نّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك ، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد ، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار ، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات ، فأمّا قبل ذلك ، فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي نزل بها القرآن . . .»(3) .
نعم ، يقع الكلام في أنّ القراءة الواحدة التي جمع عثمان المسلمين عليها ماذا؟ وأ نّه اعتمد في ذلك على أيّ شيء؟
- (1) البيان في تفسير القرآن: 257 .
(2) في ص274 ـ 277 .
(3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 211 .النوع الثامن عشر .