(الصفحة 298)
يمكن أن يقال : إنّ تلك القراءة هي القراءة الواحدة المتعارفة بين المسلمين ، التي أخذوها بالتواتر عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لما عرفت(1) في مبحث تواتر القراءات من أنّ استناد جميع القراءات إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر موهوم فاسد ، وأ نّ أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ـ على فرض صحّتها وجواز الالتزام بها ـ لا ارتباط لها بباب القراءات السبع بوجه .
وقد ذكر عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد الطاووس العلوي الفاطمي في محكيّ كتاب «سعد السعود» نقلاً من كتاب أبي جعفر محمّد بن منصور في اختلاف المصاحف ، رواية محمد بن زيد بن مروان: أ نّ القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد ابن ثابت ، وخالفه في ذلك اُبيّ ، وعبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ثمّ عاد عثمان جمع المصحف برأي مولانا علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأخذ عثمان مصاحف اُبيّ ، وعبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، فغسلها ، وكتب عثمان مصحفاً لنفسه ، ومصحفاً لأهل المدينة ، ومصحفاً لأهل مكّة ، ومصحفاً لأهل الكوفة ، ومصحفاً لأهل البصرة ، ومصحفاً لأهل الشام (2) .
وقال الشيخ أبو عبدالله الزنجاني بعد نقل هذه العبارة : إنّ مصحف الشام رآه ابن فضل الله العمري في أواسط القرن الثامن الهجري ، يقول في وصف مسجد دمشق: وإلى جانبه الأيسر المصحف العثماني بخطّ أمير المؤمنين عثمان بن عفّان ، ويظنّ قويّاً أ نّ هذا المصحف هو الذي كان موجوداً في دار الكتب في لنين غراد ، وانتقل الآن إلى انكلترا .
ورأيت في شهر ذي الحجّة سنة 1353 هـ في دار الكتب العلويّة في النجف
- (1) في ص 153 ـ 156.
(2) سعد السعود : 435 .
(الصفحة 299)
مصحفاً بالخطّ الكوفي كتب على آخره: كتبه عليّ بن أبي طالب في سنة أربعين من الهجرة ، ولتشابه «أبي» و «أبو» في رسم الخط الكوفي ، قد يظنّ من لا خبرة له أ نّه : كتب عليّ بن أبو طالب بالواو (1) .
هذا ، ولكنّ الاستناد إلى رأي مولانا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بعيد ، خصوصاً مع ملاحظة وجود مصحف له (عليه السلام) لا يحتاج معه إلى شخص آخر أو شيء آخر ، إلاّ أن يكون الاستناد إلى الرأي دون المصحف ، لأجل كون مصحفه زائداً على القرآن وآياته كما سيظهر (2)، فلعلّه (عليه السلام) لم يرضَ أن يجعله باختيارهم ; لعدم صلاحيّتهم لملاحظته والنظر فيه ، كما يساعده الاعتبار .
وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أ نّ لفظ «الجمع» الذي يستعمل في مسألة جمع القرآن يكون له أربعة معان ، وقد وقع بينها الخلط ، ولأجله تحقّق الانحراف الذي أدّى إلى الالتزام بالتحريف ، الذي يوجب تزلزل الدين ، وضعف المسلمين ، كما عرفت في أوّل المبحث .
وهذه المعاني الأربعة عبارة عن:
1 ـ الجمع بمعنى التأليف والتركيب وجعل كلّ آية في السورة التي هي جزء لها وفي موضعها من تلك السورة ، وكونها آية ثانية له مثلاً أو ثالثة أو رابعة وهكذا ، والجمع بهذا المعنى هو محلّ البحث والكلام ، وقد عرفت(3) أنّ الجامع بهذا المعنى لايكون إلاّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بما أنّه نبيّ .
وبعبارة اُخرى: لا طريق له إلاّ الوحي ، ولا يصلح إسناده إلى غير النبيّ (صلى الله عليه وآله)
- (1) تاريخ القرآن : 74 ـ 75 ، الفصل الثاني ، القرآن في عهد عثمان .
(2) في ص 301 ـ 309.
(3) في ص 283 ـ 290 و 295 ـ 296.
(الصفحة 300)
بوجه . وسيأتي(1) له مزيد توضيح في الجواب عن الشبهة الثالثة للقائل بالتحريف ، فانتظر .
2 ـ الجمع بمعنى تحصيل القرآن بأجمعه من الأشياء المتفرّقة المكتوب عليها ، ومرجعه إلى كون الجامع واجداً لجميع القرآن من أوّله إلى آخره ، وهذا هو الجمع المتحقّق في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، والمنسوب إلى غيره من الأشخاص المعدودين ، وربما يراد من الجمع بهذا المعنى جمع القرآن بجميع شؤونه من التأويل والتفسير وشأن النزول وغيره ، وهو المراد من الجمع الذي تدلّ الروايات الكثيرة الآتية على اختصاصه بمولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلِّين .
3 ـ الجمع بمعنى جمع المتفرّقات وكتابتها في شيء واحد كالقرطاس والمصحف بناءً على مغايرته للقرطاس ، وهذا هو الجمع المنسوب إلى أبي بكر ، ويدلّ بعض الروايات المتقدّمة(2) على نسبته إلى عمر بن الخطّاب .
4 ـ الجمع بمعنى جمع المسلمين على قراءة واحدة من القراءات المختلفة ، التي نشأت من اختلاف ألسِنة القبائل والأماكن ، وهذا هو المراد من الجمع المنسوب إلى عثمان ، كما عرفت آنفاً(3) .
وعدم الخلط بين هذه المعاني يرشد الباحث ويهديه إلى الحقّ ، ويبعده عن الانحراف المؤدّي إلى التحريف ، وما رأيت أحداً يسبقني إلى البحث في مسألة جمع القرآن بهذه الكيفيّة ، فافهم واغتنم .
- (1) في ص 304 ـ 308.
(2) في ص 271 ـ 272 ح 8 و ص274 ح 15.
(3) في ص297.
(الصفحة 301)
الشبهة الثالثة
إنّ للقائل بالتحريف أن يورد هذه الشبهة أيضاً ، وهي: أنّ عليّاً (عليه السلام) كان له مصحف غير المصحف الموجود ، وقد أتى به القومَ فلم يقبلوا منه ، وقد صحّ اشتمال قرآنه على زيادات ليست في القرآن الموجود ; ولأجله لم يقع مورداً لقبول القوم ، ويترتّب على ذلك نقص القرآن الموجود عن مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهذا هو التحريف الذي يدّعيه القائل به ، والروايات الواردة في هذا الباب كثيرة :
1 ـ ما في رواية احتجاج عليّ (عليه السلام) على جماعة من المهاجرين والأنصار ; من أنّه قال: يا طلحة إنّ كلّ آية أنزلها الله ـ تعالى ـ على محمّد (صلى الله عليه وآله) عندي بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي ، وتأويل كلّ آية أنزلها الله ـ تعالى ـ على محمّد (صلى الله عليه وآله) ، وكلّ حلال أو حرام ، أو حدّ أو حكم ، أو شيء تحتاج إليه الاُمّة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخطّ يدي ، حتّى أرش الخدش (1) .
2 ـ ما في احتجاجه (عليه السلام) على الزنديق من أنّه قال: ولقد أحضروا الكتاب كملاً مشتملاً على التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام ، فلم يقبلوا ذلك (2) .
3 ـ ما رواه في الكافي بإسناده عن جابر ، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: ما يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء (3) .
- (1) كتاب سليم بن قيس 2: 657 ـ 658، الاحتجاج: 1 / 356 ـ 357 ، احتجاجه(عليه السلام) على المهاجرين والأنصار ، وعنه تفسير الصافي: 1 / 38 ، المقدّمة السادسة ، وبحار الأنوار : 31 / 424 .
(2) الاحتجاج: 1 / 607، وعنه بحار الأنوار: 93 / 125 ـ 126 كتاب القرآن ب 129 .
(3) الكافي: 1 / 228 ، كتاب الحجّة ب 35 ح 2 ، وعنه الوافي: 3 / 560 ، كتاب الحجّة ب 76 ح 1109 ، ومرآة العقول 3: 33 ح2 .
(الصفحة 302)
4 ـ ما رواه فيه أيضاً بإسناده عن جابر قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ما ادّعى أحد من الناس أ نّه جمع القرآن كلّه كما اُنزل إلاّ كذّاب ، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله ـ تعالى ـ إلاّ عليّ بن أبي طالب والأ ئـمّة من بعده (عليهم السلام) (1) .
5 ـ قوله ـ أي قول عليّ (عليه السلام) ـ في خبر عبد خير قال: لمّا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقسمت ـ أو حلفت ـ أن لا أضع ردائي عن ظهري حتّى أجمع ما بين اللّوحين ، فما وضعت ردائي عن ظهري حتّى جمعت القرآن (2) .
6 ـ قوله (عليه السلام) في خبر ابن الضُّرَيس في «فضائله» : رأيت كتاب الله يُزاد فيه ، فحدّثت نفسي ألاّ ألبس ردائي إلاّ لصلاة جمعة حتّى أجمعه (3) .
7 ـ قوله (عليه السلام) في رواية ابن شهرآشوب بعدما جمع القرآن وجاء إليهم ، ووضع الكتاب بينهم : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنّي مخلف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي ، وهذا الكتاب وأنا العترة (4) .
8 ـ غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب ، الدالّة على اختصاصه (عليه السلام) بمصحف مخصوص كان مغايراً للمصاحف الاُخرى ، وحيث إنّ
- (1) الكافي: 1 / 228 ، كتاب الحجّة ب 35 ح 1 ، وعنه الوافي: 3 / 560 ، كتاب الحجّة ب 76 ح 1108 ، ومرآة العقول 3: 30 ح1 .
(2) حلية الأولياء: 1 / 67 ، وعنه مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) 2: 41 . وأخرجه في كشف الغمّة 1: 118 عن المناقب للخوارزمي: 94 ح93 . وفي بحار الأنوار: 40 / 155 و 180 ب 93 و ج 92 / 52 كتاب القرآن ب 7 ، عن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) وكشف الغمّة .
(3) فضائل القرآن لابن الضريس: 36 ح22 ، وعنه الإتقان في علوم القرآن: 1 / 204 ، النوع الثامن عشر ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنّفه 7: 197 ب53 ح2 وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 6: 40 باختلاف .
(4) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) ، لابن شهر آشوب: 2 / 51 ، في المسابقة بالعلم ، وعنه بحار الأنوار: 40 / 155 ـ 156 وج92 / 52 .