(الصفحة 307)
صريحة في دلالتها على أنّ الآيات كانت مرتّبة عند النبيّ بحسب ترتيب النزول ، فكانت المكّيات في السور المكّية والمدنيّات في سور مدنيّة ، إلاّ أن تفرض سورة نزل بعضها بمكّة وبعضها بالمدينة ، ولا يتحقّق هذا الفرض إلاّ في سورة واحدة .
ولازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستنداً إلى اجتهاد من الصحابة»(1) انتهى ملخّص موضع الحاجة من كلامه أدام الله أيّامه.
ويرد عليه: أ نّ رواية عثمان بن أبي العاص وإن كانت بظاهرها لا تدلّ على العموم والشمول ، إلاّ أنّه يستفاد منها ذلك بعد ملاحظة أ نّه لا خصوصيّة لموردها ، خصوصاً بعدما ذكرنا من الجهات التي ترجع إلى كون الآيات مرتّبة في عهده وبيده (صلى الله عليه وآله) ، والروايات الدالّة على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إنّما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة ، لا تنافي صدور الأمر أحياناً بوضع آية كذا في السورة الفلانية ; فإنّ كون العلم بتمام السورة متوقّفاً على نزول البسملة لا دلالة فيه على عدم إمكان وضع آية فيها بأمر من جبرئيل أصلاً .
ويؤيّده أنّه لو كان ترتيب النزول معلوماً عند الصحابة ـ كما هو المفروض ـ لكان الاعتبار يساعد على كون الترتيب بهذه الكيفيّة ، ولا مجال ـ على هذا التقدير ـ لإدخال الآية المدنيّة في السور المكّية أو بالعكس بمجرّد الظنّ بالتلائم والتناسب بين المطالب ; فإنّ مجرّد ذلك لا يقاوم الترتيب من حيث النزول الذي هو الأساس في هذا الباب ، وحينئذ يستكشف من عدم رعاية هذه الجهة ، كون الترتيب وتشكيل السور من الآيات التي هي جزء لها ، لم يكن مستنداً إلى اجتهاد واستنباط ونظر وتفكّر أصلاً .
وبالجملة: ما تقدّم(2) من الأدلّة المثبتة لكون القرآن مجموعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله)
- (1) الميزان في تفسير القرآن: 12 / 127 ـ 128 ، تفسير سورة الحجر ، الآية 1 ـ 9 .
(2) في ص 283 ـ 290.
(الصفحة 308)
وبيده ، ومرتّباً مؤلّفاً في زمنه ، إن لم يكن مثبتاً لكون ترتيب السور أيضاً بأمره ونظره ، فلا أقلّ من إثباتها لكون ترتيب الآيات وتشكيل السور كذلك ; ضرورة أنّ له المدخليّة الكاملة في ترتّب غرض الكتاب وحصول الغاية المقصودة ; لأنّ المطالب المتفرّقة المتشتّتة لا تفي بتحقّق الغرض ، فالدليل على ترتيب الآيات هو الدليل المتقدّم على تحقّق الجمع في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبيده .
هذا كلّه فيما يتعلّق بمغايرة مصحف عليّ (عليه السلام) مع سائر المصاحف من جهة الترتيب بين السور . نعم ، لا ينبغي الارتياب في عدم اختصاص المغايرة بهذا المقدار ، بل الظاهر ثبوت المغايرة أيضاً من حيث اشتماله على إضافات وزوائد لاتكون فيها أصلاً .
لكنّ الظاهر أنّ تلك الإضافات والزوائد لا تكون جزءاً للقرآن ، وإطلاق «التنزيل» عليها لا يدلّ على كونها من القرآن ; لعدم اختصاص هذا الوصف بالقرآن . وكان المعمول به نزول بعض الاُمور بعنوان التوضيح والتفسير للقرآن ، وكان بعض الكتّاب يكتبه مع القرآن من دون علامة ; لكونهم آمنين من الالتباس ، ولأجله حكي أنّ ابن عباس قرأ وأثبت في مصحفه: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم في مواسم الحجّ» (1) .
وحكي عن ابن الجزري أ نّه قال: وربما كانوا يُدخلون التفسير في القراءة إيضاحاً وبياناً ; لأنّهم محقّقون لما تلقَّوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قرآناً ، فهم آمنون من الالتباس ، وربما كان بعضهم يكتبه معه (2) .
وحينئذ ، فالظاهر أنّ الإضافات الواقعة في مصحف عليّ (عليه السلام) كانت من هذا
- (1) صحيح البخاري: 5 / 186 ، كتاب تفسير القرآن 65 ب 34 ح4519 ، الإتقان في علوم القرآن: 1 / 265 ، النوع 22 ـ 27 .
(2) النشر في القراءات العشر 1 : 32 ، الإتقان في علوم القرآن 1: 266 ، النوع 22ـ 27 .
(الصفحة 309)
القبيل ، وأ نّ امتيازه إنّما هو من جهة اشتماله على جميع ما نزل بهذا العنوان من دون أن يشذّ عنه شيء ، وهذا بخلاف سائر المصاحف ، ويؤيّده التأمّل في بعض الروايات المتقدّمة(1) الواردة في هذا الشأن ; الدالّ على أنّ التنزيل والتأويل والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ كلّها كان عند عليّ (عليه السلام) ، فأين الدلالة على اشتماله على مقدار ممّا نزل بعنوان القرآن ، ولا يكون موجوداً في المصحف الفعلي ؟ كما هو واضح .
(الصفحة 310)
الشبهة الرابعة
الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب وادّعي تواترها (1) ، وهي وإن كان أكثرها ضعيفاً من حيث السند ; لأجل اشتماله على أحمد بن محمّد السيّاري ، الذي اتّفق على فساد مذهبه واتّصافه بالوضع والجعل(2) ، أو على عليّ بن أحمد الكوفي الذي حكي عن علماء الرجال في حقّه: أ نّه فاسد المذهب ، وأ نّه كذّاب(3) ، إلاّ أنّ دعوى التواتر الإجمالي فيها الذي مرجعه إلى العلم الإجمالي بصدور بعضها لا تنبغي المناقشة فيها ، ولكن لابدّ من ملاحظتها ليظهر حالها من حيث الدلالة على القول بالتحريف ، وانطباقها على مدّعى القائل به .
فنقول : هذه الروايات على طوائف مختلفة:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على وقوع التحريف بعنوانه ، أو التغيير والتبديل وما يشابهها من العناوين ، وهي كثيرة :
1 ـ ما رواه الشيخ الكشّي في أوّل رجاله ـ على ما حُكي عنه ـ عن حمدويه وإبراهيم ابني نصير قالا: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الرازي قال: حدّثني عليّ بن حبيب المدائني ، عن عليّ بن سويد السائي قال : كتب إليّ أبو الحسن الأوّل (عليه السلام) وهو في السجن : وأمّا ما ذكرت يا عليّ ممّن تأخذ معالم دينك ؟ لا تأخذنّ معالم دينك عن غير شيعتنا ، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك عن الخائنين ، الذين خانوا الله ورسوله
- (1) اُنظر هذه الروايات في كتاب فصل الخطاب للمحدّث النوري الذي اعتمدها دليلاً على ما ذهب إليه ، الدليل الحادي عشر: 211 ـ 227 .
(2) يأتي تضعيفه تفصيلاً في ص333 ـ 336.
(3) معجم رجال الحديث: 11 / 246، الرقم 7876.
(الصفحة 311)
وخانوا أماناتهم ، إنّهم اؤتمنوا على كتاب الله ـ عزّوجلّ ـ فحرّفوه وبدّلوه ، فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله ولعنة ملائكته ولعنة آبائي الكرام البررة ولعنتي ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة (1) .
2 ـ ما عن عليّ بن إبراهيم القمّي ، عن أبيه ، عن صفوان بن يحيى ، عن أبي الجارود ، عن عمران بن هيثم ، عن مالك بن ضمرة ، عن أبي ذرّ (رحمه الله) قال : لمّا نزلت هذه الآية (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (2) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ترد عليَّ اُمّتي يوم القيامة على خمس رايات ، فراية مع عجل هذه الاُمّة ، فأسألهم ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّاالأكبر فحرّفناهونبذناهوراء ظهورنا ، وأمّا الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه ، فأقول: ردّوا إلى النار ظماءً مظمئين مسودّة وجوهكم .
ثمّ ترد عَليّ راية مع فرعون هذه الاُمّة ، فأقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فحرّفناه ومزّقناه وخالفناه ، وأمّا الأصغر فعاديناه وقاتلناه ، فأقول : ردّوا إلى النار ظماءً مظمئين مسودّة وجوهكم .
ثمّ ترد عليَّ راية مع سامريّ هذه الاُمّة ، فأقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فعصيناه وتركناه ، وأمّا الأصغر فخذلناه وضيّعناه وصنعنا به كلّ قبيح ، فأقول: ردّوا إلى النار ظماءً مظمئين مسودّة وجوهكم .
ثمّ ترد عَليّ راية ذي الثدية مع أوّل الخوارج وآخرهم ، فأسألهم ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر ففرّقناه ( فمزّقناه خ ل) وبرئنا منه ، وأمّا الأصغر فقاتلناه وقتلناه ، فأقول لهم: ردّوا إلى النار ظماءً مظمئين
- (1) اختيار معرفة الرجال ، المعروف بـ «رجال الكشي»: 3 ، الرقم 4 ، وعنه وسائل الشيعة 27: 150 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ب11 ح42، وبحار الأنوار 2: 82 ح2، وعوالم العلوم 3: 408 ح3 .
(2) سورة آل عمران 3: 106 .