(الصفحة 39)
فإنّ التحدّي في هذه الآية عامّ شامل لكلّ من الإنس والجنّ ، أعمّ من الموجودين في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل الظاهر الشمول للسابقين عليه أيضاً ، وعموم التحدّي دليل على خلود الإعجاز كما هو ظاهر .
ومنها: قوله ـ تعالى ـ : (الر كِتَـبٌ أَنزَلْنَـهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّـلُمَـتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَ طِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (1) .
فإنّ إخراج الناس الظاهر في العموم من الظلمات إلى النور بسبب الكتاب النازل ، كما تدلّ عليه لام الغاية ، لا يكاد يمكن بدون خلود الإعجاز ; فإنّ تصدّي الكتاب للهداية بالإضافة إلى العصور المتأخّرة إنّما هو فرع كونه معجزة خالدة ; ضرورة أنّه بدونه لا يكاد يصلح لهذه الغاية أصلاً .
ومنها: قوله ـ تعالى ـ : (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَــلَمِينَ نَذِيرًا ) (2) .
فإنّ صلاحيّة الفرقان للإنذار كما هو ظاهر الآية بالنسبة إلى العالمين ، الظاهرة في الأوّلين والآخرين ، لا تتحقّق بدون الاتّصاف بخلود الإعجاز ، كما هو واضح .
ودعوى انصراف لفظ «العالمين» إلى خصوص الموجودين ، كما في قوله ـ تعالى ـ في وصف مريم: (وَاصْطَفَـئـكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَــلَمِينَ ) (3) ; ضرورة عدم كونها مصطفاة على جميع نساء الأوّلين والآخرين ، الشاملة لمن كان هذا الوصف مختصّاً بها ، وهي فاطمة الزهراء سلام الله عليها .
مدفوعة : بكون المراد بالعالمين في تلك الآية أيضاً هو الأوّلين والآخرين ،
- (1) سورة إبراهيم 14 : 1 .
(2) سورة الفرقان 25 : 1 .
(3) سورة آل عمران 3 : 42 .
(الصفحة 40)
غاية الأمر أنّ المراد بالاصطفاء فيها ـ كما تدلّ عليه الرواية المعتبرة(1) ـ هو الولادة من غير بعل ، ومن الواضح اختصاص هذه المزيّة بمريم ، وانحصارها بها ، وعدم مشاركة أحد من النساء لمريم فيها .
وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في كون المراد من العالمين في آية الفرقان ليس خصوص الموجودين في ذلك العصر .
ومنها: غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يستفاد منها ذلك ، ولا حاجة إلى التعرّض لها بعد وضوح الأمر وظهور المطلوب .
عدم اختصاص إعجاز القرآن بوجه خاصّ
لا يرتاب ذو مسكة في اختلاف طبقات الناس وتنوّع أفراد البشر في اجتناء الكمالات العلميّة المختلفة ، وحيازة الفنون المتشتّتة . والوجه في ذلك ـ مضافاً إلى افتقار تحصيل كلّ واحدة منها إلى صرف مؤونة الزمان ، وغيره من المقدّمات الكثيرة والأسباب المتعدّدة ـ اختلافهم بحسب النظر والتفكّر وتفاوتهم بلحاظ الذوق والعلاقة ، فترى بعضهم يشتري بعمره الطويل الوصول إلى العلوم الصناعيّة ، وبعضاً آخر يتحمّل مشقّات فوق الطاقة العاديّة لتحصيل علم الفلسفة مثلاً ، وهكذا سائر العلوم والمعارف المادّية والمعنويّة ، بل اتّساع دائرة جميع العلوم اقتضى انقسام كلّ واحدة منها إلى شعب وأقسام ، بحيث لا يكاد يوجد من حازه بجميع شعبه وناله بتمام أقسامه .
وهذا كما في علم الطبّ في هذه الأزمنة والعصور المتأخِّرة ; فإنّه لا يوجد واحد مطّلع على جميع شؤونه المتكثّرة وشعبه المتعدّدة ، بل بعد صرف زمان طويل
- (1) تفسير القمي: 1 / 102 ، التبيان في تفسير القرآن: 2 / 456 ـ 457 ، وفي بحار الأنوار: 14/12 قطعة من ح8 عن تفسير القمّي .
(الصفحة 41)
وتهيئة مقدّمات كثيرة قد يقدر على الوصول إلى بعض شعبه ، وحصول المهارة الكاملة في خصوص تلك الشعبة ، كما نراه بالوجدان .
وبالجملة: ما ذكرناه في اختلاف طبقات البشر ، واتّساع دائرة كلّ واحد من العلوم ، بحيث لا يكاد يمكن الوصول إلى واحد بتمام شؤونه ، فكيف الجميع ممّا لا حاجة في إثباته إلى بيِّنة وبرهان ، بل يكفي في تصديقه مجرّد ملاحظة الوجدان؟!
وحينئذ نقول: إنّ الكتاب العزيز ، والقرآن المجيد حيث يكون الغرض من إنزاله ، والغاية من إرساله اهتداء عموم الناس ، وخروجهم من الظلمات إلى النور ، كما صرّح هو بذلك في الآية المتقدّمة من سورة إبراهيم .
والظاهر كما عرفت عدم اختصاص الناس بخصوص الموجودين في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ; لأ نّه كما تقدّم معجزة خالدة إلى يوم القيامة ، مضافاً إلى أ نّه كتاب جامع لجميع الكمالات المعنويّة ، والفضائل الروحيّة ، والقوانين العمليّة ، والدستورات الكاملة الدنيويّة ، حيث إنّه يتضمّن البحث عن الاُصول الاعتقاديّة المطابقة للفطرة السليمة ، وعن الفضائل الأخلاقيّة ، والقوانين الشرعيّة ، والقصص الماضية ، والحوادث الآتية ، وبالتالي عن جميع الموجودات الأرضيّة والسماويّة ، وجميع الحالات والعوالم ، وكلّ ما له دخل في سعادة الإنسان في الدار الفانية والدار الباقية ، فمثل هذا الكتاب الذي ليس كمثله كتاب كيف يمكن أن يكون إعجازه من وجه خاصّ ، مع كونه واقعاً قبال جميع البشر ، بل والجنّ أيضاً ؟!
والذي ينادي بذلك بأعلى صوته قوله ـ تعالى ـ :
( قُل لَّـئـِنِ اجْتَمَعَتِ الاِْنسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرًا ) (1)
- (1) سورة الإسراء 17 : 88 .
(الصفحة 42)
وجه الدلالة أوّلاً: فرض اجتماع الإنس والجنّ ، وفي الحقيقة دعوتهم إلى الإتيان بمثل القرآن ، مع أنّك عرفت ثبوت الاختلاف بينهم ، واختصاص كلّ طبقة وطائفة بفضيلة خاصّة من سنخ الفضائل التي يشتمل عليها الكتاب ، فكيف يمكن أن يكون وجه الإعجاز هو البلاغة والفصاحة مثلاً ، مع أنّه لم يقع التصدّي للوصول إلى هذين العِلمين إلاّ من صنف خاصّ قليل الأفراد ؟ فدعوة غيره إلى الإتيان بمثل القرآن من خصوص هذه الجهة لا يترتّب عليها فائدة أصلاً ، فتوجّه الدعوة إلى العموم دليل ظاهر على عدم اختصاص الإعجاز بوجه خاصّ .
وثانياً: قد عرفت اشتمال الكتاب العزيز على جهات متكثّرة ، وشؤون مختلفة من الاُصول الاعتقاديّة الراجعة إلى الإلهيّات والنبوّات وغيرهما ، والفضائل الأخلاقيّة والسياسات المدنيّة ، والقوانين التشريعيّة العمليّة ، وغير ذلك من القصص والحكايات الماضية والحوادث الكائنة في الآتية ، والاُمور الراجعة إلى الفلكيات ، ووصف الموجودات السماويّة والأرضيّة ، وغير ذلك ، مضافاً إلى الجهات الراجعة إلى مقام الألفاظ والعبارات ، وحينئذ عدم ذكر وجه المماثلة في الآية الكريمة ، مع عدم الانصراف إلى وجه خاصّ من تلك الوجوه المذكورة دليل على عدم الاختصاص ، وأ نّ اجتماع الجنّ والإنس واستظهار بعضهم ببعض لا يكاد يؤثّر في الإتيان بمثل القرآن في شيء من الوجوه المذكورة .
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا فساد دعوى اختصاص الإعجاز بوجه خاصّ أيّ وجه كان . نعم ، قد وقع التحدّي في الكتاب ببعض الوجوه والمزايا ، ولا بأس بالتعرّض لها ولبعض ما لم يقع التحدّي فيه بالخصوص ، تتميماً للفائدة ، وتعظيماً للكتاب الذي هو المعجزة الوحيدة الخالدة .
(الصفحة 43)
التحدّي بمن اُنزل عليه القرآن
ممّا وقع التحدّي به في الكتاب العزيز هو الرسول الاُمّي ، الذي أُنزل عليه القرآن ، قال الله ـ تعالى ـ :
(وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَـت قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَان غَيْرِ هَـذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُو مِن تِلْقَآىِ نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْم عَظِيم * قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُو عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَدْرَلـكُم بِهِفَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِأَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (1) .
فإنّ قوله ـ تعالى ـ : ( أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) يرجع إلى أ نّ من كان له حظّ من نعمة العقل ، التي هي عمدة النعم الإلهيّة ، إذا رجع إلى عقله واستقضاه يعرف أنّ الكتاب الذي أتى به النبيّ الذي كان فيهم مدّة أربعين سنة ، وفي تلك المدّة مع وضوح حاله واطّلاع الناس على وضعه لم ينطق بعلم ، حتّى أنّه مع تداول الشعر وشيوعه بينهم ، بحيث لا يرون القدر إلاّ له ، ولا يرتّبون الأجر إلاّ عليه ، وكان هو السبب الوحيد في الامتياز والفضيلة ، لم يصدر منه شعر ، بل ولم يأتِ بنثر ما ، لا محالة يكون من عند الله ; فإنّه كيف يمكن أن يأتي الاُمّي بكتاب جامع لجميع الكمالات اللفظيّة والمعنويّة ، والقوانين والحدود الدينيّة والدنيويّة؟!
نعم ، حيث عجزوا عن معارضته ، وكلّت ألسنة البُلغاء دونه ، لم يجدوا بدّاً من الافتراء الظاهر ، والبهتان الواضح ، فقالوا فيه: إنّه سافر إلى الشام للتجارة ، فتعلّم القصص هناك من الرهبان ، ولم يتعقّلوا أنّه لو فرض ـ محالاً ـ صحّة ذلك ، فما هذه المعارف والعلوم ؟ ومن أين هذه القوانين والأحكام ، وهذه الحِكم والحقائق ؟ وممّن هذه البلاغة في جميع الكتاب ؟
كما أنّه أخذوا عليه أنّه كان يقف على قين بمكّة من أهل الروم كان يعمل
- (1) سورة يونس 10 : 15 ـ 16 .