(الصفحة 45)
لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَـفًا كَثِيرًا ) (1) .
دلّ على ثبوت الملازمة بين كون القرآن من عند غير الله ووجدان الاختلاف الكثير فيه وجداناً حقيقيّاً ، فلابدّ من استكشاف بطلان المقدّم من بطلان التالي . وحيث إنّ الموضوع هو القرآن المعهود بتمام خصوصيّاته ، وجميع شؤونه ومزاياه ، فلا يكاد يتوهّم أ نّ كلّ كتاب لو كان من عند غير الله لكان ذلك مستلزماً لوجدان الاختلاف الكثير فيه ، حتّى يرد عليه منع الملازمة في بعض الموارد ، بل في كثيرها . وضرورة أنّ الموضوع الذي يدور حوله اختلاف الأنظار من جهة كونه نازلاً من عند غيره هو شخص القرآن الكريم ، الذي هو كتاب خاصّ ، فالملازمة إنّما هي بالإضافة إليه .
وحينئذ فلابدّ من ملاحظة الجهات الكثيرة التي يشتمل عليها ، والخصوصيّات المتنوّعة التي يحيط بها ، والمزايا الحقيقيّة التي يمتاز بها ، وكلّ جهة ينبغي أن تلحظ ، وكلّ أمر يناسب أن يراعى .
فنقول: تارةً: يلاحظ نفس القرآن ويجعل موضوعاً للملازمة ، مع قطع النظر عن كون الآتي به مدّعياً لكونه من عند الله ، وأ نّه أُنزل عليه من مبدإ الوحي ، واُخرى: مع ملاحظة الاقتران بدعوى كونه من عند غير الممكن .
فعلى الأوّل: يكون الوجه في الملازمة الخصوصيّات التي يشتمل عليها القرآن من جهة اشتماله على فنون المعارف ، وشتّى العلوم ، كالاُصول الاعتقاديّة ، والقوانين الشرعيّة العلميّة ، والفضائل الكاملة الأخلاقيّة ، والقصص والحكايات التاريخيّة ، والحوادث الكائنة في الآتية ، والعلوم الراجعة إلى الفلكيات ، وبعض الموجودات غير المرئيّة ، وغير ذلك من الجهات التي لا تحيط بها يد الإحصاء ، ولا تنالها
(الصفحة 46)
أفكار العقلاء .
ضرورة أنّ مثل هذا الكتاب المشتمل على هذه الخصوصيّات لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ، بداهة أ نّ نشأة المادّة تلازم التحوّل والتكامل ، والموجودات التي هي أجزاء هذا العالم لا تزال تتحوّل وتتكامل ، وتتوجّه من النقص إلى الكمال ومن الضعف إلى القوّة ، والإنسان الذي هو من جملة هذه الموجودات محكوم أيضاً لهذا القانون الطبيعي ، ومعرض للتغيّر والتبدّل ، والتحوّل والتكامل في ذاته وأفعاله وآثاره وأفكاره وإدراكاته ، ولا يكاد ينقضي عليه أزمان وهو غير متغيّر، ولا يتصرّم عليه أحيان وهو غير متبدّل .
أضف إلى ذلك: أ نّ عروض الأحوال الخارجيّة ، وتبدّل العوارض الحادثة يؤثّر في الإنسان أثراً عجيباً ، ويغيّره تغيّراً عظيماً ، فحالة الأمن تغاير الخوف من جهة التأثير ، والسفر والحضر متفاوتان كذلك ، والفقر والغنى والسلامة والمرض ، كلّ ذلك على هذا المنوال . وعليه: فكيف يمكن أن يكون الكتاب النازل في مدّة زائدة على عشرين سنة ، الجامع للخصوصيّات المذكورة وغيرها من عند غير الله ، ومع ذلك لم يوجد فيه اختلاف ، فضلاً عن أن يكون كثيراً ، ولم يرَ فيه تناقض ، فضلاً عن أن يكون عديداً؟!
وعلى الثاني: يكون الوجه في الملازمة ـ مضافاً إلى الخصوصيّات المشتمل عليها الكتاب ـ الاقتران بدعوى كونه من عند الله ، نظراً إلى أنّ الذي يبني أمره على الكذب والافتراء لا محيص له عن الواقع في الاختلاف والتناقض ، ولاسيّما إذا تعرّض لجميع الشؤون البشريّة والاُمور المهمّة الدنيويّة والاُخرويّة ، وخصوصاً إذا كانت المدّة كثيرة زائدة على عشرين سنة ، وفي المثل المعروف: «لا حافظة لكذوب» .
ثمّ إنّ في هذا المقام إشكالين:
(الصفحة 47)
أحدهما: منع بطلان التالي المستلزم لبطلان المقدّم ; لأ نّه قد اُخذ على القرآن مناقضات واختلافات ، وقد بلغت من الكثرة إلى حدٍّ ربما ألّفت فيها التأليفات ، وكتبت فيها الرسالات .
والجواب عنه: أ نّ المناقضات المذكورة كلّها مذكورة في كتب المفسِّرين ، ومأخوذة منها ، وقد أوردوها مع أجوبتها في تفاسيرهم ، وغرضهم من ذلك إزالة كلّ شبهة يمكن أن تورد ، ودفع كلّ توهّم يمكن أن يتخيّل ، لكنّ الأيادي الخائنة ، والعناصر الضالّة المضلّة المرصدة لاستفادة السوء من كلّ قضيّة وحادثة قد جمعوا تلك الشبهات في كتب وتأليفات ، من دون التعرّض للأجوبة الكافية ، ونعم ما قيل:
«لو كانت عين الرضا متّهمة فعين السخط أولى بالتّهمة» .
ثانيهما: اعتراف القرآن بوقوع النسخ فيه ، في قوله ـ تعالى ـ : (مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَة أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ) (1) .
وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَة وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) (2) .
والنسخ من أظهر مصاديق الاختلاف .
والجواب عنه أوّلاً: منع كون النسخ اختلافاً ، فضلاً عن أن يكون من أظهر مصاديقه ; فإنّه ـ بحسب الاصطلاح ـ يرجع إلى رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه ، ومن الواضح: أ نّ ارتفاع الحكم لأجل ارتفاع زمانه لا يعدّ تناقضاً ، ولا يوجب اختلافاً .
وثانياً: فإنّ النسخ إن كان بنحو تكون الآية الناسخة ناظرة بالدلالة اللفظيّة إلى الحكم المنسوخ ، ومبيّنة لرفعه ، كما في آية النجوي : (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا
- (1) سورة البقرة 2 : 106 .
(2) سورة النحل 16 : 101 .
(الصفحة 48)
نَـجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَلـكُمْ صَدَقَةً ذَ لِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1) .
حيث ذهب أكثر العلماء إلى نسخها بقوله ـ تعالى ـ : (ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَلـكُمْ صَدَقَـت فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُو وَ اللَّهُ خَبِيرُم بِمَا تَعْمَلُونَ ) (2) .
فعدم كونه من مصاديق الاختلاف ممّا لا ينبغي فيه الشكّ والارتياب .
وإن كان بنحو يكون مقتضى الجمع بين الآيتين اللّتين يتراءى بينهما الاختلاف والتنافي ، هو حمل الآية المتأخّرة على كونها ناسخة ، والمتقدّمة على كونها منسوخة ـ كما التزم به كثير من المفسِّرين ـ فثبوته في القرآن غير معلوم ، ولابدّ من البحث عنه في فصل مستقلّ ، ولِمَ لا يجوز الاستدلال بهذه الآية ـ أعني قوله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ . . .) ـ على نفي وقوعه في القرآن ، وسلامته من ثبوت النسخ فيه بهذا المعنى ؟ كما لايخفى .
التحدّي بأنّه تبيان كلّ شيء
قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـبَ تِبْيَـنًا لِّكُلِّ شَىْء) (3); فإنّ اتّصاف الكتاب ـ الذي يكون المراد به هو القرآن بملاحظة التنزيل ـ بكونه تبياناً لكلّ شيء دليل على كونه نازلاً من عند من يكون له إحاطة كاملة بجميع الأشياء ، بحيث لا يغيب عنه شيء ، أو لا يعزب عنه من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، أمّا الموجود الذي تكون إحاطته العلميّة تابعة لأصل وجوده في النفس والمحدوديّة ، كيف يمكن أن يكون من عنده كتاب موصوف بأنّه تبيان كلّ شيء ؟!
- (1 ، 2) سورة المجادلة 58 : 12 ـ 13 .
(3) سورة النحل 16 : 89 .
(الصفحة 49)
فمن هذه الخصوصيّة التي لا يعقل أن تتحقّق في البشر ، والكتاب الذي من عنده تستكشف خصوصيّة اُخرى ; وهي نزوله من عند الله العالم القادر المحيط ، كما هو واضح .
نعم ، ربما يمكن أن يتوهّم أ نّ القرآن لا يكون تبياناً لكلّ شيء ; لأنّا نرى عدم تعرّضه لكثير من المسائل المهمّة الدينيّة ، والفروع الفقهيّة العمليّة ، فضلاً عمّا ليس له مساس بالدين ، وليس بيانه من شأن الله ـ تبارك وتعالى ـ بما هو شارع وحاكم ; فإنّ مثل أعداد ركعات الصلاة التي هي عمود الدين(1)، معراج المؤمن ـ على ما روي ـ لا يكون مذكوراً في الكتاب العزيز ، مع أنّها من الأهمّية بمثابة تكون الزيادة عليها والنقص عنها قادحة مبطلة ، فضلاً عن خصوصيّات سائر العبادات والأعمال من الصوم والزكاة والحجّ وغيرها . وعليه: فكيف يصف القرآن نفسه ويعرّفه بأنّه تبيان كلّ شيء؟!
والجواب عن هذا التوهّم : أ نّ شأن الكتاب إنّما هو بيان الكلّيات ورؤوس المطالب . وأ مّا الجزئيّات والخصوصيّات، فإنّما تستكشف من طريق الرسول ، الذي فرض القرآن نفسه الأخذ بما آتاهم ، والانتهاء عمّا نهاهم بقوله ـ تعالى ـ : (وَ مَآ ءَاتَـئـكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَـئـكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (2) ، ففي الحقيقة أ نّ كون القرآن تبياناً أعمّ من أن يكون تبياناً للشيء بنفسه ، أو بواسطة الرسول الذي نزّل عليه القرآن .
- (1) المحاسن: 1 / 116 ح117 عن أبي جعفر (عليه السلام) ، وعنه وسائل الشيعة: 4 / 27 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ب 7 ح 12 ، وبحار الأنوار: 82 / 218 ح36 ، ومستدرك الوسائل: 3 / 31 ب8 ح2943 ، وفي وسائل الشيعة: 4 / 34 ب8 ح13 عن تهذيب الأحكام: 2 / 237 ح936 ، وفي بحار الأنوار: 82 / 232 ح57 ومستدرك الوسائل: 3 / 29 ، كتاب الصلاة ، أبواب أعداد الفرائض ب7 ح2935 ، عن دعائم الإسلام: 1 / 133 ، ورواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 10 / 206 مرسلاً .
(2) سورة الحشر 59 : 7 .