(الصفحة 55)
بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَ مِنم بَعْدُ وَ يَوْمَـئـِذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ) (1); فإنّ فيه خبراً عن الغيب ظهر صدقه بعد بضع سنين من نزول الآية ، فغلبت الرومُ فارس ، ودخلت مملكتها قبل مضيّ عشر سنين ، وفرح المؤمنون بنصر الله .
ومنها : قوله ـ تعالى ـ : (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (2) .
ومنها : قوله ـ تعالى في شأن القرآن ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُو لَحَـفِظُونَ ) (3) فإنّ القدر المتيقّن من مدلوله هو حفظ القرآن وبقاؤه ، وعدم عروض الزوال والنسيان له ، وإن كان مفاد الآية أوسع من ذلك ، وسيأتي في بحث عدم تحريف الكتاب، الاستدلال بهذه الآية عليه بنحو لا يرد عليه إشكال ، فانتظر .
ومنها : قوله ـ تعالى في شأن أبي لهب وامرأته ـ : ( سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَب * وَ امْرَأَتُهُو حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدِم) (4) .
وهو إخبار بأنّهما يموتان على الكفر ، ويدخلان النار ، ولا نصيب لهما من سعادة الإسلام الذي يكفِّر آثام الشرك ، ويوجب حطّ آثاره ، ويجبُّ ما قبله ، وقد وقع ذلك في الخارج ، حيث بقيا على الكفر إلى أن عرض لهما الموت .
ومنها : قوله ـ تعالى ـ : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَ عَمِلُواْ الصَّــلِحَـتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنم بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًا) (5) .
- (1) سورة الروم 30 : 2 ـ 5 .
(2) سورة المائدة 5 : 67 .
(3) سورة الحجر 15 : 9 .
(4) سورة المسد 111 : 3 ـ 5 .
(5) سورة النور 24 : 55 .
(الصفحة 56)
وقد تنجّز بعض هذا الوعد ، ولابدّ من إتمامه بسيادة الإسلام في العالم كلّه ، وذلك عند ظهور المهدي وقيام القائم ـ عجّل الله تعالى فرجه ـ الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً(1) ، وبه تتحقّق الخلافة الإلهيّة العالميّة ، والسلطنة الحقّة العامّة في جميع أصقاع الأرض ، ونواحي العالم .
ومنها : غير ذلك من الآيات الواردة في هذا الشأن ، الدالّة على نبإ غيبيّ ; كقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْمِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض) (2) .
فإنّ المروي عن عبدالله بن مسعود أ نّه قال: «إنّ الآية نبأ غيبيّ عمّن يأتي بعد»(3) .
وغير ذلك ; كالآيات الدالّة على أسرار الخليقة ممّا لا يكاد يمكن الاطّلاع عليها في ذلك الزمان ، وسيأتي التعرّض لشطر منها إن شاء الله تعالى .
نعم ، يبقى في المقام إشكال ; وهو: أنّ الإخبار بالغيب كثيراً ما يقع من الكهّان والعرّافين والمنجِّمين ، وكذبُ هؤلاء وإن كان أكثر من صدقهم ، إلاّ أنّه يكفي في مقام المعارضة وتحقّق الإشكال ثبوت الصدق ولو في مورد واحد ، فضلاً عمّا إذا كانت الموارد متعدّدة ; فإنّه حينئذ ينسدّ باب المصادفة أيضاً ; لأنّه مع وحدة المورد أو قلّة الموارد ، باب احتمال المصادفة مفتوح بكلا مصراعيه . وأ مّا مع التعدّد والكثرة لا يبقى مجال لجريان هذا الاحتمال . وعليه: فكيف يصير الإخبار بالغيب من دلائل الإعجاز ومسوّغاً للتحدّي ؟
والجواب عن هذا الإشكال يظهر ممّا ذكرناه في تعريف الغيب المقصود
- (1) الغيبة للطوسي: 46 ـ 52 ح30 ، 33 ، 37 و 40 ، بحار الأنوار: 51 / 65 ـ 109 ب1 .
(2) سورة الأنعام 6 : 65 .
(3) لم نعثر عليه عاجلاً .
(الصفحة 57)
بالبحث هنا ; فإنّه ـ كما عرفت(1) ـ عبارة عمّا لا يكاد يدركه الإنسان بسبب قواه الظاهرة والباطنة مع عدم الاستمداد من الغير والخارج . وعليه: فما له سبيل إليه وطريق إلى وصوله بسبب القواعد التي بأيديهم ـ التي تلقّوها ممّن علّمهم ـ لا يعدّ من الغيب هنا ; فإنّ الإخبار بالغيب الذي يكون من دلائل الإعجاز وموجباً لتسويغ التحدّي ; هو الذي لم يكن لمخبره واسطة إلى استكشافه ، وطريق إلى الوصول إليه غير طريق الوحي والاتّصال بمركز الغيب .
وأمّا أخبار هؤلاء، فمستندة إلى القواعد التي بأيديهم ، والأوضاع والخصوصيّات التي يتخيّلون كونها علائم وإفادات للحوادث الآتية ، مع أنّ التخلّف كثير ، وادّعاء العلم منهم قليل .
التحدّي بالبلاغة
من جملة ما وقع به التحدّي في الكتاب العزيز: البلاغة ، وهي وإن لم يصرّح بها فيه ، إلاّ أنّه يمكن استفادة التحدّي بها من بعض الآيات .
مثل قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَلـهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة مِّثْلِهِوَ ادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ ) (2) .
وقوله ـ تعالى ـ : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَلـهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَر مِّثْلِهِمُفْتَرَيَـت وَ ادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) (3)، ودلالتهماعلى التحدّي بالبلاغة إنّماتظهربعد ملاحظة أمرين:
الأوّل: أنّ العرب في ذلك العصر ـ أي عصر طلوع القرآن وبدء الدعوة
- (1) فى ص 51 ـ 52 .
(2) سورة يونس 10 : 38 .
(3) سورة هود 11 : 13 ـ 14 .
(الصفحة 58)
الإسلاميّة ـ قد كانت بعيدة عن الفضائل العلميّة بمراحل ، وعن الكمالات العلميّة الإنسانيّة بفراسخ ، بل كما يشهد به التاريخ كانت لهم أعمال وأفعال لا يكاد يصدر من الحيوانات ، فضلاً عن المرتبة الدنيا في نوع الإنسان ، والطبقة البعيدة عن التمدّن من هذا النوع .
نعم ، قد انحصرت فضيلتهم في البلاغة ، وامتازوا بالفصاحة ، بحيث لم يروا لغيرها قدراً ولا رتّبوا عليه أجراً ، وبلغ تقديرهم للشعر أن عمدوا لسبع قصائد من خيرة الشعر القديم ، وكتبوها بماء الذهب ، وعلّقوها على الكعبة ، واشتهرت بالمعلّقات السبع(1) ، وكان هذا الأمر رائجاً بينهم ، مورداً لاهتمام رجالهم ونسائهم ، وكان النابغة الذبياني هو الحكم في الشعر ، يأتي سوق عكاظ في الموسم فتضرب له قبّة ، فتأتيه الشعراء من كلّ ناحية ، وتعرض عليه الأشعار ; ليحكم فيها ، ويرجّح بعضها على بعض (2).
الثاني : أ نّ مثل هذا التعبير ; وهو الإتيان بالمثل في مقام المعارضة والاحتجاج ، إنّما يحسن توجيهه إلى المخاطب الذي كان له نصيب وافر من سنخ مورد الدعوى ، وخلاّق كامل مناسب لما وقع فيه النزاع ، فلا يقال مثلاً لمن
- (1) العقد الفريد ، لابن عبد ربّه 6 : 103 . خزانة الأدب 1: 61 ، مقدمة ابن خلدون : 581 ، الفصل التاسع والأربعون ، تاريخ آداب اللغة العربيّة ، جرجي زيدان 1 : 141ـ 142 ، تاريخ آداب العرب لمصطفى صادق الرافعي 3: 165 .
(2) النابغة الذبياني ، وهو: زياد بن معاوية بن ضباب الغطفاني ، ويكنى أبا أُمامة ، وإنّما سمّي بالنابغة ، إمّا لقوله: وحلّتْ في بني القينِ بن جسر *** فقد نبغت لنا منهم شؤونُ وإمّا لأنّه أكثر من قول الشعر ، وكان شعره نظيفاً من العيوب على كثرته ، وحتى ورد فيه: أنّه أشعر العرب ، وأنّه الحكم الفصل حينما تحتكم إليه الشعراء ، حيث كان تضرب له قبّة من أدم بسوق عكاظ ، فتقصده الشعراء ، فتعرض عليه أشعارها ، وتخضع لحكمه . الأغاني 11: 3 ـ 41 ، الأنساب للسمعاني 2: 270 ، شعراء النصرانيّة قبل الإسلام ، القسم الأوّل: 640 ـ 733 ، الأعلام للزركلي: 3 / 54 ـ 55 .
(الصفحة 59)
يعترض على كتاب فقهيّ ـ ككتاب التذكرة للعلاّمة الحلّي ـ : ائت بمثله ، إلاّ إذا كان له حظّ وافر من الفقه ، وسهم كامل من ذلك العلم ، فتوجيه هذا النحو من الخطاب إنّما ينحصر حسنه في مورد خاصّ . وعليه: فدعوة الناس إلى الإتيان «بسورة مثل القرآن» ، أو «بعشر سور مثله» مع انحصار فضيلتهم في البلاغة ، إنّما يكون الغرض منها الدعوة إلى الإتيان بمثله في البلاغة التي كانت العرب تمتاز بها ، فوجه الشبه في الآيتين وإن لم يصرّح به فيهما ، ولم يقع التعرّض له ، إلاّ أنّه بملاحظة ما ذكرنا ينحصر بالبلاغة ليحسن توجيه مثل هذا الخطاب، كما عرفت .
بل قد مرّ سابقاً(1) أ نّه يمكن أن يقال: إنّ توصيف عشر سور بوصف كونها مفتريات ، لا يكاد ينطبق ظاهراً إلاّ على المزايا الراجعة إلى الألفاظ ، من دون ملاحظة المعاني وعلوّها ، وعلى الخصوصيات التي تشتمل عليها العبارات ، من دون النظر إلى المطالب وسموّها ، وبهذا الوجه قد تفصّينا عن إشكال مخالفة الترتيب الطبيعي الواقعة في آيات التحدّي بمقتضى النظر البدوي ، كما عرفته مفصّلاً .
وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في أنّ العناية في الآيتين إنّما هي بموضوع البلاغة فقط، مع أنّ كون البلاغة من أعظموجوه الإعجاز لايحتاج إلى التصريح به في الكتاب، بل يحصل العلم به بالتدبّر في كون الكتاب معجزة عظيمة للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، وأ نّه لماذا بعث الله موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء(2) ، وعيسى بن مريم بآلة الطبّ (3) ، ومحمّداً (صلى الله عليه وآله) بالكلام والخطب؟ (4) ، مع أنّ المعتبر في حقيقة الإعجاز هو كون المعجز أمراً خارقاً للعادة البشريّة ، والنواميس الطبيعيّة ، كما عرفت تفصيل الكلام فيه .
- (1) في ص 34 ـ 35 .
(2) سورة الأعراف 7: 107 ـ 108 ، 115 ـ 117 ، سورة طه 20 : 17 ـ 22 ، 65 ـ 69 ، سورة الشعراء 26 : 43 ـ 45.
(3) سورة آل عمران 3: 49 ، سورة المائدة 5: 110 .
(4) كما في الرواية الآتية في هامش ص 61 ـ 62 .