(الصفحة 9)
هو مصون منه ، وكان ذلك بمحضر جماعة من الأفاضل لايقلّ عددُهم ، وعدّة من الأعلام يعتنى بشأنهم ، وكنت أكتب خلاصة البحث ; ليكون لي تذكرةً ، ولغيري بعد مرور الأيّام تبصرةً ، وقد بقي المكتوب في السواد سنين متعدّدة إلى أن ساعدني التوفيق ثانياً لإخراجه إلى البياض .
وأقرّ ـ ولا محيص عن الإقرار ـ بأنّ الإنسان يقصر باعه ـ وإن بلغ ما بلغ ـ ويقلّ اطّلاعه ـ وإن أحاط بجميع الفنون ـ عن البحث التامّ حول كلام الكامل ، وكيف يصحّ في العقول أن يحيط الناقصُ بالكامل ; سواء أراد الوصول إلى معناه ، والبلوغ إلى مراده ، أم أراد الوصول إلى مرتبة عظيمة ، واستكشاف شؤونه من إعجازه وسائر ما يتعلّق به ؟!
ولكن لا ينبغي ترك كلّ ما لا يدرك كلّه ، ولا يصحّ الإعراض عمّا لا سبيل إلى فهم حقيقته ، خصوصاً مع ابتناء الدين الخالد على أساسه وإعجازه ، وتوقّف الشريعة السامية على نظامه الرفيع ; فإنّه ـ في هذه الحالة ـ لابدّ من الورود في بحر عميق بمقدار ميسور ، والاستفادة منه على قدر الظرف المقدور .
ومع أنّ الكتاب ـ سيّما في هذه الأعصار التي تسير قافلة البشر إلى أهداف مادّية ، وتبتني حياتهم التي لا يرون إلاّ إيّاها على أساس اقتصاديّ ، وأصبحت الشؤون المعنويّة كأنّه لا يحتاج إليها ، والقوانين الإلهيّة غير معمول بها ـ قد صار هدفاً للمعاندين والمخالفين ; لأنّهم يرون أنّ الاقتفاء بنوره ، والخروج عن جميع الظلمات بسببه يسدّ باب السيادة المادّية ، ويمنع عن تحقّق السلطة ، ويوجب رقاء الفكر ، وحصول الاستضاءة ، فلابدّ لهم للوصول إلى أغراضهم الفاسدة من إطفاء نوره ، وإدناء مرتبته ، وتنقيص مقامه الشامخ ، فتارةً: يشكّكون في إعجازه ، ويوردون على الناس شبهات في ذلك ، واُخرى: يتمسّكون بتحريفه ويثبتون تنقيصه .
(الصفحة 10)
ومن العجب: أنّ بعض من لا يطّلع على حقيقة الأمر ، ويتخيّل أنّ البحث في هذه المباحث إنّما يجري مجرى المباحث العلميّة ، التي لا تتجاوز عن البحث العلمي ، قد وافقهم في هذه العقيدة الفاسدة ، غفلة عن أنّ الأيادي الخفيّة ناشرة لهذه الفكرة الخبيثة ، وباعثة على رواجها بين العوام والجهلة ، وهدفها سلب الاعتصام بحبل الله المتين ، وترك الاقتداء بكلام الله المبين ، ونفي وصف الإعجاز والحجّية عن القرآن العظيم .
فمثل هذه الجهات أوجب البحث حول الكتاب المجيد بالبحوث التي أشرت إليها ، وأظنّ أنّه لا يبقى موقع للشبهة ـ مع المراجعة إلى هذه الرسالة ـ لمن يريد استكشاف الحقيقة ، ويترك طريق الغيّ والجهالة ، فقد بالغت على أن أجمع فيها ما يكون دليلاً على المقصود ، وأجبت عن الشبهات الواردة بما هو مقبول العقول ، ومع ذلك فالنقص والخطأ فيه لو كان ، فمنشؤه قصور الباع ، وعدم سعة الاطّلاع ، وأرجو من القارئ الكريم أن ينظر إليها بعين الإنصاف ، وأن يذكّرني إذا أشرف على نقص أو اشتباه .
وأبتهل إليه تعالى أن يمدّني بالتوفيق ، ويلحظ عملي بعين القبول ; فإنّه الوليّ الحميد المجيد .
قم ، الحوزة العلميّة ، جمادى الاُولى 1396هـ
محمّد الفاضل اللنكراني
(الصفحة 11)
حقيقة المعجزة
* المعجزة اصطلاحاً وشروطها .
* إنكار المعجزة .
* عدم لزوم المعجزة .
* وجه دلالة الإعجاز على الصدق .
(الصفحة 12)
(الصفحة 13)حقيقة المعجزة
بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَل إِلاَّ جِئْنَـكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيرًا
(سورة الفرقان 25:33)
المعجزة اصطلاحاً وشروطها
المعجزة بحسب الاصطلاح هو ما يأتي به المدّعي لمنصب من المناصب الإلهيّة ; من الاُمور الخارقة للعادة النوعيّة ، والنواميس الطبيعيّة ، والخارجة عن حدود القدرة البشريّة ، والقواعد والقوانين العلميّة وإن كانت دقيقة نظريّة ، والرياضات العلميّة وإن كانت نتيجة مؤثِّرة ، بشرط أن يكون سالماً عن المعارضة عقيب التحدّي به ، ففي الحقيقة تعتبر في تحقّق الإعجاز الاصطلاحي الاُمور التالية:
الأوّل : أن يكون الإتيان بذلك الأمر المعجز مقروناً بالدعوى ، بحيث كانت الدعوى باعثةً على الإتيان به ليكون دليلاً على صدقها ، وحجّةً على ثبوتها .
الثاني: أن تكون الدعوى عبارة عن منصب من المناصب الإلهيّة ، كالنبوّة والسفارة ; لأنّه حيث لا يمكن تصديقها من طريق السماع عن الإله ، لاستحالة ذلك ، فلابدّ من المعجزة الدالّة على صدق المدّعي ، وثبوت المنصب الإلهي ، كما يأتي بيان ذلك في وجه دلالة المعجزة على صدق الآتي بها . وأمّا لو لم تكن الدعوى منصباً إلهيّاً ، بل كانت أمراً آخر كالتخصّص في علم مخصوص مثلاً ، فالدليل الذي يأتي به مدّعيه لإثبات صدقه لا يسمّى معجزة ; لعدم توقّف إثباته على الإتيان