(الصفحة 92)
بل هو استعمال شائع في لغة العرب (1) ، بل لا ينحصر بتلك اللغة ; فإنّ ما يرادف اليوم في الفارسيّة مثلاً قد يطلق ويراد به بياض النهار ، وقد يطلق ويراد به المجموع منه ومن مدّة مغيب الشمس وإشراقها على القارّة الاُخرى ، وكذلك ما يرادف الليل .
ومن الموارد التي استعمل فيها لفظ «اليوم» . وكذا «الليل» واُريد بكلّ واحد ما يقابل الآخر ما جمع فيه بين اللّفظين ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَال وَ ثَمَـنِيَةَ أَيَّام حُسُومًا) (2) .
وممّا استعمل فيه لفظ اليوم واُريد به المجموع قوله ـ تعالى ـ : (تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَـثَةَ أَيَّام) (3) .
وكذا الآية المبحوث عنها في المقام ، المشتملة على لفظ «اليوم» .
وممّا استعمل فيه لفظ الليل واُريد به المجموع قوله ـ تعالى ـ : (وَ إِذْ وَ عَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (4)، وكذا الآية المبحوث عنها في المقام المشتملة على كلمة «الليل» .
فانقدح أنّه لا منافاة بين الآيتين ، ولا مناقضة بين الكريمتين ، فلا موقع للشبهة في البين .
ثانيهما: أنّ الكتاب كثيراً ما يسند الفعل إلى العبد واختياره ، فيدلّ ذلك على عدم كونه مجبوراً في أفعاله ، وقد يسنده إلى الله تبارك وتعالى ، وهذا ظاهر في أنّ العبد مجبور في أفعاله ، وأنّه ليس له اختيار إلاّ اختياره تعالى .
- (1) لسان العرب : 6 / 525 .
(2) سورة الحاقة 69 : 7 .
(3) سورة هود 11 : 65 .
(4) سورة البقرة 2 : 51 .
(الصفحة 93)
فمن الأوّل: قوله ـ تعالى ـ : (فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَ مَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ) (1) . وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا ) (2) .
ومن الثاني: قوله ـ تعالى ـ : (وَ مَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ) (3) قالوا: وهذا تناقض صريح وتهافت محض .
والجواب: أمّا كون الإنسان مختاراً في أفعاله الاختياريّة ، غير مجبور بالإضافة إليها ، قادراً على الفعل والترك ، فممّا يدركه الإنسان بالفطرة السليمة ، ولا يشكّ فيه عند استقامتها ، وعدم الانحراف عنها ، وهذا الأمر ـ أي كون العبد مختاراً غير مجبور ـ ممّا أطبق عليه العقلاء كافّة ، وبنوا عليه اُموراً كثيرة ; فإنّ القوانين الوضعيّة عندهم لغرض التنفيذ والموافقة لا يكاد يمكن فرض صحّتها ، وواجديّتها للشرائط المعتبرة في التقنين إلاّ مع مفروغيّة اختيار الإنسان في أفعاله وأعماله; ضرورة أنّه لا معنى لسنّ القانون بالإضافة إلى غير المختار ; فإنّ القانون إنّما يكون الغرض منه الانبعاث والموافقة ، وهو لا يعقل تحقّقه بدون الإرادة والاختيار .
وكذا الأوامر والنواهي الصادرة من الموالي العرفيّة بالنسبة إلى عبيدهم ، إنّما تتفرّع على كون اتّصاف العبيد بالقدرة والاختيار أمراً ضروريّاً عند العقلاء ، ولا ارتياب فيه عندهم أصلاً .
وكذا التحسين والتقبيح العقلائيّان اللّذان هما من الموضوعات المسلّمة عند العقلاء ، والأحكام الضروريّة لديهم ، إنّما يتفرّعان على هذا الأمر الذي ذكرناه ، بداهة أنّه لا وجه لاتّصاف العمل غير الاختياري بالحسن أو القبح ، ومن عدم الاتّصاف لا يبقى موقع للمدح أو الذمّ .
- (1) سورة الكهف 18 : 29 .
(2) سورة الإنسان 76 : 3 .
(3) سورة الإنسان 76 : 30 .
(الصفحة 94)
وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في أنّ اتّصاف الإنسان بالاختيار في أفعاله الإراديّة وصحّة إسنادها إليه ـ لأنّه فاعل مختار ـ من الاُمور البديهيّة عند العقلاء الذين هم الحكّام في باب التقنين ، وجعل الأحكام ، وما يتفرّع عليه من الإطاعة والعصيان ، واستحقاق المدح أو الذمّ ، والجنان أو النيران ، وما هو بمنزلتهما من المثوبات والعقوبات الدنيويّة .
ومع قطع النظر عن جميع ما ذكرنا أنّ العاقل يرى الفرق الواضح بين حركة يد المرتعش ، والحركة الاختياريّة الصادرة من غيره ، ولا يرتاب في المغايرة البيّنة بين سقوط الإنسان من شاهق إلى الأرض قهراً ، وبين إسقاطه نفسه منه إليها اختياراً ، فيرى أنّه مختار في الثانية دون الاُولى ، ويستحقّ الذمّ فيها دونها .
فانقدح أنّ اتّصاف الإنسان بالاختيار ـ الذي هو المصحّح لإسناد الأفعال الاختياريّة الصادرة منه إليه ـ ممّا لا ريب فيه عند العقل والعقلاء ، ولا شكّ فيه عند الوجدان أصلاً .
وأمّا صحّة إسناد هذه الأفعال ـ التي تسند إلى الإنسان حقيقة ـ إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ بالإسناد الخالي عن العناية والمسامحة ، فلأنّ واجب الوجود لم ينعزل عن خلقه بعد الإيجاد ، لما ثبت في محلّه ـ من العلم الأعلى ـ من أنّ الممكن كما يفتقر في حدوث وجوده وتلبّسه بلباس الوجود إلى العلّة ، كذلك يحتاج في البقاء والاستمرار إليها ; لأنّ الافتقار والحاجة من لوازم ذات الممكن وماهيّته ، قال الله تبارك وتعالى :
(يَـأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ) (1) .
وقال الشاعر الفارسي:
(الصفحة 95)
سيه روئى ز ممكن در دو عالم *** جدا هرگز نشد و الله أعلم(1)
فمثل الموجودات الممكنة إلى خالقها وبارئها ليس كمثل البناء والكتاب إلى البنّاء والكاتب ، حيث لا حاجة في بقائهما إلى بقاء صانعهما ، أو مثل الولد إلى والده ، حيث يستغني الولد في بقائه عن بقاء والده ، بل مثلها إليه ـ تبارك وتعالى ـ مثل شعاع الشمس ونورها إليها ; فإنّه يحتاج إليها حدوثاً وبقاءً ، كما أنّ نور الوجود لايعقل بقاؤه بدون علّته الواجبة ، وكذا مثل الضوء بالإضافة إلى القوّة الكهربائيّة المؤثِّرة في إيجاده ; فإنّه لا يزال يفتقر في بقائه إلى الاستمداد من تلك القوّة ، كما أنّه كان في حدوثه محتاجاً إلى اتّصال سلكه بمصدر تلك القوّة .
وبالجملة: من البديهيّات الواضحة الثابتة في العلم الأعلى ، أنّ الممكن كما أنّه يحتاج حدوثاً إلى إفاضة الوجود عليه من المبدع الأوّل ، كذلك يفتقر في بقائه إلى الاستمداد منه واتّصاله بالمبدإ الأعلى ، بل قد ثبت في ذلك العلم أنّ الممكن ليس شيئاً له الارتباط الذي مرجعه إلى وصف زائد على حقيقته ، بل ذاته عين الربط ، وحقيقته محض الاتّصال ، فكيف يعقل حينئذ غناؤه وخلوّه عن الربط الذي هو ذاته وحقيقته؟! .
إذا عرفت ذلك; يظهر لك صحّة إسناد الأفعال الاختياريّة الصادرة من الممكنات إلى خالقها أيضاً ; ضرورة أنّه من جملة مبادئ الفعل الاختياري الذي هو الركن العظيم في صدوره وتحقّقه ، هو نفس وجود الفاعل ، بداهة أنّه مع عدمه لايعقل صدور فعل اختياريّ منه ، فوجوده أوّل المبادئوأساس المقدّمات .
ومن المعلوم أنّ هذه المقدّمة خارجة عن دائرة قدرة الفاعل واختيار الإنسان ; ضرورة أنّه يكون باختيار العلّة المؤثِّرة التي يحتاج إليها الإنسان حدوثاً وبقاءً ،
- (1) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة ، الجزء الأوّل من السفر الأوّل : 69 .
(الصفحة 96)
فالفعل الاختياري الصادر من الإنسان بما أنّ بعض مبادئه خارج عن تحت قدرته واختياره ، بل يكون باختيار العلّة الموجدة يصحّ إسناده إليها .
وبما أنّ بعض مبادئه ـ كالإرادة الحاصلة بخلاّقيّة النفس وإفاضتها التي هي أيضاً عناية من العلّة صاحبة المشيئة والإرادة ، وإفاضة حاصلة من ناحيتها ، وعطيّة واصلة من جانبها ، ومظهر للخلاّقيّة الموجودة فيها ـ باختياره وإرادته يصحّ إسناده إلى نفسه ; ضرورة أنّ صحّة الإسناد لا تلازم الاستقلال ; فإنّ مرجع وصف الاستقلال ـ بمعناه الحقيقي ـ إلى أن يكون سدّ جميع الأعدام الممكنة ، حتّى العدم الجائي من قبل عدم الفاعل باختياره وإرادته ، مع أنّا فرضنا عدم ثبوت الاستقلال بهذا المعنى ; لأنّ وجود الفاعل ـ الذي قد عرفت أنّه الركن العظيم في صدور الفعل الاختياري ـ خارج عن حريم اختياره ، لكن هذا الأمر ينافي الاستقلال ، لا صحّة الإسناد إلى الفاعل المختار .
والظاهر وقوع الخلط بين هذين العنوانين بحيث توهّم أنّ صحّة الإسناد إلى الفاعل ملازمة لاختصاص الإسناد به ، الذي مرجعه إلى استقلاله في صدور الفعل ، مع أنّ الغرض مجرّد صحّة الإسناد بنحو الحقيقة .
وبعبارة اُخرى: المقصود إثبات الإسناد إليه فقط ، لا نفي إسناده إلى غيره أيضاً .
فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الفعل الاختياري الصادر عن الإنسان ، كما أنّه منسوب إلى فاعله ومريده ، كذلك منسوب إلى الواجب الذي هو العلّة الموجدة للفاعل ، وهو يحتاج إليها حدوثاً وبقاءً ، وهذا هو الأمر بين الأمرين (1) ، والطريقة الوسطى
- (1) الكافي : 1 / 155 ـ 160 ، كتاب التوحيد ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، بحار الأنوار: 4 / 197 عن الصادق (عليه السلام) .