(الصفحة 97)
المأخوذة من إرشادات أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ، والأمران هما: التفويض الذي مرجعه إلى استقلال الممكن في أفعاله ، والقائل به أخرج الممكن عن حدّه إلى حدّ الواجب بالذات فهو مشرك ، والجبر الذي مرجعه إلى سلب التأثير عن الممكن ، ومزاولته ـ تعالى ـ للأفعال والآثار مباشرة من دون واسطة ، والقائل به حطّ الواجب عن علوّ مقامه إلى حدود الممكن ، فهو كافر ، ولقد سمّى مولانا الرضا ـ عليه آلاف التحيّة والثناء ـ على رواية الصدوق في العيون ـ القائل بالجبر كافراً ، والقائل بالتفويض مشركاً(1) .
إذن فلا محيص عن القول بالأمر بين الأمرين ، الذي هو الطريقة الوسطى لمن كان على دين الإسلام الحنيف ، وإليه يرشد قول الله ـ تبارك وتعالى ـ في بعض المواضع من كتابه العزيز : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (2) .
فأثبت الرمي من حيث نفاه ، ومرجعه إلى صدور الرمي اختياراً من النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعدم استقلاله في ذلك .
وكقوله ـ تعالى ـ في الآية التي هي محلّ البحث: (وَ مَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ) (3); فإنّ مفادها ثبوت المشيئة لله من حيث كونها لهم ، فمشيئة الممكن ظهور مشيئة الله ، وعين الارتباط والتعلّق بها ، وبذلك ظهر الجواب عن إشكال المناقضة المتقدّم ، ولكن لتوضيح ما ذكرنا ينبغي إيراد أمثلة .
فنقول: منها: أ نّ الأفعال الصادرة من الإنسان بسبب اليد والرجل والسمع والبصر وغيرها من الأعضاء تصحّ نسبتها إلى نفس تلك الأعضاء ، فيقال: رأت العين وسمعت الاُذن ، وضربت اليد ، وتحرّكت الرجل مثلاً ، وأيضاً تصحّ نسبتها إلى النفس الإنسانيّة التي هي المنشأ لصدور كلّ فعل ، وهي التي يعبَّر عنها بـ «أنا»
- (1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 124 ب 11 ح 17 ، وعنه بحار الأنوار: 25 / 328 ح3 .
(2) سورة الأنفال 8 : 17 .
(3) سورة الإنسان 76 : 30 .
(الصفحة 98)
فيقال: رأيت وسمعت ، وضربت ، وتحرّكت ونحوها ، ومثل الموجودات الممكنة إلى بارئها وخالقها ـ والمثال يقرب من وجه ـ مثل تلك الأعضاء إلى النفس .
ومنها : النور الحاصل في الجدار ، المنعكس من المرآة الواقعة في محاذاة الشمس وإشراقها ; فإنّ هذا النور كما أنّه يرتبط بالشمس ; لأنّ المرآة ليس لها بذاتها نور ; لعدم نور لها ، كذلك ليس من الشمس المطلق; أي من دون وسط وقيد ، بل هو نور شمس المرآة ، فيصحّ انتسابه إلى كلّ واحد منهما ; لدخالته في تحقّقه ، وارتباطه بكلّ واحد .
ومنها: ما فرضه بعض الأعلام من أنّه لو كان إنسان يده شلاّء لا يستطيع تحريكها بنفسه ، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إراديّة وقتيّة بواسطة قوّة الكهرباء ، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك المشتمل على تلك القوّة ، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده ومباشرة الأعمال بها ، فلا شبهة في أنّ هذا التحريك من الأمر بين الأمرين ; لأنّه لا يكون مستنداً إلى الرجل مستقلاًّ ; لعدم القدرة عليه بدون إيصال القوّة إلى يده ، ولا يكون مستنداً إلى الطبيب مستقلاًّ ; لأنّ صدوره كان من الرجل بإرادته واختياره ، فالفاعل لم يجبر على فعله ; لأنّه مريد له ، ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مبادئه ; لأنّ المدد من غيره ، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلّها من هذا القبيل(1) .
وقد انقدح ـ بحمد الله ـ ممّا ذكرنا مع إجماله واختصاره بطلان مسلكي الجبر والتفويض ، وأ نّ غاية ما يقتضيه التحقيق الفلسفي هو ما أرشدنا إليه الأ ئـمّة المعصومون ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ من ثبوت الأمر بين الأمرين ، وصحّة إسناد الأفعال الاختياريّة إلى الإنسان وإلى موجده ، والملاك في صحّة
- (1) البيان في تفسير القرآن : 89 ، أوهام حول إعجاز القرآن .
(الصفحة 99)
توجّه التكليف ، وترتّب المثوبة والعقوبة على الإطاعة والمعصية هو هذا المقدار ، وهو صحّة الإسناد حقيقة من دون أن يكون الاستقلال أيضاً معتبراً فيه ; ضرورة أنّ المناط هو صدور الفعل اختياراً ، ووجوده مسبوقاً بالإرادة بمبادئها ، وهو موجود .
ويرشد إلى ما ذكرنا الجملة المعروفة: «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله»; فإنّها تفيد أنّ الحول والقوّة على إيجاد الأفعال إنّما ينتهي إلى الله ، ويستمدّ منه ، ولا يمكن أن يتحقّق مع قطع النظر عن الله والارتباط إليه ، فالحول والقوّة المصحّح لإيجاد الفعل والاقتداء عليه موجود ، ولكنّ الأساس هو الاتّصال به تعالى .
وهذا كما إذا كان إنسان عاجزاً عن إيجاد فعل وأقدره الآخر عليه ، فأوجده بإرادته واختياره ، كما إذا كان الفعل متوقّفاً على صرف مال ، وهو لا يكون متمكِّناً منه بوجه ، فبذل الآخر إيّاه ذلك المال ، فقدر على إيجاده فأوجده ; فإنّه مع كون الفعل صادراً بإرادة الفاعل واختياره ، لا مجال لإنكار كون القدرة على إيجاده ناشئة من صاحب المال الباذل له إيّاه ، ومع ذلك لا يكون التحسين والتقبيح متوجّهاً إليه أصلاً ; لأنّ الملاك فيها هو صدور العمل الحسن أو القبيح بالمباشرة ، ولا يتعدّى عن الفاعل بالإرادة إلى غيره ممّن كان دخيلاً في صدور الفعل وتحقّق القدرة عليه ، إلاّ إذا انطبق عليه عنوان مباشريّ ، كالإعانة على الإثم ، أو على البرّ والتقوى ، فيصير ذلك العنوان لأجل كونه مباشريّاً موجباً لتوجّه التحسين أو التقبيح إليه ، فتأمّل جيّداً .
شبهة وجود العجز عن الإتيان بغير القرآن أيضاً
من الشبهات المتعلّقة بإعجاز القرآن: أ نّ عجز البشر عن الإتيان بمثل القرآن لا دلالة فيه على كونه معجزاً مرتبطاً بمبدإ الوحي ، خارقاً للعادة البشريّة
(الصفحة 100)
والنواميس الطبيعيّة ; فإنّ مثل كتاب «اقليدس»(1) وكتاب الشاعر والأديب الفارسي المعروف: «سعدي» يكون البشر عاجزاً عن الإتيان بمثله ، فلا محيص حينئذ عن اتّصافه بكونه معجزاً ; لعدم الفرق بينه وبين القرآن ، فلا وجه لاتّصافه بكونه كذلك ، كما هو ظاهر .
والجواب: أنّا قد ذكرنا(2) في بحث حقيقة المعجزة أ نّ للمعجز الاصطلاحي شروطاً متعدّدة ، وكثير منها مفقود في مثل الكتابين المذكورين ، فإنّا قد حقّقنا فيما تقدّم(3) أ نّه يعتبر في المعجز أن يكون مقروناً بدعوى منصب إلهيّ ، وأن يكون الإتيان به في مقام التحدّي الراجع إلى دعوة الناس إلى الإتيان بالمثل ; نظراً إلى أنّ توصيف البشر بالعجز الذي هو من النقائص التي يتنفّر عن الاتّصاف بها ، وينزجر عن الاقتران به ، يوجب صرف جميع ما باختيارهم من القوى والإمكانات في الإتيان بالمثل لرفع هذه النقيصة وإبطال هذه التّهمة ، مضافاً إلى أنّ البشر يأبى بالطبع عن أن يلقي طوق إطاعة الغير ـ الذي هو من جنسه ـ على عنقه ، وأن يعتقد بتفوّقه عليه ، ولزوم إطاعته له ، فيسعى في إبطال دعوى المدّعي لذلك إذا كان الإبطال في مقدرته وإمكانه .
وكذا ذكرنا فيما تقدّم(4) أ نّه يعتبر في المعجز أن يكون خارجاً عن نواميس الطبيعة ، وخارقاً للعادة البشريّة ، ومن المعلوم عدم ثبوت هذه الاُمور في الكتابين وأمثالهما . أ مّا عدم ثبوت الأمرين الأوّلين فواضح ; ضرورة عدم ثبوت دعوى
- (1) اقليدس ، عالم يوناني ورياضي ومنجم وفيلسوف مشهور ومتبحّر في علم الهندسة ، زندگينامه علمى دانشوران: 2/1 ـ 47، دائرة المعارف، دانشمندان علم و صنعت: 1/64ـ67، دائرة المعارف فارسى: 1/184.
(2) في ص 13 ـ 22 .
(3) في ص13 .
(4) في ص15 .
(الصفحة 101)
منصب إلهيّ ، وعدم وقوع التحدّي بالإضافة إلى الكتابين . وأ مّا عدم ثبوت الأمر الأخير ; فلأنّ الإتيان بمثل الكتابين لا يكون بممتنع عادةً أصلاً ، خصوصاً لو اُريد الامتناع ولو اجتمع أزيد من واحد ، كما هو ظاهر .
شبهة العجز عن المعارضة بسبب الخوف والتطبّع على القرآن
إنّ ما نراه ونقطع به هو: أنّ العرب لم تعارض القرآن ، ولم تأت بما هو مثله ولو سورة منه ، إلاّ أ نّه لم يعلم أنّ عدم الإتيان كان مسبّباً عن عدم القدرة ، وعدم الاستطاعة على الإتيان بمثله حتّى يتّصف القرآن معه بالإعجاز ، فلعلّ عدم الإتيان كان معلولاً لجهات اُخرى لا تعود إلى الإعجاز ، ولا ترتبط به ، بل الاعتبار والتاريخ يساعدان على ذلك ; نظراً إلى أنّ العرب الذين كانوا معاصرين للدعوة ، أو متأخّرين عنها بقليل ، كان يمنعهم عن التصدّي لذلك والورود في هذا المجال ، الخوف الناشئ من سيطرة المسلمين واقتدارهم ، المانع عن تجرّي العرب على القيام بمعارضة القرآن الذي هو الأساس في الإسلام ، وصدق النبوّة ، وبعد انقراض الخلفاء الأربعة ، وتصدّي الأمويّين للزعامة الإسلاميّة صار القرآن مأنوساً لجميع الأذهان ، راسخاً في القلوب ، ولم يبقَ معه للقيام بالمعارضة مجال .
والجواب: أ نّ عدم الإتيان بمثل القرآن في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) وحياته لا يتصوّر له وجه ، ولا يعقل له سبب غير العجز وفقدان القدرة ; من دون فرق بين الزمان الذي عاشه (صلى الله عليه وآله) في مكّة المكرّمة ، والزمان الذي عاشه (صلى الله عليه وآله) في المدينة المشرّفة:
أمّا البرهة الاُولى مع وقوع التحدّي فيها ، فواضح من أنّه لم يظهر للإسلام في تلك البرهة شوكة ، ولا للمسلمين مع قلّة عددهم اقتدار وسيطرة ، بل كان الخوف ثابتاً لهم كما يشهد به التاريخ ويساعده الاعتبار ، فما الذي منع الكفّار من العرب في هذه البرهة من الزمن عن الإتيان بمثل القرآن ، مع أنّهم تشبّثوا بكلّ طريق إلى