(صفحه102)
وثانيهما: أنّ الألفاظ والمعاني غير متناهية؛ إذ اللفظ يتركّب من الحروف،وكلّما تركّب على كيفيّة تتصوّر فيه كيفيّة اُخرى، والمعاني أيضاً كذلك؛ إذالمعاني الممتنعة والواجبة أيضاً تحتاج إلى وضع الألفاظ لها، فكيف يمكنللبشر المتناهي وضع الألفاظ الغير المتناهيّة للمعاني كذلك؟! فلابدّ من انتهاءالوضع إليه تعالى، وهو على كلّ شيء قدير.
ثمّ ذكر تأييداً لهذا بأنّه لو سلّم إمكان ذلك للبشر فتبليغ ذلك التعهّدوإيصاله إلى عامّة البشر دفعةً محال عادةً.
ودعوى أنّ التبليغ والإيصال يكون تدريجاً ممّا لا ينفع؛ لأنّ الحاجة إلىتأدية المقاصد بالألفاظ ضروريّة للبشر على وجهٍ يتوقّف عليه حفظ نظامهم،فيسأل عن كيفيّة تأدية مقاصدهم قبل وصول ذلك التعهّد إليهم، بل يسأل عنالخلق الأوّل كيف كانوا يبرزون مقاصدهم بالألفاظ، مع أنّه لم يكن بعدُ وضعوتعهّد من أحد؟ وكيف كلّم يعرب بن قحطان ـ مثلاً ـ الحاضرين لمجلسالوضع؟ إذ المفروض أنّهم لا يعلمون بوضع الألفاظ للمعاني، فالواضع هو اللّهتعالى، ولكن ليس وضعه تعالى للألفاظ كوضعه للأحكام على متعلّقاتها وضعتشريعيّاً، ولا كوضعه الكائنات وضعاً تكوينيّاً، فإنّ ذلك ممّا نقطع بخلافه، بلالمراد من كونه تعالى واضعاً أنّ حكمته البالغة لمّا اقتضت تكلّم البشر بإبرازمقاصدهم بالألفاظ فلابدّ من انتهاء كشف الألفاظ لمعانيها إليه تعالى شأنهبوجهٍ، إمّا بوحي منه إلى نبيّ من أنبيائه، أو بإلهام منه إلى البشر، أو بإيداعذلك في طباعهم، بحيث صاروا يتكلّمون ويبرزون المقاصد بالألفاظ بحسبفطرتهم حسب ما أودعه اللّه في طباعهم، فدعوى أنّ مثل يعرب بن قحطانأو غيره هو الواضع ممّا لا سبيل إليه؛ لما عرفت من عدم إمكان إحاطة البشر
(صفحه 103)
بذلك.
أقول: للتأمّل في هذا المقال مجالٌ من جهات مختلفة:
الأوّل: أنّه لو قلنا بأنّ الواضع هو اللّه تعالى وينتقل هذا إلى الناس بواسطةوحي إلى الأنبياء فإنّه كاشف عن أهمّيّة مسألة الوضع، فلابدّ من تصدّيالتواريخ أو أحد الكتب السماويّة لضبطه ولو بصورة قصّة من قصص الأنبياءالسالفة، مع أنّه لم تذكر هذه المسألة في أيّ عصر وزمان ولم يرد في من تصدّىلها خبرٌ ولا أثر.
الثاني: أنّ دعوى انتقال الوضع من اللّه تعالى إلى الناس بصورة الإلهام أوإيداع ذلك في طباعهم مدفوعٌ، بأنّ المراد من الإلهام أو الإيداع هل هو الإلهامأو الإيداع إلى كلّ النفوس إلى يوم القيامة، أو إلى عدّة من الناس في أوّلالخلقة؟ فلو كان المراد هو الأوّل فلا يناسب هذا جهلنا باللّغات، ولو كانالمراد هو الثاني فلا يناسب هذا تكثّر اللغات.
وإن قلنا: إنّ مسألة تكثّر اللغات أيضاً منتسب إلى اللّه تعالى، بأنّ نبيّاً منالأنبياء بلّغ أحكام اللّه باللسان العربي، والآخر بلسان سّرياني، وهكذا فيجميع اللغات والألسنة، أو أنّ اللّه تعالى ألهم أو أودع إلى عدّة من الناس اللغةالعربيّة، وإلى عدّة اُخرى اللغة الفارسيّة، وهكذا في جميع اللغات.
ولكنّه لا يناسب غاية الوضع وغرضه الذي كان عبارة عن السهولة فيالتفهيم والتفهّم والسهولة في انتقال الأغراض والمقاصد، ومعلوم أنّ أصل تكثّراللّغات مبعّد عن هذا الغرض، ولا يخفى على أحد أولويّة وحدة اللغة واللّسانفي العالم، وأنّ تكثّر اللغات أوجب التعب والألم الشديد للمحقّقين والتلامذة.
وأمّا قوله تعالى: «وَ مِنْ ءَايَـتِهِى خَلْقُ السَّمَـوَ تِ وَ الاْءَرْضِ وَاخْتِلَـفُ
(صفحه104)
أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوَ نِكُمْ»(1) فلا يستفاد منه أنّ كلّ الآياتِ تكون نافعة للإنسان،بل رُبّ آيةٍ من آيات اللّه تكون ضرر على الإنسان، كالمعصية التي كانتحاكيّة عن إعطاء القدرة لنا وهي من آياته تعالى، فلاشكّ ولاريب في أنّمسألة تكثر اللغات مبعّدٌ عن غاية الوضع، فكيف ترتبط هذه باللّه تعالى شأنهوجلّ جلاله؟!
والحاصل: أنّ الواضع لا يكون سوى البشر، ولكنّه لا ينحصر بشخصواحد أو جماعة معيّنة، بل كلّ مستعمل من أهل تلك اللغة واضع تدريجاً، فإنّنرى بالوجدان أنّ المعاني الحادثة والمكتشفة التي يبتلى بها في ذلك العصر فيالتعبير عنها يكون الواضع فيها هو البشر، ومن الواضح أنّ الغرض منه ليسإلاّ أن يتفاهم بها وقت الحاجة، ومن الظاهر أنّ حجم الغرض الداعي إليهيختلف سعة وضيقاً بمرور الأيّام والعصور، ففي العصر الأوّل كانت الحاجة إلىوضع ألفاظ قليلة بإزاء معان كذلك؛ لقلّة الحوائج في ذلك العصر، ثمّ ازدادتالحوائج مرّة بعد مرّة وقرناً بعد قرن، بل وقتاً بعد وقتٍ.
وأمّا كيفيّة الوضع فقد تكون المعاني جزئيّة وقد تكون كلّيّة، وإن كانالمعنى جزئيّاً ـ كالأعلام الشخصيّة ـ فلا شكّ في أنّ الشخص إذا أراد أن يضعاسماً لولده ـ مثلاً ـ يتصوّر أوّلاً ذات ولده وثانياً لفظاً يناسبه، ثمّ يتعهّد في نفسهبأنّه متى قصد تفهيمه يخاطبه بذلك اللفظ. وأمّا إن كان المعنى كلّيّاً يستعمل بعدالتعهّد في فرد منه أوّلاً، وفي فرد آخر منه في استعمال آخر، وهكذا، فهذيكشف أنّ مثل لفظ «الماء» ـ مثلاً ـ وضع لجسم سيّال بارد بالطبع لا لفرد منأفراده، بل لمفهوم كلّي، فمسألة الوضع ومسألة تكثّر اللغات منوطةٌ بالبشر.
(صفحه 105)
في حقيقة الوضع
وفيه أقوال:في حقيقة الوضع
الأوّل: قال صاحب الكفاية قدسسره (1): «الوضع نحو اختصاص اللفظ بالمعنىوارتباط خاصّ بينهما ناشٍ من تخصيصه به تارة ومن كثرة استعماله فيهاُخرى، وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني كما لا يخفى».
أقول: جملة «بهذا المعنى» تكون بمنزلة التعليل؛ لعموميّة تعريف الوضع،ومراده أنّ ماهيّة الوضع منقسمة إلى قسمين: تعييني وتعيّني، والمقسم عبارةعن حقيقة وماهيّة الوضع، مع أنّه ليس في الوضع التعيّني واضع في البين، بلهو نتيجة قهريّة حاصلة من كثرة الاستعمال، فإذا كان الوضع التعيّني مثلالوضع التعييني مشتركاً في حقيقة الوضع فلابدّ له من تعريف يشملهما معاً،وهو التعريف الذي ذكره قدسسره .
ولكن يرد عليه إشكالان:
الأوّل: أنّ بهذا التعريف لا تعرف ماهيّة الوضع وحقيقته، بل هو إشارةإجماليّة ومعنى مبهم، كقولنا في تحديد الإنسان ـ مثلاً ـ : أنّه نحو موجود فيالخارج.
الثاني: أنّ الاختصاص والارتباط المذكور من قبيل معاني أسماء المصادر،فيعتبر كونه أمراً باقياً بين اللفظ والمعنى، ولا محالة يكون لتحقّق هذا الارتباطمنشأ وهو الوضع، فليس الارتباط عين الوضع، بل هو أمرٌ مترتّب علىالوضع ومتحصّلٌ بسببه.
وبعبارة اُخرى: المُعرَّف هو الوضع بمعنى المصدر وعمل الواضع، والمعرِّف
(صفحه106)
توصيفٌ للوضع بمعنى اسم المصدر، والنتيجة الحاصلة من عمل الواضع.
إن قلت: إنّه لو كانت ماهيّة الوضع بمعنى المصدر معرَّفاً فلا معنى لهذالتقسيم أصلاً وأبداً.
قلت: هذا التقسيم ظاهري، ومعلوم أنّ كلّ ظاهر مأخوذ به ما لم تكنقرينة على خلافه، ولنا قرينة على أنّ إطلاق كلمة الوضع على الوضع التعيّنيمجازٌ، وكثرة الاستعمال فيه يوجب صدق عنوان المعنى الحقيقي، ومن البديهيأنّ كلّ معنى حقيقي لايكون موضوعاً له، فلا تكون حقيقة الوضع في الوضعالتعيّني موجودة.
القول الثاني: نسب إلى بعض الأعاظم ـ على ما في كتاب المحاضرات(1) القول بأنّ حقيقة الوضع من الاُمور الواقعيّة، لا بمعنى أنّها من إحدىالمقولات؛ ضرورة وضوح عدم كونها من مقولة الجوهر؛ لانحصارها في خمسةأقسام: العقل والنفس والصورة والمادّة والجسم، وهي ليست من إحداها،وكذا عدم كونها من المقولات التسع العرضيّة أيضاً؛ لأنّها متقوّمة بالغير فيالخارج؛ لاستحالة تحقّقها في العين بدون موضوع توجد فيه، فإنّ وجودها فينفسها عين وجودها لغيرها، وهذا بخلاف حقيقة العُلقة الوضعيّة، فإنّها قائمةبطبيعي اللفظ والمعنى ومتقوّمة بهما، فلا يتوقّف ثبوتها وتحقّقها على وجودهمفي الخارج، وهذا واضحٌ.
ولذا يصحّ وضع اللفظ لمعنى معدوم، بل مستحيل، بل بمعنى أنّها عبارة عنملازمة خاصّة وربط مخصوص بين طبيعي اللفظ والمعنى الموضوع له، نظيرسائر الملازمات الثابتة في الواقع بين أمرين من الاُمور التكوينيّة، مثل: قولنا:
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 38 ـ 39.