(صفحه124)
ولكنّ التحقيق هو عدم إمكانه واستحالته، وهذا فيما لو كان آلة الملاحظة هوالفرد والخصوصيّة كعنوان زيد ـ مثلاً ـ واضحٌ؛ ضرورة أنّ الفرد والخصوصيّةمفهوماً يباين مفهوم العامّ والكلّي، ومعه لا يمكن جعله وجهاً وعنواناً له.
وأمّا لو كان آلة اللّحاظ هو الكلّي المقيّد ـ كالإنسان المتقيّد بالخصوصيّةالزيديّة ولو بنحو دخول التقيّد وخروج القيد ـ فكذلك أيضاً، فإنّه مع حفظجهة التقيّد بالخصوصيّة فيه يباين لا محالة مفهوماً الإنسان المطلق الجامع بينهذه الحصّة وغيرها، ومع إلغاء جهة التقيّد وتجريده عن الخصوصيّة ولحاظهبما أنّه قابل للانطباق عليه وعلى غيره يرجع إلى عموم الوضع والموضوع له.
ولكن نسب في الكفاية القول بوقوع هذا القسم إلى بعض الأعلام، والظاهرأنّه المرحوم الميرزا حبيب اللّه الرشتي قدسسره على ما في كتاب بدايع الأفكار(1)،ومحصّل كلامه في مقام الاستدلال: أنّ أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعالشيء، ونحن نرى خارجاً وقوع هذا القسم من الوضع بالبداهة، فإنّ المخترعإذا اخترع صنعة وأوجدها في الخارج، ثمّ في مقام التسمية ووضع اللفظ لها لميوضع اللفظ بإزاء هذا المخترع الجزئي الموجود في الخارج من حيث كونه ذلكالمعنى المركب، بل يوضع اللفظ بإزائه ومشابهه من حيث اشتمالهما على تلكالفائدة، وباعتبار المناط الموجود فيهما، فيكون المتصوّر معنى خاصّوالموضوع له كلّيّاً وعامّاً، وهكذا واضع لفظ الحيوان ـ مثلاً ـ رأى شبحاً منبعيد وتيقّن أنّه حسّاس ومتحرّك بالإرادة، فتصوّر ذلك الشبح الذي هو جزئيحقيقي ووضع اللفظ بإزاء معنى كلّي منطبق عليه وعلى غيره من الأفراد،فالمتصوّر جزئيّ والموضوع له كلّي.
(صفحه 125)
والحاصل: أنّ الوضع إذا تعلّق بالفرد باعتبار وجود صفة فيه يسري إلىكلّ ما تجد فيه تلك الصفة.
والجواب الذي أشار إليه في الكفاية وصرّح به الآخرون: أنّه ليس هنلحاظ واحد، بل الواضع ينتقل من تصوّر جزئي إلى تصوّر كلّي ويضع اللفظلمتصوّره الثاني، فيكون الوضع والموضوع له عامّاً، وهذا خارج عن محلّالكلام.
أقول: والحقّ في المسألة ما قال به المحقّق الرشتي قدسسره إذ الخاصّ يحكي عنالعامّ، والتغاير المفهومي لا يوجب عدم حكايته عنه، فإنّ الإنسان والحيوانالناطق أيضاً متغايران من حيث المفهوم، وحمل أحدهما على الآخر لا يكونحملاً أوّليّاً عند بعض، مع أنّه لم يقل أحدٌ بعدم حكايتهما عن الآخر؛ إذالوجدان حاكم بأنّ لازم تصوّر الإنسان المتقيّد بالخصوصيّة الزيديّة تصوّرالإنسان ابتداءً ولو بنحو دخول التقيّد، ولا يمكن لحاظ هذا العنوان بدونلحاظ الإنسان ابتداءً.
ولا يسمع كلام من يقول: بأنّا نتصوّر الرقبة المقيّدة بالإيمان بدون تصوّركلّي الرقبة؛ إذ التقيّد داخل في العنوان؛ لأنّا نقول: إنّ المرحلة الاُولى منمراحل تحقّق عنوان الأفراد عبارة عن وجود الماهيّة. والمرحلة الاُخرى تحقّقخصوصيّات فرديّة، ومعنى الفرديّة عبارة عن ماهيّة الإنسان المتخصّصةبخصوصيّات فرديّة، ولا يمكن ملاحظة الفرديّة بدون ملاحظة الماهيّة قبلها.ومن المعلوم أنّا لا نشكّ دخالة الإنسانيّة في تسمية المولود، ولذا لو سمّى الوالدولده باسم عليّ ـ مثلاً ـ لم يسأل ويقال له: لِمَ لا تسمّيه باسم تفّاح أو طيّارةـ مثلاً ـ فإنّه ينادي بأعلى صوت بأنّ هذا إنسان، وتسمية الإنسان بهذه
(صفحه126)
الأسماء غير معمول، بل غير معقول عند العقلاء، وهذا كاشف عن تصوّرالإنسانيّة عند تسمية المولود، فالخاصّ يكون حاكياً ومرآةً للعامّ، فيكون هذالقسم من الأقسام الأربعة بمكان من الإمكان، بخلاف عكسه كما مرّ آنفاً.
وقد عرفت أنّه لا كلام ولا إشكال في إمكان وقوع القسمين الأوّلين منالأقسام الأربعة، ولكن استشكل في القسم الأوّل منهما ـ أي الوضع العامّوالموضوع له العامّ ـ وهو أنّ الاُصوليّين يقولون بأنّه لابدّ للواضع في مقامالوضع من تصوّر اللفظ والمعنى، وأنّ الوضع بأيّ معنى كان لا يمكن بدونلحاظ اللفظ والمعنى؛ والفلاسفة يقولون بأنّ الماهيّة قد تتحقّق في الخارج وقدتتحقّق في الذهن، وأنّ وجودها الذهني عبارة عن إحضارها في وعاء الذهنوتصوّرها ذهناً. ولا يخفى أنّ الوجود ـ سواء كان في الخارج أو في الذهن ملازم ومساوق للتشخّص والجزئيّة.
وحاصل هذين القولين أنّه لا يمكن أن يكون المعنى الموضوع له عامّاً، فإنّهيصير في مقام التصوّر جزئيّاً.
وجوابه: عبارة عن أمرين:
الأوّل: أنّه سلّمنا أنّ المتصوّر يصير جزئيّاً بالتصوّر، ولكنّ اللفظ يوضعبإزاء المعنى العامّ الذي يجيء في الذهن، إلاّ أنّ القيد خارج ولا دخل له فيالموضوع له، فيكون المعنى الذي وضع اللفظ بإزائه عبارة عن ذات المتصوّروهو عامّ، كما أنّ الوضع أيضاً عامّ، ولا معنى له سوى تصوّر العامّ.
الثاني: أنّ التصوّر عبارة عن استخفاء صورة الشيء في الذهن، سواء كانالمتصوّر كلّيّاً أو جزئيّاً، ولكن كانت هذه الصورة مرآةً للمتصوّر وحاكية عنه،فيكون المتصوّر موجوداً بوجودين: أحدهما في الخارج، والآخر في الذهن،
(صفحه 127)
ويقال للصورة الذهنيّة: إنّها ملحوظة بالذات، وللموجود في الخارج: إنّهملحوظة بالعرض.
وهكذا في الكلّيّات، فإذا تصوّرنا كلّيّاً تجيء صورة منه في الذهن، فيكونالكلّي ملحوظاً بالعرض وهذه الصورة الذهنيّة ملحوظة بالذات، ولكنّالأحكام بتمامها تكون للملحوظة بالعرض، فإن قلت: زيدٌ موجود في الخارجـ مثلاً ـ وهو لا يكون سوى الملحوظ بالعرض.
وهكذا الحال في القضايا التي يكون محمولها كلمة «معدوم» أو «ممتنع»،مثلاً: تقول: «شريك الباري ممتنعٌ»، فهذه قضيّةٌ حمليّة، وهي تحتاج إلىالتصوّر، وتصوّر شريك الباري عبارة عن إيجاده في الذهن. ومعلوم أنّالملحوظ بالذات بعد إيجاده في الذهن لا يكون ممتنعاً، فيكشف أنّ المحمولفيها عبارة عن الملحوظ بالعرض الذي يحكي الذهن عنها، فيكون هو الممتنع.
وهكذا في القضايا التي تكون المحمول فيها هو المعدوم، وهكذا في بابالوضع؛ إذ الملحوظ بالذات وإن كان جزئيّاً بلحاظ وجوده في الذهن بعدالتصوّر، ولكنّه ليس بموضوع له، بل الموضوع له عبارة عن الملحوظ بالعرضوهو نفس المعنى وذات المتصوّر. فهذا الإشكال في غير محلّه.
تنبيهٌ:
ذكر المحقّق العراقي قدسسره (1) للقسم الأوّل من الأقسام الأربعة ـ أي الوضع العامّوالموضوع له العامّ ـ معنى آخر غير المعنى المشهور، وجعله المبنى لكثير منالمباحث الاُصوليّة، ولكن قبل بيان هذا المعنى ذكر توضيحاً للمعنى المشهور،وهو: أنّه يتصوّر على وجهين:
- (1) مقالات الاُصول 1: 72 ـ 75.
(صفحه128)
الأوّل: أنّ واضع طبيعي اللفظ لطبيعي المعنى يتصوّر ذات المعنى ونفسالماهيّة مجملاً عارية عن القيد والخصوصيّة حتّى عن التقيّد بالإطلاق، ويعبّرعنه «بلا بشرط المقسمي» يعني: ذات الماهيّة، ويوضع اللفظ بإزاء هذا المعنى.
الثاني: أن يتصوّر مع قيد وخصوصيّة وهي خصوصيّة الإطلاق والجريانفي الأفراد، وهذا قسم آخر من عموم الوضع والموضوع له، فيكون كلاهما منالقسم الأوّل من الأقسام الأربعة للوضع، والفرق بينهما واضحٌ، وتترتّب عليهمثمرات:
منها: ما في القضيّة الحمليّة مثل: «زيدٌ إنسانٌ»؛ إذ الملاك في الحمل هوالاتّحاد والهوهويّة في الوجود الخارجي، وحينئذٍ إن كان معنى الإنسان ههنمن قبيل الأوّل ـ أي نفس الماهيّة بلا قيد ـ فيكون بين «زيد» و«إنسان» اتّحادفي الخارج، وأمّا إن كان معنى الإنسان من قبيل الثاني ـ أي الإنسان الساريفي جميع الأفراد ـ فلا يكون بينهما اتّحاد وهوهويّة، فإنّ زيداً متحدٌ مع ماهيّةالإنسان لا مع الإنسان الجاري في جميع الأفراد، إلاّ أن نرتكب مجازاً بأننستعمل اللفظ الموضوع للكلّ ـ الإنسان المقيّد بالسريان ـ في الجزء، فلابدّ لنمن ارتكاب المجاز ههنا إن كانت القضيّة حمليّة.
ومنها: ما في تقييد المطلق، مثلاً: إذا قال المولى: «اعتق رقبّة» ثمّ قال فيضمن دليل آخر: «لا تعتق رقبة كافرة» فإن كان معنى الرقبة من قبيل الأوّلفلا يكون هذا التقييد مستلزماً للمجازية في المطلق؛ إذ الدال والمدلول متعدّدٌ،وأمّا إن كان من قبيل الثاني فيكون القيد في الدليل الثاني قرينة على أنّ المرادمن الرقبة في الدليل الأوّل هي الرقبة المؤمنة، ويستكشف منها مجازيّة هذالاستعمال، فيكون تقييد الإطلاق على الثاني مستلزماً للمجازيّة.