(صفحه 129)
ولكنّه قدسسره لم يقل بأحد هذين المعنيين، بل هو قائل بالمعنى الثالث ههنا.
وذكر(1) قبل بيان المعنى مقدّمة فلسفيّة، وهي: أنّ أعاظم الفلاسفة يعتقدونبأصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة، ويقولون في توضيح اعتباريّة الماهيّةوانتزاعيّتها: إنّ الوجود أصيل في جميع مراتب وجوديّته، وأمّا العناوينالحاكية عنها فلا واقعيّة لها، فإنّ عنوان الجسميّة الحاكية عن المرحلة الأدنىللوجود ـ أي مرحلة الشاغل للحيّز ـ عنوان اعتباريّة وانتزاعيّة لا واقعيّة لهفي قبال واقعيّة وجود الحيّز، وهكذا عنوان النامي وعنوان الحيوان والإنسان،الحاكي كلّ منها عن مرحلة من المراحل الوجوديّة التي تقوى المرتبة العاليّةمنها من سافلتها، فإنّ مرحلة الناطقيّة أقوى من مرحلة الحسّاسيّة والتحرّكبالإرادة، وهي أقوى من مرحلة النمو، وهذه العناوين اعتباريّة وانتزاعيّةوحاكية عن المراحل الوجوديّة، ولا دخل لها في الواقعيّة الوجوديّة.
وإذا كان الأمر كذلك فالارتباط الموجود بين هذه المرتبة القويّة وأفرادهكيف يتصوّر؟ أي الجهة المشتركة التي بها تمتاز أفراد كلّ نوع من أفراد النوعالآخر، ولا يمكن القول باشتراكها في ماهيّة الإنسان ـ مثلاً ـ إذ الماهيّة انتزاعيّةواعتباريّة، والأصيل هو الوجود المساوق واللازم للتشخّص والجزئيّة.
وأيضاً لا يمكن القول بما قال به الرجل الهمداني من كون نسبة الكلّي إلىأفراده نسبة الأب إلى أبنائه، أي يتغاير الكلّي مع أفراده من حيث الوجود. بللابدّ من القول: بأنّ كلّ واحد من أفراد الطبيعة أبُ وابنُ، مثلاً: «زيدٌ» حصّةمن الإنسان و«بكرٌ» حصّة اُخرى منه، هذه جهة الاُبوّة، والخصوصيّاتالفرديّة منهما تكون جهة البنوّة، فـ «زيد» مركّب من حصّة من الإنسان
- (1) مقالات الاُصول 1: 74.
(صفحه130)
وخصوصيّاته الفرديّة، و«بكرٌ» مركّب من حصّة اُخرى منه وخصوصيّاتهالفرديّة.
والحاصل: أنّ الإنسان وضع للوجود السعي المنطبق على كلّ الحصص،ولا تقل: فكيف لاحظ الواضع في مقام الوضع هذه الحصص المتعدّدة؟ فإنّنقول: يكفي في مقام الوضع التصوّر الإجمالي، كما يكفي في القضيّة الحقيقيّةتصوّر موضوعها إجمالاً؛ إذ الموضوع فيها عبارة عن الأفراد المحقّقة الوجودوالمقدّرة الوجود، فهذا معنى الوضع العامّ والموضوع له العامّ.
ولا يخفى ما في كلامه قدسسره : أوّلاً: أنّ كلامه في نسبة الكلّي إلى أفراده مخالفللواقع، ولما قال به المنطيقيّون، حيث يرون أنّ كلّي الطبيعي يوجد بوجودفرده، فإذا تحقّق فرد من أفراده في الخارج فهو تمام الطبيعي لا حصّة منه، فلوتحقّق ـ مثلاً ـ «زيدٌ» في الخارج يتحقّق الإنسان بتمامه وكماله، لا حصّة منحصصه، مع أنّ لازم مقالته تحقّق الإنسان بكماله بتحقّق مجموع الحصصوالأفراد فقط.
هذا، مع أنّ قضيّة «زيدٌ إنسانٌ» قضيّة حمليّة صحيحة بلا شكّ، وحملها حملشائع، وملاك الحمل ـ أي الاتّحاد في الوجود الخارجي ـ موجود فيها بلا تجوّزواستعارة، وهو متّفق عليه، ولكن لازم القول بالحصّة ارتكاب المجاز في هذهالقضيّة أيضاً ـ أي «زيدٌ» حصّة من الإنسان ـ وإلاّ لم يكن بينهما ارتباط أصلاً،فهذا القول خلاف الواقع والمنطق، مع أنّه لا مأوى للمفهوم الكلّي سوى الذهنوالعقل.
وثانياً: أنّه ما معنى قولك: إنّ الإنسان عنوان حاك عن الواقعيّة الوجوديّةـ أي الوجود السعي ـ منتشر في الأفراد؟ إن فرضنا كلّيّاً كان له مائة فرد، هل
(صفحه 131)
الواقعيّة الخارجيّة أيضاً تكون مائة أم تكون مائة وواحدة؟ إن قلت بالأوّلفأين ما وضع له الإنسان والواقعيّة التي كانت جامعة لهذه الأفراد؟ وإن قلتبالثاني ـ كما هو الظاهر من كلامك ـ فهذا ما قال به الرجل الهمداني، وهومردُودٌ عندك أيضاً، فهذا المعنى الذي ذكره المحقّق العراقي قدسسره غير تام.
ولا يخفى أنّه لا واقعيّة لكلّي الطبيعي في قبال واقعيّة أفراده، بل كلّ فرد منالأفراد له واقعيّة إنسانيّة وخصوصيّات فرديّة يشترك في الأوّل مع سائرالأفراد، وفي الثاني يتغاير معها، وهذا المعنى لا ينافي أصالة الوجود واعتباريّةالماهيّة.
وأمّا الكلام في الجهة الثالثة: وهي مرحلة الإثبات والوقوع خارجومصداقاً، وأنّ الأقسام الممكنة المذكورة هل يكون لها مصداق في الخارج أملا؟ فنقول: لا إشكال في وقوع الوضع العامّ والموضوع له العامّ كوضع أسماءالأجناس، ومثّلوا للوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ بالأعلام الشخصيّة.ولكن يرد عليه إشكال غير قابل للذبّ، وهو مبتنى على مقدّمتين:
إحداهما: أنّ الموجود في الذهن مع وصف كونه في الذهن مباين للموجودالخارجي مع كونه في الخارج، ولا يمكن الجمع بينهما.
وثانيتهما: أنّ الوجود الذهني عبارة عن تصوّر الشيء والتفات النفس إليه،فيكون لنا عند تصوّر الشيء ملحوظان: أحدهما: ملحوظ بالذات، وهيالصورة الذهنيّة الحاصلة من تصوّر الشيء. والآخر: ملحوظ بالعرض، وهوالشيء المتصوّر.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّ ما وضع له لفظ «زيد» ـ مثلاً ـ هو الملحوظبالعرض أم الملحوظ بالذات؟ وعلى أيّ حال لا يخلو من إشكال، فإن كان
(صفحه132)
الموضوع له هو الملحوظ بالذات فلا يمكن إطلاق لفظ «زيد» على الموجودالخارجي؛ إذ الذهن والخارج متباينان، مع أنّ إطلاقه عليه مجازاً غير معقول.
وإن كان الموضوع له هو المحلوظ بالعرض يلزم أن يكون قولنا: «زيدٌموجود في الخارج» قضيّة ضروريّة، فإنّه من قبيل الضروريّة بشرط المحمول،ومعناه: أنّ هذا الشيء الموجود في الخارج موجود فيه، ومن البديهي أنّ كلّقضيّة حمليّة ممكنة إن اُخذ تقيّدها بالمحمول في الموضوع تنقلب إلى الضروريّة،مثل: «زيد القائم قائمٌ»، مع أنّه من المسلّم أنّ «زيد موجودُ» كـ «الإنسانموجود» قضيّة ممكنة، فأين الجزئيّة التي ادّعيت في موضوع له الأعلامالشخصيّة؟! فلابدّ من القول بكونها موضوعة للماهيّة الكلّيّة، ولكن مصداقهمنحصر بفرد واحد، ولا دخل للوجود فيه لا خارجاً ولا ذهناً، نظير مفهومواجب الوجود الكلّي الذي لا ينطبق إلاّ على فرد واحد، والمفهوم الكلّي فيالأعلام الشخصيّة عبارة عن العناوين الكلّيّة.
مثلاً: المولود المذكّر الذي ولد في زمان كذا ومكان كذا في طائفة كذا ولأبواُمّ كذا نسمّيه بـ «زيد»، ولكنّ هذه العناوين الكلّيّة لا تنطبق خارجاً إلاّ علىفرد واحد، ولذا جرت سيرة الناس في الإخبار عن معدوميّة المسمّيات فيزمان وموجوديّتها في زمان آخر، ويقال: لم يكن «زيدٌ» في ذلك الزمان بلوجد بعده، فيستكشف أنّ الموضوع له فيها هو العناوين الكلّيّة، فيدخل تحتعنوان «الوضع العامّ والموضوع له العامّ».
على أنّه لو كان الموجود الخارجي موضوع له للفظ «زيد» يرد عليهإشكال آخر، وهو أنّهم قالوا: بأنّ قضيّة «الإنسان معدومٌ» وقضيّة «زيدٌمعدومٌ» يكون كلاهما من القضايا الصادقة بلا فرق بينهما. أمّا القضيّة الاُولى
(صفحه 133)
فإنّ ماهيّة الإنسان نسبتها مساوية إلى الوجود والعدم، ولكن للاُصوليّين بحثفي زمان معدوميّة ماهيّة الإنسان ويقولون: بأنّ الوجود الطبيعي يكونبوجود فرد من أفراده، وعدمه يكون بعدم جميع أفراده.
ولا يخفى أنّ لنا ههنا كلاماً بأنّ الطبيعي موجود ومعدوم في آنٍ واحد، وأنّهمعروض للوجود والعدم في زمان واحد، والمحال أن يكون فرد منه معروضلكليهما في آنٍ واحد. وسيأتي إن شاء اللّه في مباحث النواهي بتمامه.
وعلى هذا المبنى فكما أنّ ماهيّة الإنسان تكون موجودة فعلاً بلحاظأفراده الموجودة، كذلك تكون فعلاً معدومة بلحاظ الأفراد التي توجد بعدذلك، ويجوز أيضاً فرض أنّ ماهيّة الإنسان كانت معدومة قبل الخلقة ثمّصارت موجودة، مع أنّه لا نشكّ في بطلان هذا التعبير في الأعلام الشخصيّةإذا كان الموضوع له فيها وجوداً خارجيّاً وملحوظاً بالعرض، فإنّ للوجودالخارجي دخلٌ في معنى «زيد» ومقيّدٌ به ولا يتصوّر المعدوميّة للهيكل المقيّدبالوجود الخارجي، ولذا لا يصحّ القول بأنّ «زيداً» كان معدوماً ثمّ صارموجوداً، وهذا دليل على أنّ الموضوع له فيها لا يكون الموجود الخارجي.
ويمكن أن يقال للتخلّص عن الإشكالات بأنّ الأعلام الشخصيّة داخلةتحت عنوان الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، ولكنّ المعنى الخاصّلايكون مقيّداً بالوجود الخارجي والذهني، بل يكون له معنى ثالث، وهو كونالموضوع له معنىً كلّيّاً ذا فرد واحد، وهذا أيضاً يقال له: الخاصّ.
وأمّا الكلام في المقام الثاني ـ أي تصوّر اللّفظ ـ فلا يخفى أنّ ههنا تقسيمٌآخر بلحاظ كيفيّة تصوّر اللّفظ حين الوضع؛ إذ الواضع إمّا يلاحظ اللفظبمادّته وهيئته، كما في أسماء الأجناس وأعلام الأشخاص، وإمّا لا يلاحظ المادّة