(صفحه14)
الأمر الأوّل
موضوع العلم ومسائله
ثمّ إنّ المتداول بين العلماء في بحوثهم أنّهم يذكرون قبل الورود في المقاصدمطالب ونكات بعنوان المقدّمة، ونحن بعون اللّه تعالى نتأسّى بهم، ونقول: منالمقدّمات التي أشار إليها المحقّق الخراساني في الكفاية في ضمن المقدّمة الاُولىهي بيان موضوع العلوم.
قال المحقّق الخراساني قدسسره (1): «إنّ موضوع كلّ علم وهو الذي يبحث فيه عنعوارضه الذاتيّة...» إلخ.
ومراده من بيان هذا المطلب هنا تفسيره الخاصّ للعرض الذاتي.
وأمّا المهمّ في المقدّمة الاُولى فهو البحث عن النسبة بين موضوع العلم وبينموضوعات مسائله، ولذا قال صاحب الكفاية قدسسره (2): «موضوع كلّ علم هونفس موضوعات مسائله عيناً وما يتّحد معها خارجاً، وإن كان يغايرهمفهوماً تغاير الكلّي ومصاديقه والطبيعي وأفراده».
ولكنّنا قبل الورود في هذا البحث نذكر مطالب حول موضوع العلم،
(صفحه 15)
فنقول:
أوّلاً: هل أنّ كلّ علم يحتاج إلى الموضوع أم لا؟
وثانياً: على فرض الاحتياج هل اللاّزم وحدة الموضوع في كلّ علم أم لا؟
وثالثاً: أنّ تعريف صاحب الكفاية للموضوع صحيح أم لا؟
ورابعاً: ما هو المقصود من العرض الذّاتي؟
وممّا يستفاد من تعريف المحقّق الخراساني قدسسره للموضوع ضمناً أنّ هذا المعنىعند العلماء أمرٌ مفروغ عنه، والمناطقة أيضاً عرّفوه كذلك. وهذا المعنى يدلُّعلى مطالب:
(صفحه16)
احتياج العلم إلى الموضوع
الأوّل والثاني
احتياج العلم إلى الموضوع وأنّ الموضوع في كلّ علم يكون واحداً
فقد أنكر اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ(1) الأوّل، وبيان ذلك ـ حسبتقرير مقرّره ـ : أنّه لم يكن لمدوّن العلم في بادئ الأمر موضوع مشخّص معلومحتّى يبحث حوله، بل العلوم كانت في بادئ الأمر عدّة مسائل متشتّةومباحث مهملة ناقصة، وأضافوا إليها في طول الزمان مسائل متجدّدة حتّىبلغ ما بلغ، بحيث تعدُّ بالآلاف من المباحث والمسائل، بعدما كانت أوّلنشوءها تبلغ عدد الأصابع.
ويشهد لذلك ما نقله الشيخ الرئيس في تدوين المنطق عن المعلّم الأوّل: منأنّنا ما ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلاّ ضوابط غير مفصّلة، وأمّا تفصيلهوإفراد كلُّ قياس بشروطه فهو أمر قد كدّرنا فيه أنفسنا(2).
وعلى هذا لم يكن في بادئ الأمر موضوع معيّن للعلوم، وهذا الاستدلالمنوط بدعوى الاُستاذ.
وأمّا ما قرّره المقرّر ـ من أنّه لا يصحّ أنّ تكون نسبة موضوع العلم
- (2) ذكره الامام قدسسره في هذا البحث.
(صفحه 17)
وموضوعات المسائل نسبة الكلّي ومصاديقه والطبيعي وأفراده؛ إذ يمكن أنتكون نسبة موضوع العلم وموضوعات المسائل نسبة الكلّ والجزء، مثل:علم الجغرافيا، أو تكون نسبة الموضوع وموضوعات المسائل نسبة التساوي،مثل: علم العرفان ـ فهو منوط بالمرحلة الرابعة من بحثنا وسوف يأتيإن شاء اللّه.
كما أنّ قوله بأنّ العلم لايحتاج إلى موضوع مشخّص معلوم غير تامّ، فإنّعلم الفقه موضوعه فعل المكلّف، ولكنّ أكثر مسائله التي تبحث فيه لا ربطلها بفعل المكلّف، مثل مسائل الإرث والنجاسات وأمثالها، بل هي مربوطةبالمرحلة الثالثة من بحثنا، وسيأتي إن شاء اللّه تعالى.
وأمّا إن قام الدليل على احتياج العلوم إلى الموضوع فلا منافاة بين ما تقدّموما ذكره الاُستاذ؛ إذ العلوم وإن كانت في بادئ الأمر مهملة وناقصة ولكننعلم بالبداهة أنّ المناطقة لم يبحثوا في ضمن مباحث المنطق عن مباحث علوماُخرى كالنحو والفقه ـ مثلاً ـ وأنّ النقص والكمال لا ينفي احتياج العلم إلىالموضوع.
والمشهور من العلماء أقام دليلاً على وحدة الموضوع، فإن تمّ هذا الدليلفيثبت به أصل الاحتياج أيضاً، ولهذا الدليل مقدّمتان:
الاُولى: أنّ كلّ علم يترتّب عليه غرض واحد وفائدة واحدة، أي علىأساس الغرض الواحد يدوّن علم واحد، فمثلاً: دوّن علم النحو لصيانةالإنسان عن الخطأ في المقال، ودوّن المنطق لصيانة الإنسان عن الخطأ فيالفكر، وهكذا.
الثانية: أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد، يعني لا تؤثّر أشياء متباينة على
(صفحه18)
شيء واحد، إلاّ أن تكون بينها جهة مشتركة كالنار والشمس في الحرارة، فإنكان المعلول متّصفاً بالوحدة كانت العلّة أيضاً كذلك.
وهاتان المقدّمتان بضميمة أنّ كلّ علم عبارة عن مجموعة مسائله، تنتجان:أنّ المؤثّر في الغرض الواحد هو المسائل، ويترتّب غرض علم النحو ـ مثلاً على مسائل شتّى مثل: الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمضاف إليهمجرور، وأمثال ذلك.
ثمّ إنّه لا يخفى أنّ لكلّ مسألة من مسائل العلم ثلاثة عناوين: وهي:الموضوع، والمحمول، والنسبة بينهما.
وإذا لاحظنا مسائل علم النحو ـ مثلاً ـ قد يكون المحمول فيها واحداً معوحدة الموضوع كالمرفوعات، فإنّ الخبر في كلّ مسألة منها يكون مرفوعاً،وقد يكون الموضوع فيها واحداً والمحمول متعدّداً، مثل: الأحكام الثابتةللفاعل نحو الفاعل مقدّم على المفعول، والفاعل مرفوع، ونحو ذلك، وقد يكونالموضوع والمحمول في المسائل متباينين، مثل: الفاعل مرفوع والمفعولمنصوب، والمضاف إليه مجرورٌ، وأمثال ذلك، فلابدّ من فرض جامع واحدمؤثّر في الغرض والمعلول الواحد.
ويحتمل في بادئالأمر أنّ الجامع المؤثّر هو الجامع بين الموضوعات، أوالجامع بين المحمولات، أو الجامع بين النِسب، ولكنّ المفروض في القضايا أنّعنوان المحمول عنوان عرضيٌ يعرض على الموضوع، ففي مثل «زيدٌ قائمٌ»الموضوع متّصف بوصف القيام، فالمحمول عرض والموضوع معروض، ومعلومأنّ المعروض مقدّم من حيث الرتبة؛ لأنّه يكون جامعاً.
ومن هنا يعلم أنّ الموضوع مقدّم على النسب أيضاً في جعله جامعاً.