(صفحه156)
باب الوضع من أنّ حقيقة الوضع: هي التعهّد والتباني، ينتج الالتزام بذلكالقول لا محالة، السبب الرابع: موافقة ذلك للوجدان ومطابقته لما ارتكز فيالأذهان. هذا ملخص كلامه قدسسره .
ولكنّ التحقيق: أنّ هذا القول لا يمكن المساعدة عليه كما عرفت من كلماتنإجمالاً، وأمّا الأسباب الأربعة المذكورة فلا توجب التمسّك بهذا القول، فإنّكعرفت الجواب عن ثلاثة منها ولا نطيل الكلام ههنا.
وأمّا السبب الرابع فلابدّ من الجواب عنه، وهو: أنّه لا معنى لتضييق المعانيالاسميّة بالحروف في الجملات الخبريّة؛ إذ المتكلّم فيها يحكي عن الواقع كما هوبلا نقصٍ وزيادة، مثل جملة: «زيدٌ في المدرسة»، فهي تحكي عن الواقعةالمتحقّقة في الخارج بدون إضافة المتكلّم تضييقاً لها.
نعم، سلّمناه في الجملات الإنشائيّة، وأنّ المولى يرى حصّة خاصّة منالصلاة معراج المؤمن ـ مثلاً ـ فلذا يقول: «صلّ في المسجد»، ولا شكّ في أنّللحصّة الخاصّة واقعيّة وحقيقة توجب انطباق الماهيّة المطلقة للصلاة عليها،وكما أنّ الصلاة لا تتحقّق إلاّ بإيجادها خارجاً كذلك الصلاة في المسجد لتتحقّق إلاّ بإيجادها في المسجد، واعلم أنّ الحروف مبيّنة ومشخّصة لهذهالخصوصيّة الواقعيّة، ولا ربط للتقيّد بعالم المفهوم ومقام الدلالة والإثبات، مثلأن يقول المولى: «الصلاة في المسجد تكون مطلوبة لي» بصورة الجملة الخبريّة،وكذا الحروف في الجملات الإنشائيّة حاكية عن حصّة خاصّة، هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّه ليس للتضييق معنى واحد، بل هو على أنواع مختلفة؛ إذ التضييقالابتدائي غير التضييق الانتهائي، وهكذا، ولا نعلم أنّ مراده أيّ نوع منها.
وثالثاً: أنّ التضييق فعل المتكلّم، ومعنى وضع الحروف له وضعها لعمل
(صفحه 157)
المتكلّم، ويرجع هذا إلى ما قال به المحقّق النائيني قدسسره من أنّ معاني الحروفمعان إيجاديّة، وهو كما ترى.
أقول: إنّه لابدّ لنا بعد ملاحظة الأقوال في المسألة من لحاظ أنّ الوضع فيباب الحروف واحد أم لا؟ وأنّ مفاد حرف واحد منها في الجملة الخبريّةمغاير لمفاده في الجملة الإنشائيّة أم لا؟ وقبل الخوض في البحث نلاحظالجملة المعروفة في الألسنة لحاظاً دقّيّاً، وهي عبارة عن جملة: «سرت منالبصرة إلى الكوفة» ونبحث فيها في مراحل:
الاُولى: في بيان الواقعيّة التي تحكي هذه الجملة الخبريّة عنها، فلا يخفى أنّالذاهب إذا ذهب من «البصرة» وبلغ «الكوفة» كانت أربعة واقعيّات محقّقة بلإشكال، وهي واقعيّة السائر، والسير، والبصرة، والكوفة، ولكن مع هذا ليشكّ الوجدان السليم في تحقّق الواقعيّتين الاُخريين باسم الابتدائيّةوالانتهائيّة، بحيث إن انعكس السير تغيّرت الواقعيّتان وإن لم تتغيّر الواقعيّاتالأربعة المذكورة. هذا ممّا لا شبهة فيه.
إن قلت: إنّ الممكن في الخارج إمّا جوهرٌ وإمّا عرضٌ، وكلّ منهما زوجتركيبيٌّ، يعني مركّبٌ من ماهيّة ووجود، ولا ثالث لهما.
قلنا: لا دليل على الانحصار فيهما؛ ضرورة أنّا نرى بالوجدان الواقعيّتينالمذكورتين وراء الواقعيّات الأربعة الموجودة، ولكنّهما واقعيّتان ضعيفتان حتّىمن وجود العرض، فإنّه يحتاج في وجوده الخارجي إلى الموضوع، ولكنّهماحتياج صرف فانيتان في البصرة والكوفة والسير، ولا تحقّق لهما بدونهما،وهما مندكّان فيها، بداهة أنّ عنوان الابتدائيّة والانتهائيّة لا يكون قابلللرؤية، مع أنّ لهما واقعيّة حقيقيّة.
(صفحه158)
ويستفاد نظير هذا المعنى من كلام صاحب الأسفار قدسسره (1) في باب الممكناتوهو أنّ: وجودها عين الربط، لا أنّها وجودات لها الربط في قبال وجودالواجب، مع أنّ واقعيّة الممكنات ليست قابلة للإنكار، فلا منافاة بين واقعيّةالشيء وعينيّته للربط، ولذا عبّر المحقّق الأصفهاني قدسسره عنه بالوجود الرابط فيقبال الوجود الرابطي.
المرحلة الثانية: في الصورة المرتسمة عن الجملة المذكورة في ذهن السامعوالمخاطب، ولا نشكّ في إدراك الواقعيّات الستّة المذكورة إن لاحظ ونظر إلىسير السائر من البصرة إلى الكوفة، وأمّا في صورة عدم نظارته إليه فيقولالمتكلّم له: «سرت من البصرة إلى الكوفة» ومعنى الجملة الخبريّة الصادقة ليكون إلاّ إلقاء الواقعيّة كما هي للمستمع، فلا شكّ في أنّ المخاطب كما ينتقلذهنه من هذه الجملة إلى واقعيّة السير والسائر، والبصرة، والكوفة، كذلكينتقل ذهنه من كلمتي «من» و«إلى» إلى الواقعيّة الابتدائيّة والانتهائيّة، ولكنّهبالصورة الاندكاكيّة والارتباطيّة، يعني كما هي.
المرحلة الثالثة: في الألفاظ المستعملة في هذه الجملة الخبريّة، فلا يخفى أنّأهل الأدب والنحويّين يقولون في مقام تركيب هذه الجملة: إنّ كلمة «من»جار، وكلمة «البصرة» مجرورٌ، وكلاهما متعلّق بكلمة «سرتُ»، مع أنّهم ليقولون بهذا المعنى في مقام تركيب الفاعل والمفعول، وهذا شاهدٌ على التفاتهمإلى أنّ المعنى الذي كانت حقيقته صرف الربط لابدّ في مقام اللفظ أيضاً منالمتعلّق له، بخلاف المعاني المستقلّة كالفاعل والمفعول. فالوجدان حاكم بوجودهذه الواقعيّة في المراحل الثلاثة، كما هي واضحة، وليست قابلة للإنكار،
- (1) الحكمة المتعالية 1: 329 ـ 330.
(صفحه 159)
والحروف حاكية عنها، ولكن لها خصوصيّة إن استعملت الحروف وحدها لتحكي عنها، بل لا معنى لكلمة «من» وحدها، وليس لازم ذلك عدم الواقعيّةأصلاً، كما قال به المحقّق النائيني قدسسره ، وهذا قسمٌ من الحروف التي سمّيتبالحروف الحاكية، وأكثر الحروف من هذا القبيل.
وقسمٌ آخر منها لا يحكي عن واقعيّة، بل توجد بها معان اُخر كالعقودوالإيقاعات، وهو عبارة عن حروف التأكيد، مثل: كلمة «أنّ» و«اللام» الذيهو سبب لتحقّق التأكيد وإيجاده، لا أنّه حاك عنه، وحروف القسم مثل: حرف«ب» و«ت» و«و» التي توجد القسم بلحاظ وضع الواضع له، وحروف النداءمثل: حرف «أي» و«يا» الذي وضع لتحقّق النداء وإيجاده، وسمّيت بالحروفالإيجاديّة.
وأمّا كيفيّة الوضع في باب الحروف الحاكية فاعلم أنّ الوجودات الواقعيّةفي المعاني الحرفيّة ليست لها الماهيّة التي تتحقّق في الخارج، وقد تتحقّق فيالذهن، بل الواضع حين وضع كلمة «من» للواقعيّة الابتدائيّة يلاحظ مفهومالابتداء النسبي الذي لا يكون للحمل الشائع نسبة، فإنّه ليست بنسبة واقعيّة،ويشهد له أنّ النسبة الخارجيّة تحتاج إلى الطرفين، بخلاف مفهوم النسبة كمهو واضح، بل هو عنوان يلاحظه الواضع ثمّ يضع اللفظ للمعنونات الخاصّة،أي واقعيّات الابتداء الخارجي.
ولكن أشكل على هذا المعنى صاحب الكفاية قدسسره كما أشرنا إليه سابقاً بأنّالموضوع له والمستعمل فيه لكلمة «من» في جملة: «سر من البصرة إلىالكوفة» والخصوصيّة المحكيّة فيها غير معلومة، وعليك بيانها.
وإن شئت قلت: إذا كانت الحروف على قسمين: إمّا إيجاديّة وإمّا حكائيّة،
(صفحه160)
فكلمة «من» في جملة: «سر من البصرة إلى الكوفة» من أيّهما؟ لاشكّ في أنّإيجاديّته مخالف للوجدان، ولا معنى لحكائيّته بعدُ. هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ السير في هذه الجملة يكون مأموراً به، ولابدّ في المأمور به منكونه أمراً كلّيّاً، ولا يمكن أن يكون جزئيّاً خارجيّاً؛ إذ السير قبل تحقّقه ليسبجزئي خارجي، وبعد تحقّقه في الخارج يكون الأمر به لغواً، فكيف يكونالموضوع له واقعيّة خارجيّة وخصوصيّة خاصّة بعد القطع بأنّ استعمال كلمة«من» في هذه الجملة لا يكون مجازاً؟!
وأجابوا عنه بوجوه:
الأوّل: أنّ المعاني الحرفيّة واقعيّات اندكاكيّة في أطرافها ومتعلّقاتها ولاستقلال لها، فتكون الحروف من حيث الكلّيّة والجزئيّة تابعة لمتعلّقاتها،فيكون معنى «من» في جملة: «سر من البصرة إلى الكوفة» كلّيّاً تبعاً للسير.
الثاني: ما يستفاد من كلام اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ(1) وهو: أنّ منحن فيه يكون من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ولازم ذلك تعدّدالمعاني والموضوع له واستقلال كلّ منهما، والفرق بينهما من جهتين، وهما أنّالوضع في المشترك اللفظي متعدّد بخلاف ما نحن فيه، وأنّ المعاني فيه محدودةبخلاف ما نحن فيه؛ إذ المعاني ههنا متعدّدة بتعدّد أفراد العامّ، فلا مانع منالقول: بأنّ كلمة «من» في هذه الجملة استعملت في معان متعدّدة.
إن قلت: إنّ استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد محالٌ.
قلنا: أوّلاً: لا نُسلّم استحالته كما سيأتي مفصّلاً، وثانياً: لو سلّمنا الاستحالةفهي في موارد كانت للّفظ معان مستقلّة، مثل: كلمة «عين» لا في موارد كانت
- (1) تهذيب الاُصول 1: 31 ـ 32.