(صفحه 151)
والتمثيل المذكور في كلامه أيضاً غير صحيح، فإنّ وجود «زيد» في المدرسةأو في الدار ـ مثلاً ـ وإن كانت في الابتداء قضيّة واحدة، ولكنّها تنحلّ إلىقضايا متعدّدة، فإنّ معنى وجود «زيد» في الدار أنّه الجسم في الدار، والجسمالنامي في الدار، والحيوان في الدار، والإنسان في الدار، والإنسان المتخصّصبخصوصيّات زيديّة في الدار، ولا شكّ في أنّه لكلّ مرحلة منها واقعيّة وحقيقة.ويمكن أن تقع كلّ مرحلة منها مورداً للعلم والجهل أو اليقين والشكّ، وإنكانت جميعها متّحدة من حيث الوجود خارجاً، إذ ليس البحث هنا في تعدّدالوجود أو تغايره، بل البحث في تعدّد الواقعيّة، وهو موجود بلا ريب، فيمكنأن يكون وجود الإنسان في الدار واقعيّة متيقّنة، ووجود «زيد» في الدارواقعيّة مشكوكة، فهذا الإشكال مردود.
والإشكال الثاني: أنّه على تقدير تسليم أنّ للنسبة والروابط وجوداً فيالخارج في مقابل الجوهر والعرض ولكن لا نسلّم وضع الحروف والأدواتلها؛ لما بيّناه سابقاً من أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المفاهيم والماهيّات، لللموجودات الخارجيّة ولا الذهنيّة؛ إذ الاُولى غير قابلة للإحضار في الذهنوإلاّ لم تكن بخارجيّة، والثانية غير قابلة للإحضار ثانياً، فإنّ الموجود الذهنيلا يقبل وجوداً ذهنيّاً آخر، فلابدّ من أن يكون الوضع لذات المعنى القابلللنحوين من الوجود: الذهني والخارجي.
وبناءً على ذلك لا يمكن أن تكون الحروف موضوعة لأنحاء النسبوالروابط؛ لأنّها ـ كما عرفت ـ سنخ وجود لا ماهيّة لها، فلا تكون قابلةللإحضار في الذهن.
ولكنّ هذا الإشكال: أوّلاً: أنّه منقوض بالوضع الخاصّ والموضوع له
(صفحه152)
الخاصّ من الأقسام الأربعة المذكورة في الوضع؛ إذ لا معنى له إلاّ أن يلاحظالواضع ـ كالأب ـ معنى جزئيّاً خارجيّاً، فيضع اللفظ له ويقول: جعلت اسمهذا المولود «حُسيناً»، فكيف يكون الموجود الخارجي قابلاً للإحضار فيالذهن في هذا المقام مع أنّ هذا المعنى مسلمٌ عنده؟!
نعم، تقدّمت المناقشة في مصداقيّة الأعلام الشخصيّة لهذا القسم من أقسامالوضع، ولكنّها لا توجب إنكار أصل هذا القسم حتّى في مقام الثبوت.
وثانياً: أنّ معنى الموضوع له ليس مفهوماً كلّيّاً، فقد يوجد في الذهن وقديوجد في الخارج، ولا أنّ الموجود الخارجي حين اللحاظ يحضر في الذهنبوصف خارجي، بل المعنى أنّ لنا حين اللحاظ ملحوظاً بالذات وهو صورةمرتسمة في الذهن من الموجود الخارجي، وملحوظاً بالعرض وهو الموجودفي الخارج، وأنّ الواضع في مقام الوضع بعد اللحاظ يضع اللّفظ للملحوظبالعرض كما مرّ تفصيله فراجع، وليس هذا الوضع من دون تصوّر.
وكذلك في ما نحن فيه فإنّ واقع النسبة والربط يكون الموضوع لهللحروف، ومفهومها ليست واقعيّة على حدة حتّى تكون نسبته إلى النسبالخارجيّة نسبة الطبيعي وأفراده، بل تكون نسبته إليها نسبة العنوان والمعنون،مثل: العنوان المجتمع في المجلس.
والحاصل: أنّه ليس في ما نحن فيه خصوصيّة زائدة على الوضع الخاصّوالموضوع له الخاصّ والوضع العامّ والموضوع له العامّ حتّى يوجب استحالةالوضع فيه، فتدبّر.
والإشكال الثالث: أنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط؛ لصحّةاستعمالها بلا عناية في موارد يستحيل فيها تحقّق نسبة مّا، فلا فرق بين قولنا:
(صفحه 153)
الوجود للإنسان ممكنٌ، وللّه تعالى ضروريٌ ولشريك الباري مستحيلٌ؛ لأنّحرف اللام في جميع ذلك يستعمل في معنى واحد، وهو تخصيص مدخولهبخصوصيّة مّا في عالم المعنى على نسق واحد بلا عناية في شيء منها، مع أنّه فيالأوّل يوجب الارتباط؛ إذ الإنسان عارض الوجود ومغاير له، وأمّا في الثانيوالثالث فلا معنى له بعد عينيّة الوجود مع اللّه تعالى في الثاني واستحالةالارتباط في الثالث، فصحّة استعمال الحروف في هذه الموارد تكشف كشفيقينيّاً عن أنّ الحروف لم توضع لأنحاء النسب والروابط في الخارج.
وهذا الإشكال أيضاً مدفوع بأنّ الوجود للإنسان ممكنٌ، فصورة القضيّةوحقيقتها بعد الدقّة العقليّة عبارة عن أنّ الوجود الإمكاني للإنسان، وهذا لشبهة فيه.
وحقيقة القضيّة الثانية أنّ الوجود الضروري للّه تعالى، ومعلوم أنّالارتباط موجودٌ ههنا؛ إذ العينيّة تتحقّق بين اللّه تعالى والوجود، لا بينه تعالىوضروري الوجود.
وهكذا في القضيّة الثالثة فإنّ حقيقتها أنّ الوجود الممتنع لشريك الباري،وبينهما نسبة محقّقة واقعيّة بحسب الأدلّة التوحيديّة؛ إذ لابدّ في مقام المقايسةبينهما من المقايسة بين امتناع الوجود وشريك الباري، لا بين الوجود وشريكالباري، وفي المثال الثاني بين اللّه تعالى وضرورة الوجود، لا بينه تعالىوالوجود. فهذا الإشكال أيضاً في غير محلّه.
القول الخامس: ما اختاره بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات(1)وهو: أنّ المعاني الحرفيّة تباين المعاني الاسميّة بتمام الذات.
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 75 ـ 82.
(صفحه154)
بيان ذلك: أنّ الحروف على قسمين: أحدهما: ما يدخل على المركّباتالناقصة والمعاني الإفرادية «من» و«إلى» و«على» ونحوها، وثانيهما: ما يدخلعلى المركّبات التامّة ومفاد الجملة، مثل: حروف النداء والتشبيه والتمنّيوالترجّي ونحو ذلك.
أمّا القسم الأوّل فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسميّة في عالم المفهوموالمعنى، وتقييدها بقيود خارجة عن حقائقها، ومع هذا لا نظر لها إلى النسبوالروابط الخارجيّة، ولا إلى الأعراض النسبيّة الإضافيّة؛ إذ التخصيصوالتضييق إنّما هو في نفس المعنى، سواء كان موجوداً في الخارج أم لا.
توضيح ذلك: أنّ المفاهيم الاسميّة بكلّيّتها وجزئيّتها وعمومها وخصوصهقابلةٌ للتقسيمات إلى ما لا نهاية، باعتبار الحصص أو الحالات التي تتضمّنها،ولها إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات، سواء كان الإطلاقبالقياس إلى الحصص المنوّعة مثل: إطلاق الحيوان بالإضافة إلى أنواعهالمندرجة تحته، أو بالقياس إلى الحصص المصنَّفة أو المشخّصة، مثل: إطلاقالإنسان بالنسبة إلى أصنافه أو أفراده، أو بالقياس إلى حالات شخص واحد،من حيث كيفه وكمّه وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة في طول الزمانومرور الأيّام.
ومن البديهي أنّ غرض المتكلّم في مقام التفهيم والإفادة كما يتعلّق بتفهيمالمعنى على إطلاقه وسعته، كذلك قد يتعلّق بتفهيم حصّة خاصّة منه، فيحتاجحينئذٍ إلى مبرز لها في الخارج، وبما أنّه لا يكاد يمكن أن يكون لكلّ واحد منالحصص والحالات مبرزاً مخصوصاً؛ لعدم تناهي الحصص والحالات، بل عدمتناهي حصص معنى واحد وحالاته، فضلاً عن المعاني الكثيرة، فلا محالة
(صفحه 155)
يحتاج الواضع الحكيم إلى وضع ما يدلّ عليها ويوجب إفادتها عند قصدالمتكلّم تفهيمها، وليس ذلك إلاّ الحروف والأدوات وما شابهها من الهيئاتالدالّة على النسب الناقصة، كهيئات المشتقّات وهيئة الإضافة والتوصيف،فكلّ متكلّم متعهّدٌ في نفسه بأنّه متى قصد تفهيم حصّة خاصّة من معنى بأنيجعل مبرزه حرفاً مخصوصاً أو ما يشبهه على نحو القضيّة الحقيقيّة، لا بمعنى أنّهجعل بإزاء كلّ حصّة أو حالة حرفاً مخصوصاً أو ما يحذو حذوه، بنحو الوضعالخاصّ والموضوع له الخاصّ؛ لأنّه غير ممكن ـ كما عرفت ـ لعدم تناهيالحصص.
فكلمة «في» في جملة: «الصلاة في المسجد حكمها كذا» تدلّ على أنّ المتكلّمأراد تفهيم حصّة خاصّة من الصلاة، وكان في مقام بيان حكم هذه الحصّة لالطبيعة السارية إلى كلّ فرد، وأمّا كلمتا «الصلاة» و «المسجد» فهممستعملتان في معناهما المطلق واللابشرط، بدون الدلالة على التضييقوالتخصيص أصلاً. ومن هنا كان تعريف الحرف بـ «ما دَلّ على معنى قائمبالغير» من أجود التعريفات وأحسنها.
ثمّ قال في آخر كلامه: إنّ المعاني الحرفيّة عبارة عن تضييقات نفس المعانيالاسميّة في عالم المفهوميّة وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها بلا نظر إلىأنّها موجودة في الخارج أو معدومة، ممكنة أو ممتنعة، ومن هنا قلنا: إنّاستعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسق واحد، والذي دعاني إلىاختيار ذلك القول أسباب أربعة: السبب الأوّل: بطلان سائر الأقوال، السببالثاني: أنّ المعنى الذي ذكرناه مشترك فيه جميع موارد استعمال الحروف منالواجب والممكن والممتنع على نسق واحد. السبب الثالث: أنّ ما سلكناه في