(صفحه176)
اختصاص بالإنشائيّات.
قلنا: فرقه أنّ المتكلّم قد يتعلّق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبة، وقد يتعلّقبالحكاية عن النسبة الواقعة، مثلاً: مفاد كلمة «بعت» إخباراً وإنشاءً واحدٌ،وهي النسبة المتعلّقة بالملكيّة، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجاً بوجودهاللفظي، فليس وراء قصد الإيجاد أمر آخر وهو الإنشاء، وقد يقصد زيادةعلى ثبوت المعنى تنزيلاً الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضاً وهو الإخبار.
ثمّ قال في آخر كلامه: فلا ينتقض باستعمال الألفاظ المفردة في معانيها فإنّهكالإنشائيّات من حيث عدم النظر فيها إلاّ إلى ثبوتها خارجاً ثبوتاً لفظيّاً،غاية الأمر أنّها لا يصحّ السكوت عليها، بخلاف المعاني الإنشائيّة، وهذأحسن ما يتصوّر في شرح حقيقة الإنشاء، وعليه يحمل ما أفاده اُستاذنالعلاّمة، لا على أنّه نحو وجود آخر في قبال جميع الأنحاء المتقدّمة فإنّه غيرمتصوّر.
أقول: لا يخفى أنّ كلامه قدسسره يكون مورداً للإشكال من جهتين:
الاُولى: من جهة حمل كلامه على هذا المعنى؛ إذ لا شكّ ولا شبهة في عدمظهور كلامه في المعنى المذكور، ولذا لا دليل لحمل كلامه عليه، إلاّ من حيثعدم معقوليّته كما صرّح في آخر كلامه؛ إذ الوجود منحصر بأنحاء أربعة كمقال به المحقّقون من الفلاسفة.
والتحقيق: أنّ انحصار الحقائق والواقعيّات والماهيّات فيها غير قابلللإنكار، ولكن مع ذلك لا إشكال في أنّ للملكيّة أيضاً تحقّقاً ووجوداً إذحصلت بالحيازة أو الإرث، مع أنّه لم يكن من أنحاء الوجود الأربعة، فلابدّله قدسسره في مقام الجمع بينهما من القول بأنّ تقسيم الوجود بالأقسام الأربعة
(صفحه 177)
مربوطٌ بالحقائق والواقعيّات، وأمّا الملكيّة والزوجيّة ونحوهما فتكون منالاُمور الاعتباريّة، لا واقعيّة لها إلاّ في عالم الاعتبار، وإذا كانت الملكيّة كذلكفيكون الوجود الإنشائي أيضاً من هذا القبيل، فإنّه ليس في مقابل الوجودالعيني والذهني، بل هو أمرٌ اعتباري عند العقلاء وكان ظرف تحقّقه نفسالأمر، وهو أعمّ من الواقع؛ لشموله عالم الاعتبار أيضاً. ولا دليل على تفسيرنفس الأمر بأنّ اللفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود المعنى في جميع المراحلحتّى مرحلة الماهيّة؛ إذ لا ربط للفظ بالمعنى في الماهيّة؛ لأنّ وجود اللفظوجود بالذات وبالأصالة، ووجود المعنى وجود تبعي لا استقلال له، وبينهمبونٌ بعيد، فكيف يتّحدان في الماهيّة؟! فلا يكون له داع لذكر نفس الأمر إلالأعمّيّة، ويكون تفسيره به في غير محلّه، وكلام صاحب الكفاية قدسسره لا يكونكلاماً غير متصوّر.
الثانية: من جهة عدم صحّة كلامه أصلاً، فإنّ بيانه يرجع إلى أنّ الوجودالإنشائي عبارة عن الوجود اللفظي، وتحقّق المعنى يكون بتحقّق اللفظ،وينسب التحقّق إلى اللفظ أصالة وبالذات، وإلى المعنى بالعرض. وهذا المعنىيستلزم المحذورات في باب المفردات غير الإنشائيّة، مثل: كلمة «إنسان» حيثقال قدسسره : هذا المعنى جارٍ فيه أيضاً، ولا فرق بينه وبين الجمل الإنشائيّة فيالإنشائيّة، ومع هذا كان ملاك الفرق بين المفرد والجملة، لا بين كلمة «إنسان»والجمل الإنشائيّة؛ إذ لا تكون فيها شائبة الإنشاء، بل مفهومه أيضاً بعيدٌ عنعالم الإنشاء كما يحكم به صريح الوجدان.
وهكذا في مقام الفرق بين الجمل الخبريّة والإنشائيّة حيث قال قدسسره : إنّ فيكليهما يتحقّق معنى الإنشائيّة، بل هما مشتركان في هذا المعنى، والفرق بينهما في
(صفحه178)
أنّ الجمل الخبريّة مشتملة على زيادة، وهو الإخبار عن الواقعيّة، مع أنّ هذمخالفٌ لما اتّفق عليه جميع العلماء من أنّ الإنشاء والإخبار من المقولتينالمتضادّتين كالسواد والبياض، وليست فيهما جهة مشتركة أصلاً، وهذا دليلعلى بطلان أصل مبناه قدسسره وهذا المعنى أبعد من كلام المشهور وصاحب الكفاية.
فالأمر دائر بين قول المشهور وما قال به المحقّق الخراساني قدسسره مع أنّهما أيضمخدوشان من جهة؛ لأنّ تعريف المشهور لا ينطبق على الإنشاء الذي يتحقّقفي بيع الغاصب لنفسه، ولازم كلام صاحب الكفاية تعدّد الاعتبار في العقود،وهو بعيدٌ عند العقلاء.في أسماء الإشارة والضمائر
ولكن بعد التحقيق والتدقيق نشاهد أنّ لازم كلام المشهور أيضاً كان تعدّدالاعتبار، أحدهما: اعتبار تحقّق السبب، والآخر: اعتبار تحقّق المسبّب، فإنّهميقولون بأنّ الإنشاء هو استعمال اللفظ في معناه بداعي تحقّقه في وعاء مناسبـ أي الاعتبار ـ ومعلوم أنّ سببيّة كلمة «بعت» لاعتبار الملكيّة ليست في عالمالتكوين أو الخارج، مثل: سببيّة النار للحرارة، بل هي مربوطة بعالم الاعتبار،يعتبرها الشارع والعقلاء، فيكون تعريف المشهور مخدوشاً من جهتين،والترجيح في المقام ـ بعد المقايسة بين الأقوال ـ لرأي صاحب الكفاية قدسسره .
أسماء الإشارة والضمائر
قال المحقّق الخراساني قدسسره (1): يمكن أن يقال: إنّ المستعمل فيه في أسماءالإشارة والضمائر أيضاً عامٌّ، وإنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل ظهور استعمالها،حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها وكذا بعض الضمائر،
(صفحه 179)
وبعضها ليخاطب بها المعنى، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخّصكما لا يخفى... ولكن التشخّص الناشئ من قبل الاستعمالات لا يوجبتشخّص المستعمل فيه... فدعوى أنّ المستعمل فيه في مثل «هذا» و«هو»و«إيّاك» إنّما هو المفرد المذكّر، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة أوالتخاطب بهذه الألفاظ إليه... غير مجازفة.
ومراده أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه فيها عامٌّ وكلّي، وهو المفردالمذكّر، والفرق في مقام الاستعمال فقط، ونظيره قال في باب الحروف في مقامالفرق بين كلمة «من» و«الابتداء»:
مقدمة:
لا يخفى أنّ مورد استعمال كلمة «هذا» عبارة عن الإشارة الحضوريّة، وأنّعنوان الإشارة يكون من المعاني الحرفيّة المتقوّمة بالطرفين ـ أي المشيروالمشار إليه ـ كالظرفيّة المتقوّمة بالظرف والمظروف، هذا متّفقٌ عليه، ولكنّالإشارة على نوعين: إحداهما: إشارة عمليّة محضة، وهي مستقلّة لا يحتاج فيتحقّقها إلى اللفظ، كالإشارة باليد وسائر الجوارح.
والثانية: إشارة لفظيّة، وأمّا في تحقّقها مستقلّة أو أنّها تحتاج إلى اقترانها معالإشارة العمليّة فاختلف العلماء فيه.
قال بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات: «إنّ كلمة «هذا» أو «ذاك»لا تدلّ على معناها وهو المفرد المذكّر، إلاّ بمعونة الإشارة الخارجيّة كالإشارةباليد ـ كما هي الغالب ـ أو بالرأس أو بالعين، وضمير الخطاب لا يبرز معناهإلاّ مقترناً بالخطاب الخارجي»(1).
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 91.
(صفحه180)
ولكن يرد عليه: أوّلاً: أنّ الإشارة اللفظيّة وإن كانت مقترنة بالإشارةالعمليّة في أكثر الموارد، مع أنّه لا كلّيّة لها، وهي تأكيد لها، فإنّا نرى بالوجدانتحقّق إشارة لفظيّة مستقلّة، ولم يلتزم أحدٌ بعدم صحّة هذا الاستعمال أومجازيّته.
وثانياً: أنّ الضمائر وأسماء الإشارة لا تنحصر بباب التكلّم فقط، بل يستفادمنها في مقام الكتابة أيضاً، ولا معنى لاقترانها ههنا.
وثالثاً: أنّ لازم اقترانها بها دائماً ـ مع أنّ الإشارة العمليّة مستقلّة فيتحقّقها ـ أن تكون الإشارة اللفظيّة تأكيداً لها، فكلمة «هذا» ـ مثلاً ـ وضعتلتأكيد الإشارة.
والحاصل: أنّ كلاًّ منهما مستقلّة من حيث التحقّق، وقد يجتمعان للتأكيد،ولاريب في أنّ مدلول حركة اليد ومفاد الإشارة العمليّة لا يكون المفردالمذكّر، بل حركة نحو المشار إليه، عمل وفعل يدلّ على الإشارة، والدالّ هوالفعل، والمدلول هي واقعيّة الإشارة، كأنّه وضع بالوضع الطبيعي للدلالة علىالإشارة، وهي معنى حرفي تتقوّم بشخصين: المشير والمشار إليه، وهكذمدلول «هذا» ومفاد الإشارة اللفظيّة، فإنّه أيضاً يدلّ على الإشارة بلا فرقبينهما، إلاّ أنّه أخذ في مشار إليه كلمة «هذا» الخصوصيّتين ـ أعني: كونه المفردالمذكّر والحاضر ـ ولكن لا ربط لهما في حقيقة المعنى كما يؤيّده ابن مالك بقوله:«بذا لمفرد مذكّر أشر».
وأمّا ما قال به المحقّق الخراساني قدسسره : من أنّ كلمة هذا وضع لكلّي المفردالمذكّر، فهو مخالف لفهم العرف منه، ويخالف ما يفهم من سائر مرادفاته في باقياللّغات، ولا يكون بينهما اتّحاد مفهومي ولا اتّحاد من حيث الماهيّة.