(صفحه178)
أنّ الجمل الخبريّة مشتملة على زيادة، وهو الإخبار عن الواقعيّة، مع أنّ هذمخالفٌ لما اتّفق عليه جميع العلماء من أنّ الإنشاء والإخبار من المقولتينالمتضادّتين كالسواد والبياض، وليست فيهما جهة مشتركة أصلاً، وهذا دليلعلى بطلان أصل مبناه قدسسره وهذا المعنى أبعد من كلام المشهور وصاحب الكفاية.
فالأمر دائر بين قول المشهور وما قال به المحقّق الخراساني قدسسره مع أنّهما أيضمخدوشان من جهة؛ لأنّ تعريف المشهور لا ينطبق على الإنشاء الذي يتحقّقفي بيع الغاصب لنفسه، ولازم كلام صاحب الكفاية تعدّد الاعتبار في العقود،وهو بعيدٌ عند العقلاء.في أسماء الإشارة والضمائر
ولكن بعد التحقيق والتدقيق نشاهد أنّ لازم كلام المشهور أيضاً كان تعدّدالاعتبار، أحدهما: اعتبار تحقّق السبب، والآخر: اعتبار تحقّق المسبّب، فإنّهميقولون بأنّ الإنشاء هو استعمال اللفظ في معناه بداعي تحقّقه في وعاء مناسبـ أي الاعتبار ـ ومعلوم أنّ سببيّة كلمة «بعت» لاعتبار الملكيّة ليست في عالمالتكوين أو الخارج، مثل: سببيّة النار للحرارة، بل هي مربوطة بعالم الاعتبار،يعتبرها الشارع والعقلاء، فيكون تعريف المشهور مخدوشاً من جهتين،والترجيح في المقام ـ بعد المقايسة بين الأقوال ـ لرأي صاحب الكفاية قدسسره .
أسماء الإشارة والضمائر
قال المحقّق الخراساني قدسسره (1): يمكن أن يقال: إنّ المستعمل فيه في أسماءالإشارة والضمائر أيضاً عامٌّ، وإنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل ظهور استعمالها،حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها وكذا بعض الضمائر،
(صفحه 179)
وبعضها ليخاطب بها المعنى، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخّصكما لا يخفى... ولكن التشخّص الناشئ من قبل الاستعمالات لا يوجبتشخّص المستعمل فيه... فدعوى أنّ المستعمل فيه في مثل «هذا» و«هو»و«إيّاك» إنّما هو المفرد المذكّر، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة أوالتخاطب بهذه الألفاظ إليه... غير مجازفة.
ومراده أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه فيها عامٌّ وكلّي، وهو المفردالمذكّر، والفرق في مقام الاستعمال فقط، ونظيره قال في باب الحروف في مقامالفرق بين كلمة «من» و«الابتداء»:
مقدمة:
لا يخفى أنّ مورد استعمال كلمة «هذا» عبارة عن الإشارة الحضوريّة، وأنّعنوان الإشارة يكون من المعاني الحرفيّة المتقوّمة بالطرفين ـ أي المشيروالمشار إليه ـ كالظرفيّة المتقوّمة بالظرف والمظروف، هذا متّفقٌ عليه، ولكنّالإشارة على نوعين: إحداهما: إشارة عمليّة محضة، وهي مستقلّة لا يحتاج فيتحقّقها إلى اللفظ، كالإشارة باليد وسائر الجوارح.
والثانية: إشارة لفظيّة، وأمّا في تحقّقها مستقلّة أو أنّها تحتاج إلى اقترانها معالإشارة العمليّة فاختلف العلماء فيه.
قال بعض الأعلام على ما في كتاب المحاضرات: «إنّ كلمة «هذا» أو «ذاك»لا تدلّ على معناها وهو المفرد المذكّر، إلاّ بمعونة الإشارة الخارجيّة كالإشارةباليد ـ كما هي الغالب ـ أو بالرأس أو بالعين، وضمير الخطاب لا يبرز معناهإلاّ مقترناً بالخطاب الخارجي»(1).
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 91.
(صفحه180)
ولكن يرد عليه: أوّلاً: أنّ الإشارة اللفظيّة وإن كانت مقترنة بالإشارةالعمليّة في أكثر الموارد، مع أنّه لا كلّيّة لها، وهي تأكيد لها، فإنّا نرى بالوجدانتحقّق إشارة لفظيّة مستقلّة، ولم يلتزم أحدٌ بعدم صحّة هذا الاستعمال أومجازيّته.
وثانياً: أنّ الضمائر وأسماء الإشارة لا تنحصر بباب التكلّم فقط، بل يستفادمنها في مقام الكتابة أيضاً، ولا معنى لاقترانها ههنا.
وثالثاً: أنّ لازم اقترانها بها دائماً ـ مع أنّ الإشارة العمليّة مستقلّة فيتحقّقها ـ أن تكون الإشارة اللفظيّة تأكيداً لها، فكلمة «هذا» ـ مثلاً ـ وضعتلتأكيد الإشارة.
والحاصل: أنّ كلاًّ منهما مستقلّة من حيث التحقّق، وقد يجتمعان للتأكيد،ولاريب في أنّ مدلول حركة اليد ومفاد الإشارة العمليّة لا يكون المفردالمذكّر، بل حركة نحو المشار إليه، عمل وفعل يدلّ على الإشارة، والدالّ هوالفعل، والمدلول هي واقعيّة الإشارة، كأنّه وضع بالوضع الطبيعي للدلالة علىالإشارة، وهي معنى حرفي تتقوّم بشخصين: المشير والمشار إليه، وهكذمدلول «هذا» ومفاد الإشارة اللفظيّة، فإنّه أيضاً يدلّ على الإشارة بلا فرقبينهما، إلاّ أنّه أخذ في مشار إليه كلمة «هذا» الخصوصيّتين ـ أعني: كونه المفردالمذكّر والحاضر ـ ولكن لا ربط لهما في حقيقة المعنى كما يؤيّده ابن مالك بقوله:«بذا لمفرد مذكّر أشر».
وأمّا ما قال به المحقّق الخراساني قدسسره : من أنّ كلمة هذا وضع لكلّي المفردالمذكّر، فهو مخالف لفهم العرف منه، ويخالف ما يفهم من سائر مرادفاته في باقياللّغات، ولا يكون بينهما اتّحاد مفهومي ولا اتّحاد من حيث الماهيّة.
(صفحه 181)
لا يقال: إنّه إذا كان مدلول كلمة «هذا» الإشارة مع كونها من المعانيالحرفيّة، فلا يصلح لأن يقع مُسنداً ولا مسنداً إليه، مع أنّ وقوعه مسنداً ليستقابلةً للإنكار، مثل جملة: «هذا زيدٌ» و«هذا قائمٌ».
لأنّا نقول: إنّ الموضوع والمسند والمبتدأ في هذه الموارد وهكذا في الإشارةالعمليّة هو المشار إليه لا الإشارة، أو أنّ المحمول قرينةٌ على أنّ الموضوع هوالمشار إليه؛ إذ الإشارة ليست بقائم، بل المشار إليه قائمٌ.
والحاصل: أنّ الإشارة ـ سواء كانت إلى القريب أو البعيد ـ لها معان حرفيّةوإن عبّروا عنها بأسماء الإشارة.
مدلول الضمائر
ولابدّ لنا من البحث في كلّ منها مستقلاًّ، ولا دليل لاشتراكها في المعنىفنلاحظها مستقلّة، أمّا ضمير الغائب ـ مثل كلمة «هو» و«هما» و«هم»و«هي» وأمثال ذلك ـ فالظاهر أنّه مشترك مع اسم الإشارة في المعنى، كما أنّأسماء الإشارة وضعت لحقيقة الإشارة، كذلك ضمير الغائب وضع لحقيقةالإشارة، إلاّ أنّه قيّد في مرجع ضمير الغائب بمعهوديّته ذكراً أو ذهناً، وهذهتوجب صلاحيّته للإشارة وينزّله منزلة الحاضر، وإلاّ لا يمكن الإشارة اللفظيّةإلى الغائب، كما أنّه لا يمكن إشارة عمليّة إليه، مع أنّ الإشارة اللفظيّة أكثر متكون معها إشارة عمليّة، سواء كانت إلى الغائب أو الحاضر، فيكون لضميرالغائب كأسماء الإشارة معنى حرفي.
وأمّا ضمير المخاطب فلا يخفى أنّه لا تحقّق لعنوان الإشارة فيه، وفي مدلولهاحتمالان:
الأوّل: أنّه وضع للمخاطبة التي كانت لها واقعيّة متقوّمة بالطرفين، فوضع
(صفحه182)
ضمير «أنت» و«إيّاك» وأمثال ذلك للمخاطبة، فهو مشترك مع ضمير الغائبفي المعنى الحرفي.
الثاني: أنّ الواضع في مقام الوضع لاحظ عنوان كلّي المخاطب ثمّ وضع لفظالمخاطب لهذا العنوان الكلّي، ولفظ «أنت» و«إيّاك» لمصاديق هذا المفهوم، ولذإن سمع كلمة «أنت» من وراء الجدار يتصوّر مخاطباً جزئيّاً، بخلاف كلمة«المخاطب»، وهذه عبارة عن الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فلا تنحصرمصاديقه بباب الحروف، ولكنّ هذا الاحتمال مبنائي، وهو ممنوع عندنا ـ كممرّ ـ فيكون معنى الضمير المخاطب على هذا الاحتمال معنى اسمي.
وأمّا ضمير المتكلّم ففي مدلوله أيضاً احتمالان:
أحدهما: أنّ لفظ «أنا» وكذا لفظ «نحن» وضع للإشارة بشرط أن يكونالمشار إليه فيه نفس المتكلّم أو الأنفس، ويؤيّده اقترانها غالباً مع الإشارةالعمليّة إلى النفس أو الأنفس، فيكون له معنى حرفي.
وثانيهما: أنّ الواضع حين الوضع لاحظ مفهوم كلّي المتكلّم، ثمّ وضع كلمة«المتكلّم» لهذا المفهوم الكلّي، وكلمة «أنا» لمصاديقه بنحو الوضع العامّوالموضوع له الخاصّ. ويؤيّده سماعهما من وراء الجدار، فإنّ من السماع الأوّلينتقل الذهن إلى المعنى الكلّي، ومن السماع الثاني إلى المعنى الجزئي والخاصّ،فيكون له معنى اسمي.
نكتة: أنّ المعاني الحرفيّة مع أنّها في تحقّقها تحتاج إلى الطرفين، ولكن فيمقام الإفادة وبيان المقاصد يتعلّق الغرض بها؛ لأنّ غرض المتكلّم في جميعالجمل بيان هوهويّة متحقّقة بين الموضوع والمحمول، فيكون لها في هذا المقامكمال الاستقلال.