(صفحه204)
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ مراد العلمين من الدلالة التي حكما بتبعيّتهللإرادة الدلالة التصديقيّة، ولا يكون كلامهما ناظراً إلى الدلالة التصوّرية،وكون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، وكلامهما ههنا ليس قابلللإنكار ومسلّم عند الكلّ، ولكنّه خارج عن محلّ النزاع.
ولكن اعترض على صاحب الكفاية عدّة من الأعاظم بأنّه لا وجه لحملالدلالة في كلامهما على الدلالة التصديقيّة، فإنّ تبعيّتها للإرادة في الواقع ونفسالأمر واضحة فلا مجال للكلام فيها أصلاً، فإنّ عبارة العلاّمة ـ في «جواهرالنضيد» التي نقلها عن اُستاذه وشيخه المحقّق الطّوسي ـ صريحة في الدلالةالوضعيّة التصوريّة.
فيكون مراد العلمين من هذا الكلام أنّ العلقة الوضعيّة مختصّة بصورةإرادةالمعنى، وليس مرادهما من ذلك أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له شطرأو شرطاً.
والحاصل من كلامهما: أنّ للإرادة دخلاً في الوضع، وهي توجب التضييقفيه؛ بحيث لو لم تكن الإرادة لم تتحقّق الدلالة الوضعيّة.
ولا يخفى أنّه كان لصاحب المحاضرات(1) كلامٌ في هذا المقام، حيث قال: قدوقع الكلام بين الأعلام في أنّ الدلالة الوضعيّة هل هي الدلالة التصوريّة أوأنّها الدلالة التصديقيّة؟ فالمعروف والمشهور هو الأوّل بتقريب أنّ الانتقال إلىالمعنى عند تصوّر اللفظ لابدّ أن يستند إلى سبب، وذلك السبب عبارة عنالوضع. وذهب جماعة من المحقّقين إلى الثاني ـ أي انحصار الدلالة الوضعيّةبالدلالة التصديقيّة ـ والتحقيق حسب ما يقتضيه النظر الدقيق هو القول الثاني.
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 104 ـ 109.
(صفحه 205)
والوجه فيه على ما سلكناه في باب الوضع من أنّه عبارة عن التعهّدوالالتزام فواضحٌ؛ ضرورة أنّه لا معنى للالتزام بكون اللفظ دالاًّ على معناهولو صدر عن لافظ بلاشعوُر واختيار، بل ولوصدر عناصطكاك حجربآخر،وهكذا، فإنّ هذا غير اختياري، فلا يعقل أن يكون طرفاً للتعهّد والالتزام.
وعليه فلا مناص من الالتزام بتخصيص العُلقة الوضعيّة بصورة قصد تفهيمالمعنى من اللفظ وإرادته، سواء كانت الإرادة تفهيميّة محضة واستعماليّة أمجدّيّة، فإنّه أمر اختياري، فيكون معلّقاً للالتزام والتعهّد.
وبالجملة، أنّ اختصاص الدلالة الوضعيّة بالدلالة التصديقيّة لازم حتميٌللقول بكون الوضع بمعنى التعهّد والالتزام. وأمّا الدّلالة التصورّية ـ وهيالانتقال إلى المعنى من سماع اللفظ ـ فهي غير مستندة إلى الوضع، بل هي منجهة الاُنس الحاصل من كثرة الاستعمال أو من أمر آخر، ومن ثمّة كانت هذهالدلالة موجودة حتّى مع تصريح الواضع باختصاص العُلقة الوضعيّة بمذكرناه، فيكون مراد العلمين من الدلالة الدلالة التصديقيّة الوضعيّة، ولا ربطللدلالة التصوّريّة بباب الوضع أصلاً.
ولكنّ التحقيق: أنّه ـ مع أنّ أصل مبناه مردود عندنا، وانحصار الدلالةالوضعيّة بالدلالة التصديقيّة مخالف للمشهور كما اعترف به ـ مخالف للواقع،فإنّه إن سمّي مولود باسم «عليّ» وقال أحدٌ بعد لحظات: جئني بـ «عليّ»ومعلوم أنّ القول بعدم الانتقال إليه مخالف للوجدان، وأمّا انتقال الذهن إليهفليس مستنداً إلى كثرة الاستعمال، فلا محالة يستند إلى الوضع والتسمية، وإذكان الأمر كذلك فما الدليل على خروج الدلالة التصوريّة عن الدلالة الوضعيّة؟فلابدّ من كونها أيضاً من هذا الباب، وكان كلام العلمين أيضاً ناظراً إلى هذالمعنى.
(صفحه206)
في وضع المركّبات
الأمر السادس
وضع المركّبات
لا يخفى أنّ هذا النزاع إنّما يأتي فيما إذا كان للمركّب وضع غير وضعالمفردات التي هي الهيئة التركيبيّة، مثلاً: في قولنا: «زيدٌ قائمٌ» قد وضعت كلمة«زيد» لمعنى خاصّ، وكلمة «قائمُ» هيئة ومادّة لمعنى آخر، والهيئة القائمة بهملمعنى ثالث، فلا إشكال في كلّ واحد من تلك الأوضاع الثلاثة، وإنّما الكلاموالإشكال في وضع مجموع المركّب من هذه المواد على حدة.
وامّا وضع هيئة الجملة فلا كلام في وضعها للنسبة أو الهوهويّة كما مرّ،ومنشأ هذا النزاع قول بعض النحويّين بأنّه كما أنّ للمفرد وضعاً كذلكللمركّب وضع، وإن احتمل بعض أنّ مراد القائل بالوضع وضع هيئة المركّبلا هو بنفسه، فيكون النزاع لفظيّاً، ولكنّ صريح كلام بعض آخر منهم يأبىعن هذا الاحتمال، وهو أنّ مفاد مجموع المركّب هو معنى هيئة الجملة الخبريّة.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّ الصحيح هو أنّه لا وضع للمركّب بما هو مركّب،واستدلّ له بدليلين:
الأوّل: أنّ الواضع لمّا رأى تحقّق الحقائق الكلّيّة والجزئيّة في العالم وأنّه ليمكن الإشارة العمليّة إليها، أو ممكن ولكنّها توجب العسر والحرج، ولذا وضع
(صفحه 207)
لكلّ واحد منها لفظاً حتّى يحكي عنها، فيكون غرضه من الوضع إفادة المعانيالواقعيّة، فلو لم تكن الواقعيّة لم يتحقّق الوضع أصلاً.
ويمكن أن يقال: إنّ لنا عناوين وألفاظاً مع أنّها ليست لها واقعيّة وحقيقة،ولكنّها تحكي عن المعاني، فلا تكون دائرة الوضع محدودةً بالواقعيّات، مثلاً:عنوان «شريك الباري» و«اجتماع النقيضين»، وأمثال ذلك بعد إقامة البرهانعلى استحالة كلّ واحد من هذه العناوين لا واقعيّة لها، ولكنّها تدلّ علىالمعاني.
وجوابه: أوّلاً: بأنّ كلمة «الباري» وضعت لذات واجب الوجود، وهكذكلمة «الشريك» وضعت لمطلق الشركة، وأمّا تلفيق المضاف والمضاف إليهفيكون من عمل القائل بداعي جعلهما موضوعاً لحمل كلمة «محال» عليه، لوضعه لها، وهكذا في جملة «اجتماع النقيضين محالٌ».
إن قلت: لو سلّمنا هذا المعنى في المركّبات فكيف التوفيق في المفردات التيلا واقعيّة لها، وتدلّ على المعاني، مثل كلمة «ممتنعٌ» و«محالٌ»؟
قلنا: إنّ الواضع لايكون له وضع لهيئة كلمة الممتنع ومادّتها ملفّقين، بللمادّتها وضع ولهيئتها وضع آخر، وكلّ منهما يحكي عن المعنى، وتلفيق الهيئةوالمادّة يكون من عمل القائل، وليس التلفيق في لسان الواضع.
وثانياً: أنّ المقصود من الواقعيّة ليس التحقّق والعينيّة الخارجيّة، بل المرادمنها ما يقبل الإيجاب والسلب والإثبات والنفي، بل لو كان ممّا اتّفق الكلّ علىعدمه ـ مثل اجتماع النقيضين ـ كان له واقعيّة باعتبار وقوعه موضوعاً لكلمة«محال»، ولأنّه لو لم تكُنْ محاليّة اجتماع النقيضين لا يمكن إثبات واقعيّة منالواقعيّات، فيكون لاجتماع النقيضين وشريك الباري معنى، ولكنّه ممتنعٌومحال.
(صفحه208)
ولو سلّمنا الوضع فيهما فهو لمحاليّة مفادهما، لا أنّه ليس لهما معنى أصلاً،وهكذا في كلمة «ممتنع» أيضاً كان له معنى ومفاد، ولكنّه لا يعقل أن يتحقّق فيالخارج.
وحينئذٍ نقول: لا حاجة لنا إلى وضع المركّبات، فإنّ لكلّ جزء من أجزاءالجمل وضعاً، مثلاً في جملة «زيدٌ قائمٌ» يكون وضع لكلمة «زيد» ووضعانلكلمة «قائم» من حيث المادّة والهيئة، ووضع للهيئة القائمة بالجملة، ومنالواضح أنّ هذه الأوضاع الأربعة وافية لإفادة الغرض المتعلّق بالمركّب،ولايبقى هنا غرض آخر حتّى لا تكون تلك الأوضاع وافيةً لإفادته حتّىنحتاج إلى وضع المركّب بما هو على حدة لإفادة ذلك الغرض، فلا يوجدغرض بصورة «شريك الباري» ومفاد كلمة «ممتنع».
وبعبارة اُخرى: أنّ وضع المركّب على حدة إمّا أن يكون لغرض آخر غيرالغرض المترتّب على وضع المفردات، وهو مفقود وجداناً؛ إذ الغرض حاصلمنه، فيلزم تحصيل الحاصل، وهو محالٌ. وإمّا بلا غرض فيلزم اللغويّة، وهيقبيحةٌ.
ولذا لما التفت إلى هذا المعنى بعض النحويّين قال في مقام التوجيه: إنّ مفادمجموع المركّب هو مفاد الجملة الخبريّة، وأنّ النسبة أو الهوهويّة مدلول لهما،نظير الألفاظ المترادفة التي تدلّ على معنى واحد.
ولكنّ هذا التوجيه باطلٌ لوجهين:
الأوّل: لأنّ أصل الترادف محلّ للإشكال؛ لأنّ عدّة من المحقّقين قائلة: بأنّلكلّ لفظ من الألفاظ المترادفة خصوصيّة لم تكن هي في غيره، وهو قريبٌ؛لأنّ الذوق الارتكازي يحكم بأنّ مورد استعمال أحدها غير مورد استعمالالآخر.