(صفحه 209)
الثاني: لو سلّمناه ولكن الغرض منه تسهيل الأمر للمستعملين في التعبيرعن المعنى الموضوع له، بلحاظ كثرة ابتلاء الناس بهذا المعنى، ولذا اقتضتالمصلحة أن يحكي أكثر من لفظ واحد عن هذا المعنى، ولا يخفى أنّ هذالغرض ليس موجوداً في ما نحن فيه، فإنّ هيئة المركّب ومجموع المركّب أمرانمتلازمان غير قابلين للتفكيك، فيلزم اللّغوية.
مضافاً إلى أنّ هذا الوضع يستلزم إفادة المعنى الواحد مرّتين والانتقال إليهبانتقالين؛ لأنّ تعدّد الوضع يقتضي تعدّد الإفادة والانتقال، بحيث كان انتقالالثاني في عرض انتقال الأوّل؛ لتحقّق كلّ من الدالّين في عرض تحقّق الآخر،وهذا مخالف للوُجدان.
وأمّا الدليل الثاني فهو ما قال به ابن مالك، وهو: أنّه لو كان لمجموع مركّب«زيدٌ قائمٌ» وضع على حده، فلا محالة لا يكون وضعاً نوعيّاً؛ إذ كلّ واحد منالمركّب كان مبايناً للآخر، ولذا لا يتصوّر أن يكون الوضع نوعيّاً، فيكونالوضع فيه شخصيّاً ولكنّه مردودٌ لوجهين:
الأوّل: أنّ المركّب لا يعدُّ ولا يحصى باعتبار الزمان والأشخاص، واللّغات،فلا يمكن الوضع فيه.
الثاني: بأنّ وضع المركّب يوجب تعطيل الخطابة وابتكار الكلام وتشكيلالجملات الذوقيّة، فإنّ المتكلّم لابدّ له أن يلاحظ كلّ جملة بأنّ لها وضعاً أم لا،فانقدح من ذلك أنّ أصل الوضع فيه مردودٌ، كما لا يخفى على المتفطّن.
(صفحه210)
في علامات الحقيقة والمجاز
الأمر السابع
علامات الحقيقة والمجاز
وقد ذكروا للحقيقة علائم:
منها ـ التبادر:
لا يخفى أنّ المتقدّمين من الاُصوليّين عدّوا إحدى العلامات تنصيص أهلاللّغة، ولكنّ المتأخّرين منهم لم يتعرّضوا له، ولعلّه لعدم حجّيّته عند الأكثر،وأمّا التبادر فلابدَّ لنا من البحث فيه في جهات:
الاُولى ـ في معنى التبادر: وهو خطور المعنى في الذهن بمجرّد سماع اللفظمن غير قرينة وتقرّره فيه، لا سبقة حصول المعنى في الذهن بالنسبة إلى معنىآخر وإتيان الآخر بعده.
الجهة الثانية ـ في مورد التبادر: واعلم أنّه لا ينحصر في الاستعمالات الدائرةبين الحقيقة والمجاز أو الصحّة والبطلان، بل يعرف منه المعنى الحقيقي ولو لميكن استعمال، فإذا كان أحد جاهلاً باستفادة معنى اللفظ منه ـ كما لو شكّ فيكون الماء موضوعاً للجسم السيّال البارد بالطبع ـ فيكون التبادر طريقلإثباته، فيقول لأهل اللّغة العربيّة في مقام الاستعلام: «جئني بماء» ويلاحظ ميتبادر عنده، فهو الموضوع له، فتكون موارد الاستفادة من التبادر وسيعة.
(صفحه 211)
الجهة الثالثة ـ في ثمرة التبادر: هل ينتج منه المعنى الموضوع له أو المعنىالحقيقي؟ إذ الرابطة الاعتباريّة كما تحصل بالوضع كذلك تحصل بكثرةالاستعمال حتّى يصير حقيقةً، وقد ذكرنا فيما تقدّم أنّ تقسيم الوضع إلى التعيينيوالتعيّني ليس بصحيح، فتكون الحقيقة أعمّاً مطلقاً من الموضوع له؛ إذ كلّموضوع له حقيقة، وليس كلّ حقيقة موضوع له، فتكون ثمرة التبادر إثباتكون المعنى المتبادر حقيقةً، لا كونه موضوعاً له.
الجهة الرابعة ـ في علّة كون التبادر علامةً للحقيقة: وبيانه: أنّ اللفظ والمعنىلو لم يكن بينهما ارتباط حقيقي لم يتبادر من بين المعاني المتعدّدة المحتملة هذالمعنى؛ إذ لا يتصوّر خصوصيّة للانسباق سوى ذلك، فهذه الخصُوصيّة علّةللتبادر.
الجهة الخامسة ـ في الإشكالات والتفصّيات: فقد يورد أنّ علاميّة التبادرتستلزم الدور؛ إذ لا معنى للتبادر عند الجاهل، فإنّه لا يدرك سوى الأصواتوالألفاظ، فلا محالة يتبادر عند العالم بالمعنى الحقيقي، فالتبادر متوقّف علىالعلم بالمعنى الحقيقي، والمفروض أنّ العلم به متوقّف على التبادر.
وأجاب عنه المحقّق الخراساني(1) بوجهين: الأوّل: أنّ التبادر عند العالمبالوضع علامة الحقيقة للجاهل به، فالمستعلم يرجع في ذلك إلى العالم بالوضع،فيكون علم الجاهل متوقّفاً على التبادر، ولكنّ التبادر متوقّف على علم العالم،وبذلك يندفع الدور كما لا يخفى.
الثاني: أنّ التبادر وإن كان متوقّفاً على العلم بالمعنى الحقيقي، إلاّ أنّ ذلكالعلم ارتكازي مكنون في خزانة النفس، من دون التفات تفصيلي إليه،
(صفحه212)
فالتبادر يوجب العلم تفصيلاً به، فالعلم التفصيلي بكونه معنى حقيقيّاً موقوفعلى التبادر، ولكنّ التبادر موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي، فارتفعالدور من البين.
وأجاب عنه بعض المحقّقين بأنّه يكفي في ارتفاع الدور تغاير العلمينشخصاً، فإنّ العلم الشخصي الحاصل من التبادر مغاير مع العلم الشخصيالذي يتوقّف التبادر عليه وإن كان كلاهما علماً تفصيليّاً، فيكون أحد الفردينمتوقّفاً على التبادر، ولكنّه متوقّف على الفرد الآخر، ولا مانع من توقّف أحدالفردين على الآخر.
ولكنّه مردودٌ بأنّ العلم من اُمور ذات الإضافة، له إضافة إلى العالم وإضافةإلى المعلوم، وتعدّده متوقّف على تعدّد أحد طرفيه أو تعدّدهما، ولا يعقل العلمالتفصيلي في حال واحد لشخص واحد على شيء واحد مرّتين، مثل قولالقائل مثلاً: «لنا عشرة علوم تتحقّق اليوم».
الجهة السادسة: في اشتراط علاميّة التبادر بكونه مستنداً إلى حاقّ اللفظلا إلى القرينة، هذا إذا اُحرز انسباق المعنى إلى الذهن من نفس اللفظ، وإنّمالكلام في صورة الشكّ واحتمال استناد ظهور اللفظ إلى وجود قرينة داخليّة أوخارجيّة، فهل لنا طريق مضبوط أو قاعدة مضبوطة لإثبات هذا المعنى أم لا؟
ربّما يقال: إنّ الاطّراد يدلُّ على كون التبادر مستنداً إلى حاقّ اللفظ، وهوأنّ تبادر المعنى من اللفظ لا يختصّ بمورد دون مورد، بل كلّما اُطلق لفظ«صعيد» يتبادر منه التراب الخالص، وهذا دليل على كونه مستنداً إلى الوضع.
وجوابه: أنّ الاطّراد إن كان موجباً للعلم فلا إشكال فيه، بل هو خارجعن محلّ البحث، وإن كان حجّة في مورد التبادر مع عدم حصول العلم منه فلا
(صفحه 213)
دليل على حجّيّته أصلاً؛ إذ لم يثبت لنا من العقلاء التمسّك به.
وأيضاً يمكن التمسّك لإثبات هذا المعنى بأصالة عدم القرينة.
ولكنّه أيضاً مردودٌ، فإنّه إن كان دليل هذا التمسّك بناء العرف على عدمالاعتناء باحتمال القرينة فيردّه أنّ بناء العرف إنّما يختصّ بما إذا شكّ في مرادالمتكلّم، ولم يعلم أنّه المعنى الحقيقي أو المجازي؛ لاحتمال أن يكون في الكلامقرينة قد خفيت علينا. وأمّا إذا علم المراد وشكّ في أنّ المعنى المتبادر مستندإلى حاقّ اللفظ أو إلى القرينة فلا بناءَ من أبناء المحاورة على عدم الاعتناءباحتمال القرينة، أو يحتمل عدم بنائهم ههنا، ففي صورة عدم إحراز بناء العقلاءلا معنى لجريان هذا الأصل.
وأمّا لو كان دليل هذا التمسّك أخبار الاستصحاب وكان الأصل شرعيّفنقول: إنّ اللفظ ما لم يكن موجوداً لم يكن محفوفاً بالقرينة، وبعد وجودهنشكُّ في محفوفيّته بالقرينة، فيستصحب عدم المحفوفيّة المتيقّنة.
ويردّه: أنّ هذا الاستصحاب كاستصحاب عدم قرشيّة المرأة، وعدم التزكيةلا يجري، فإنّ القضيّة المتيقّنة والمشكوكة غير متّحدتين عرفاً؛ لأنّ القضيّةالمتيقّنة سالبة بانتفاء الموضوع، والمشكوكة سالبة بانتفاء المحمول، مع أنّ منشرائط جريان الاستصحاب اتّحاد القضيّتين.
ويمكن أن يقال: إنّا نجري استصحاب عدم القرينة بأنّ القرينة لم تكنسابقاً، ونشكّ في أنّها حدثت مقارنة للكلام أم لا، فيستصحب عدم القرينةالسابقة.
ويردّه بأنّ من شرائط الاستصحاب كون المستصحب حكماً شرعيّاً أوموضوعاً ذا أثر شرعي، واستصحاب عدم القرينة يثبت به استناد التبادر إلى