(صفحه 221)
على كلّ فرد من أفراد الشجاع فلا يطّرد ولا يصحّ مطلقاً، بل يصحّ إطلاقهباعتبار هذا المفهوم الكلّي على الإنسان الشجاع، ولا يصحّ إطلاقه على كلّرجل يشبهه، كما إذا كان شبيهاً له في البخر، وهكذا يكشف عن كونه منالمعاني المجازيّة.
ولكن استشكل في علاميّة الاطّراد أيضاً بأنّ الاطّراد ليس لازماً مساويللوضع حتّى يكون أمارة عليه، بل هو لازم أعمّ من الوضع، فليس دليلعليه؛ لعدم دلالة العامّ على الخاصّ، ووجه أعمّيّته هو وجود الاطّراد في المجازأيضاً، حيث إنّ علاقة المشابهة في أظهر الأوصاف، كشجاعة الأسد ـ مثلاً توجب جواز استعمال لفظ «الأسد» في جميع موارد وجود هذه العلاقة،فالاطّراد بلحاظ كلّ واحدة من العلائق الموجودة حاصل، مع أنّ استعمالاللّفظ في المعاني بلحاظ تلك العلائق مجاز.
وأجاب عنه صاحب الكفاية(1)، وحاصل جوابه: أنّ الاطّراد في المجازاتإنّما يكون بلحاظ أشخاص العلائق، بحيث يكون شخص المستعمل فيه دخيلفي صحّة الاستعمال وحُسنه، لا بملاحظة أنواعها كما هو شأن الاطّراد فيالحقائق، فاستعمال لفظ «الأسد» في الرجل الشجاع بعلاقة المشابهة بينهما وإنكان مطّرداً، إلاّ أنّ اطّراده إنّما هو بملاحظة شخص هذه العلاقة، أعني علاقةالمشابهة بينه وبين الرجل الشجاع بخصوصه، ولذا لا يحسن استعماله فيالعصفور الشجاع مع وجود الشجاعة فيه، وهذا بخلاف الاطّراد في الحقائق،فإنّه يكون بملاحظة أنواع العلائق من دون خصوصيّة لمورد الاستعمال،فيكون الاطّراد علامة للحقيقة، وعدمه بالنسبة إلى نوع العلاقة علامة
- (1) كفاية الاُصول 1: 28 ـ 29.
(صفحه222)
للمجاز.
وأجاب عنه أيضاً المحقّق الأصفهاني قدسسره (1) بقوله: الكلام في عدم اطّرادالمعاني المجازيّة المتداولة بين أهل المحاورة، وإن كان المعنى المجازي المناسبللحقيقي واقعاً أخصّ ممّا هو المتداول لتخلّفه في بعض الموارد، فإذا اطّرداستعمال لفظ في معنى بحدّه فهو علامة الوضع؛ إذ ليس في المعاني المتداولةبحدّها ما هو كذلك إلاّ في الحقائق.
ولكنّ التحقيق: أنّه لا يساعد هذا التفسير من الاطّراد، فإنّه أوّلاً: يرجع إلىصحّة الحمل بعد القول بأنّ زيداً رجلٌ.
وثانياً: أنّ إطلاق الرجل على «زيد» و«عمرو» و«خالد» لخصوصيّةالرجوليّة لا يستلزم أن يكون هذا المعنى المردّد معنى حقيقيّاً للرجل ويكونهذا الإطلاق صحيحاً؛ لأنّه يمكن أن يكون إطلاق الرجل على جميع الأفرادبنحو المجاز، بل لا يمكن إحراز صحّة الإطلاق وعدمه إلاّ بالعلم بالمعنىالحقيقي والمجازي؛ إذ العلم بصحّة الإطلاق وعدمه في مورد الاطّراد وعدمهمتوقّف على العلم بهما، وهذا دورٌ.
وإذا قيل: إنّ هذا الإطلاق عند العرف صحيح.
قلنا: إنّ هذا يرجع إلى المغايرة بين العالم والمستعلم، وهو خارج عن محلّالبحث، فهذا البيان على الظاهر ليس بتامّ.
وأمّا التفسير الآخر فلاُستاذنا المرحوم السيّد البروجردي قدسسره وملخّص مأفاده بعد قبوله علاميّة الاطّراد وعدمه للحقيقة والمجاز: أنّ الاطّراد هو حسنالاستعمال بنحو الإطلاق، بخلاف عدم الاطّراد.
- (1) نهاية الدراية 1: 85 .
(صفحه 223)
بيان ذلك: أنّ الاستعمالات الحقيقيّة لها شرط واحد، وهو كون المقام مقامالإخبار بوقوع الرؤية ـ مثلاً ـ على الرجل الرامي، كما في قولنا: رأيت رجليرمي، وصحّة هذا الإطلاق لا يختصّ بزمان خاصّ أو مكان خاصّ؛ لأنّالإطلاق حقيقيٌّ وانطباقه لا ينحصر بمورد دُون مورد. وأمّا الاستعمالاتالمجازيّة فيحتاج إحرازها إلى اُمور ثلاثة: الأوّل: كون المقام مقام الإخباربتعلّق الرؤية به وأنّه يرمي.
الثاني: حسن ادّعاء كونه أسداً، بأن يكون بالغاً أعلى درجات الشجاعة.
الثالث: كون المقام مقام إظهار شجاعته، كما في قولنا: رأيت أسداً يرمي؛لأنّ استعمال لفظ «الأسد» في الرجل الشجاع إذا كان المقصود ـ مثلاً ـ تحريكهإلى الجهاد حسنٌ، بخلاف إطلاقه فيه في مقام دعوته إلى الأكل، مثلاً: بأن يقالله: «يا أسد تفضّل إلى أكل الطعام»، بل يكون إطلاق «الأسد» عليه قبيحاً فيهذا المقام.
ثمّ قال: إنّ جعل عدم الاطّراد علامة للمجاز وإن فرض أنّه ليس بلحاظنوع العلاقة بل بلحاظ الصنف منها، لكن قولكم: «فالمجاز أيضاً على هذمطّردٌ» واضح الفساد، بعد ما ذكرناه من أنّ صرف تحقّق صنف العلاقةومصحّح الادّعاء لا يكفي في الاستعمال ما لم يكن المقام مقام إظهار هذالادّعاء.
وفيه: أوّلاً: أنّه لا يحسن إطلاق الحقائق بنحو الإطلاق، فلابدّ لها أيضاً منالمناسبة، كقولنا بعد العلم باسم زوجة أحد: السلام عليك يا زوج فلانة، فإنّهمع حقيقته قبيحٌ، حتّى في باب الأدعية لابدّ لنا من رعاية المناسبة في القول؛لأنّه لا يقال في مقام طلب المغفرة ـ مثلاً ـ : يا قهّار، اغفر لي، بل يقال:
(صفحه224)
«يا غفّار، اغفر لي»، مع أنّ كليهما من الحقائق.
وثانياً: أنّ إحراز حُسن إطلاق الحقائق وعدم حُسنه في المجازات متوقّفعلى العلم بهما، وإلاّ فكيف يحرز الجاهل أو المتردّد أنّ هذا الإطلاق حسنٌ أوقبيحٌ، إلاّ أن يتصوّر ههنا أيضاً العالم والمستعلم، وهو خارج عن محلّ البحث.
وأمّا التفسير الآخر عن الاطّراد لبعض الأعلام على ما في كتابالمحاضرات(1) وهو: أنّ الاطّراد الكاشف عن الحقيقة عبارة عن استعمال لفظخاصّ في معنى مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة مع إلغاء جميع ميحتمل أن يكون قرينة على إرادة المجاز، وهذه طريقة عمليّة لتعليم اللّغاتالأجنبيّة، واستكشاف حقائقها العرفيّة.
توضيح ذلك: أنّ من جاء من بلد إلى بلد آخر ورد في بلدٍ لا يعرف لغتهم،فإذا تصدّى لتعلّم اللّغة السائدة في البلد رأى أنّ أهل البلد يطلقون لفظويريدون به معنى، ويطلقون لفظاً آخر ويريدون به معنى آخر، وهكذا، ولكنّهلا يعلم أنّ هذه الإطلاقات من الإطلاقات الحقيقيّة أو المجازيّة، فإذا رأى أنّهميطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد حصل له العلمبأنّها معاني حقيقية؛ لأنّ جواز الاستعمال معلول لأحد أمرين: إمّا الوضع أوالقرينة، وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطّراد فلا محالة يكون مستندإلى الوضع، مثلاً: إذا رأى أحد أنّ العرب يستعملون لفظ «الماء» في معناهالمعهود، ولكنّه شكّ في أنّه من المعاني الحقيقيّة أو من المعاني المجازيّة، فمن إلغاءما يحتمل أن يكون قرينة من جهة الاطّراد علم بأنّه من المعاني الحقيقيّة، وليكون فهمه منه مستنداً إلى قرينة حاليّة أو مقاليّة، وبهذه الطريقة ـ أي تكرار
- (1) محاضرات في اُصول الفقه 1: 121 ـ 124.
(صفحه 225)
الاستعمال ـ غالباً يعلّمون الأطفال والصبيان اللّغات والألفاظ.
وبهذا تحصّل أنّ الاطّراد بهذا التفسير الذي ذكرناه علامة لإثبات الحقيقة،بل أنّه هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالباً، فإنّ تصريح الواضع وإن كانيعلم به الحقيقة إلاّ أنّه نادر جدّاً، وأمّا التبادر فهو وإن كان يثبت به الوضعـ كما عرفت ـ إلاّ أنّه لابدّ من أن يستند إلى العلم بالوضع، إمّا من جهة تصريحالواضع أو من جهة الاطّراد، والأوّل نادر فيستند إلى الثاني لا محالة. انتهى.
وفيه: أوّلاً: أنّ الإحاطة بجميع موارد الاستعمالات لا يمكن أن تتحقّقبحسب العادة، فلابدّ من التأويل والتوجيه بأن مراده منها الشيوع وكثرةالاستعمال كما هو الظاهر من لفظ الاطّراد.
وثانياً: أنّه إذا رأى شخص من أهل سائر اللّغات أنّ العرب يستعملون لفظ«الماء» في معناه المعهود، فقد يعلم في الاستعمالات الثانية والثالثة أنّ هذا المعنىمستند إلى حاقّ اللفظ، وحينئذٍ لا يحتاج إلى الاطّراد، وهذا متمحّض فيالتبادر عند الغير. وقد لا يعلم أنّه مستند إلى حاقّ اللّفظ أم لا، وحينئذٍ قد ليوجب كثرة الاستعمال لرفع الشكّ وإن بلغ ما بلغ، وقد يوجب العلم باستنادهإلى حاقّ اللفظ وإن احتمل في الاستعمالات الأوّليّة إستناده إلى وجود القرينة،ولكنّ الاطّراد يوجب إحراز استناده إلى حاقّ اللفظ، فنقول:
إنّ العلامة ههنا عبارة عن التبادر لا الاطّراد، ولكن كان له الشرط الذي لميتحقّق قبل كثرة الاستعمال، وهو إحراز الاستعمال مستنداً إلى حاقّ اللفظ،فيكون سبب الكشف إحراز الاستعمال لا الاطّراد، فتشخيص المعنى الحقيقيمستند إلى إحراز الاستناد، وهو من أيّ طريق حصل ومن أيّ سبب يتحقّقيكفي في التبادر، كما مرّ سابقاً.