لم يحفظ ذكراً عن الوضع والنقل، مع أنّه لو كان هناك شيء لنقل إلينا؛ لكثرةالدواعي إلى نقله، والمهمّ منه عدم ذكر الأئمّة عليهمالسلام للوضع في كلماتهم، مع أنّهمذكروا خصوصيّات مهمّة من حياته صلىاللهعليهوآله ولكن لم يتعرّضوا له أصلاً. ولم تتحقّقمسألة باسم الوضع حتّى لو قلنا بأنّ الوضع كما يحصل بالتصريح بإنشائهكذلك يحصل باستعمال اللّفظ في غير ما وضع له بقرينة الوضع كما قال بهصاحب الكفاية، وإلاّ لابدّ من ذكره في التأريخ أو في لسان الأئمّة عليهمالسلام فإنّه ليسأقلّ أهمّية من كيفيّة وضوئه صلىاللهعليهوآله التي نقلت مراراً على ألسنتهم عليهمالسلام .
بحسب حالات المكلّفين، كاختلاف صلاة الحاضر والمسافر والغريقوالمريض.
فهذه الآيات كلّها شواهد بيّنة على أنّ ألفاظ العبادات كانت معلومةالمفهوم عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وأصحابه ومعاصريه من الكفّار، وكلّهم يفهمونمعانيها بلا معونة قرينةٍ.
إن قلت: إنّ ثبوت هذه المعاني في الشرائع السابقة لا يدلّ على وجود تلكالألفاظ فيها، بل كانت في بعضها بالسريانيّة كما في لغة عيسى عليهالسلام ، أو بالعبريّةكما في لغة موسى عليهالسلام وقد نقلت عنها بهذه الألفاظ الخاصّة في شريعتنا،لاقتضاء مقام الإفادة ذلك.
قلنا: إنّ المهمّ تحقّق هذه المعاني بعنوان عبادة مخصوصة في الشرائع السابقةولو كانت باللغة السريانيّة أو العبريّة، فإذا تحقّق أنّ الصوم أو الصلاة كان فيهبعنوان عبادة من العبادات يكفي في الاستدلال؛ على عدم كون هذه المعانيمستحدثة في شريعة الإسلام، مع أنّه مخالف لظاهر الآيات، ولا يكون جوابلمعهوديّة تلك الألفاظ عند رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ومعاصريه من الأصحابوالمشركين حين نزول الآيات.
ولا يتوهّم أنّ الألفاظ المذكورة موضوعة بإزاء تلك المعاني في ألسنةالأنبياء السالفة؛ لأنّه وإن كان ممكناً في نفسه إلاّ أنّه لا شاهد عليه، لا منالآيات، ولا من الروايات، مع أنّه لو كان كذلك فلا فائدة لنا في بحث الحقيقةالشرعيّة، فإنّ جميع الاستعمالات في لسان النبيّ صلىاللهعليهوآله تحمل على المعاني السابقة.
الجهة الثالثة: في أنّه لابدّ للوضع من موقعيّة تقتضي تحقّقه فيها، ولا معنىله بدونها، فإنّ الواضع بعد ملاحظة أنّه كان معنى الصوم ـ مثلاً ـ مورداً لابتلاء
(صفحه 235)
الناس وأنّ تفهيمه من طريق الإشارة مشكل وضع هذا اللفظ لهذا المعنى؛لغرض السهولة في التفهيم والتفهّم، فإذا جاء رسول من اللّه تعالى بدين جديدومسلك حادث كان موقعيّة وضعه من حين تبعيّة الناس له ورغبتهم إليهوبسط دينه، فهو بعد ملاحظة احتياجه واحتياج اُمّته إلى استعمال الألفاظ فيالمعاني المستحدثة يضع الألفاظ للمعاني على فرض تحقّقه بسبب النبيّ صلىاللهعليهوآله .
وبناء على ذلك كان المقتضي له زمان تقرّره وحياته في المدينة، لازمانحياته في مكّة، حيث إنّ تابعيه في ذلك الزمان كانوا في غاية القلّة، مع أنّا نرىوجود ألفاظ العبادات في الآيات المكّيّة النازلة في ابتداء البعثة، كقوله سبحانهفي سورة المزمّل: «وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ»(1)، وقوله تعالى في سورةالأعلى: «وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِى فَصَلَّى»(2).
ولا شكّ في أنّ المراد من الصلاة هي العبادة المخصوصة، وأنّ دلالتها عليهليست بمعونة قرينة حاليّة أو لفظيّة، فإنّا نرى عدم وجود قرينة لفظيّة في الآية،وأمّا القرينة الحاليّة فليست مناسبة للكتاب الذي كان بعنوان معجزة باقية إلىيوم القيامة، فكيف وضع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله هذه الألفاظ لتلك المعاني مع أنّالموقعيّة لم تقتضيه أصلاً؟!
وأمّا قوله صلىاللهعليهوآله في حديث: «صَلُّوا كما رأيْتُمْوني اُصَلّي»(3) فليس بقرينة، بلهو مؤيّد لعلم الناس بكون الصلاة عبادة مخصوصة وجهلهم بكيفيّتها، وقد مرّأنّ الجهل بالكيفيّة لا ينافي أصل التحقّق، فكان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يُرشدهم إلىالكيفيّة بهذه الجملة، كإرشاد العالم الجاهل إلى الكيفيّة في زماننا هذا.