(صفحه236)
فيستفاد من الجهات الثلاثة المذكورة عدم تحقّق النقل والوضع أو الحقيقةالشرعيّة بلسان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله .
هذا، واختلف الاُصوليّون أيضاً في مسألة الحقيقة الشرعيّة من حيث ترتّبالثمرة عليها وعدمه، فقال عدّة من الأعاظم: لا تترتّب عليها ثمرة أصلاً، فليكون في هذا البحث فائدةٌ عمليّة.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (1): «وأمّا الثمرة بين القولين فتظهر في لزومحمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع، بلا قرينة على معانيها اللغويّةمع عدم الثبوت، وعلى معانيها الشرعيّة على الثبوت فيما إذا علم تأخّرالاستعمال، وفيما إذا جهل التأريخ ـ إمّا بجهل تأريخ كليهما أو أحدهما ففيه إشكال».
ووافقه بعض بناء على الثبوت بأن يحمل على المعنى الشرعي فيما إذا تأخّرالاستعمال عن النقل، ولكن خالفه بعض بناء على عدم الثبوت بأنّ اللفظيصير مُجملاً، فلابدّ من التوقّف فيه، ولا يحمل على المعنى الحقيقي اللغوي، ولعلى المعنى الشرعي الحادث.
إن قلت: لابدّ لنا من متابعة أصالة الحقيقة إذا دار الأمر بين المعنى المجازيوالحقيقي فهي المرجع ههنا لا التوقّف.
قلنا: لا شكّ في صيرورة المعاني الشرعيّة من المجازات المشهورة، بحيث إذاستعمل اللفظ بلا قرينة ليس احتمالها أقلّ من احتمال المعنى الحقيقي؛ لكثرةاستعمال هذه الألفاظ في المعاني الشرعيّة، فصار اللفظ حينئذٍ مُجملاً، والمختارههنا هو التوقّف.
(صفحه 237)
وممّن أنكر أصل ترتّب الثمرة في هذا البحث المحقّق النائيني قدسسره (1) وتبعه فيهتلميذه العلاّمة الخوئي ـ دام ظلّه ـ(2) وقال في مقام الإنكار: إنّه لا ثمرة لهذهالمسألة أصلاً؛ لأنّ ألفاظ الكتاب والسنّة الواصلتين إلينا يداً بيدٍ معلومتان منحيث المراد، فلا يبقى مورد نشكّ فيه في المراد الاستعمالي، ولا يتوقّف في حملهعلى المعاني الشرعيّة، فإنّ ألفاظ الكتاب والسنّة قد وصلت إلينا من النبيّالأكرم صلىاللهعليهوآله بواسطة الأئمّة الأطهار عليهمالسلام .
ثمّ قال: إنّ الحقيقة الشرعيّة وإن فرض أنّها لم تثبت إلاّ أنّه لا شبهة فيثبوت الحقيقة المتشرّعيّة في زمن مّا، كما قال المحقّق الخراساني قدسسره : إنّ منعحصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة، فاستعملت هذهالألفاظ في ألسنة الأئمّة عليهمالسلام ... جميعاً في المعاني المستحدثة بلا قرينة، مثل:استعمالات سائر المتشرّعة، وعليه فليس لنا مورد نشكّ فيه في مراد الشارعالمقدّس من هذه الألفاظ حتّى تظهر الثمرة المزبورة. نعم: لو فرض كلام وصلإلينا من النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله بلا واسطة الأئمّة الأطهار عليهمالسلام فيمكن أن تظهر الثمرةفيه إذا فرض الشكّ في مراده صلىاللهعليهوآله منه، إلاّ أنّه فرض في فرض. فبالنتيجة لا ثمرةللبحث عن هذه المسألة أصلاً، بل هو بحث علمي فقط. انتهى.
ولكن يمكن المناقشة في قوله ـ دام ظلّه ـ فقوله: «إنّ ألفاظ الكتاب والسنّةقد وصلت إلينا من النبيّ الأكرم بواسطة الأئمّة الأطهار» غير صحيح؛ لأنّللكتاب حيثيّتين: حيثيّة اللفظ وحيثيّة المعنى، ولا شكّ ولا شبهة في أنّ المرجعلحيثيّة الثاني هو الأئمّة عليهمالسلام فإنّهم مفسّرو الكتاب، ولو كان تفسيرهم على
- (1) أجود التقريرات 1: 33 ـ 34.
- (2) محاضرات في اُصول الفقه 1: 125 ـ 126.
(صفحه238)
خلاف الظاهر، فإنّ المفسّرين يحتاجون إليهم عليهمالسلام في التفسير.
وأمّا المرجع لحيثيّة الأوّل فهو التواتر فقط، ولا ربط له بالأئمّة عليهمالسلام أصلاً،فطريق إثبات الكتاب أو إثبات جزئيّة الآية المشكوكة ـ مثلاً ـ منحصرٌبالتواتر، كما صرّح به المفسّرون، ولعلّه كان سهواً من القلم؛ لأنّ هذا المعنى ممّاتّفق عليه علماء المسلمين، كما يستفاد من استدلالهم في موارد مختلفة، مثلقول المالكيّة(1): بأنّ «بسم اللّه» الذي ذكر في ابتداء السور ليس من القرآن،فإنّه لم يثبت قرآنيّتها متواتراً.
واُجيبوا بثبوت قرآنيّتها متواتراً، ويشهد لذلك وجودها في جميع المصاحفالمكتوبة في صدر الإسلام، مع أنّهم لم يكتبوا شيئاً سوى القرآن حتّى أساميالسور، فهذا دليل على ثبوتها متواتراً.
وقال السيوطي في كتاب الإتقان: إنّ فخر الدِّين الرازي نقل عن بعضالكُتب القديمة أنّ ابن مسعود اعتقد بأنّ فاتحة الكتاب وكذا المعوّذتين في آخرالقرآن ليس من الكتاب. واستبعده السيوطي: بأنّه كيف يمكن إنكار ما ثبتبالتواتر مع أنّه يُوجب الكُفر؟! ولو قال بعدم اشتراط ثبوت القرآن بالتواترفيوجب التزلزل في قرآنيّة القرآن، فلابدّ من توجيه كلامه أو تكذيب النسبةإليه، فهذا دليل على أنّه لابدّ من إثبات القرآنيّة بالتواتر.
وأمّا الدليل على شرطيّة التواتر فيه فلا يخفى أنّه ليس إلاّ عبارة عن كلاماللّه، فإنّ لنا مطالب اُخر باسم الأحاديث القدسيّة الّتي تنسب إليه تعالى، ومعذلك لا يشترط في إثباتها التواتر، ولا لأنّه معجزة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كما هوالمعلوم، بل لخصوصيّة موجودة في نفس القرآن التي تقتضي انحصار طريق
- (1) البيان في تفسيرالقرآن: 432 ـ 448.
(صفحه 239)
إثباته بالتواتر، وهو كونه أساساً للإسلام، وكتاب هداية للناس من الضلالة،ومعجزة باقية إلى يوم القيامة، ولم يأتِ لبيان الأحكام خاصّة، بل كان إتيانهلبيان جميع ما له دخل في سعادة الإنسان، وهو الكتاب الذي قال اللّه تعالى فيشأنه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُو لَحَـفِظُونَ»(1)، وحيث كان شأنه كذلكفلا معنى لإثباته بخبر عادل، بل لابدّ فيه من التواتر، فكان المسلمونيستبقون إلى حفظه من الابتداء، وكذلك الكفّار الذين كانوا في أعلى درجة منالفصاحة والبلاغة يستبقون إلى حفظه لوهنه وإيراد الخدشة عليه؛ إذ القرآنناداهم بأعْلى صوت بقوله: «وَ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْبِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِى»(2)، ولذا كانت الدواعي لحفظ القرآن وافرة ولم تصل النوبةإلى خبر الواحد حتّى يقال: إنّه يثبت به أم لا.
وقد أخطأ خطأ بيّناً من قال: بعدم جمع القرآن في عهد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بلكان جمعه واتّصال الآيات بمعنى تأليف الكتاب وتنظيم السور في عهد رسولاللّه صلىاللهعليهوآله ومرتبطاً بالوحي، بل جمعه واتّصاله وارتباطه بالوحي ضروريّاً؛ إذروي إتيان جبرئيل بكلّ آية آية من القرآن، وقوله لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله : ضعها فيسورة كذا.
وأمّا الجمع الذي نسب إلى أمير المؤمنين عليهالسلام أو أبي بكر أو عثمان فلايرتبطبتأليف القرآن وتنظيم الآيات والسور، فإنّ جمع مولى الموحِّدين عليهالسلام عبارة عنكتابة جميع خصوصيّات الآيات، من تفسيرها وتبيين غوامضها وشأن نزولهوسائر ما له دخل بها، مع رعاية نظمها وترتيبها، كما فعل ذلك ابن مسعود
(صفحه240)
بربع القرآن.
وأمّا جمع أبي بكر فعبارة عن جمعه من الأوراق والأخشاب والجلود فيالقرطاس، كما يشهد له بعض روايات العامّة بأنّ أوّل من جمع القرآن فيالقرطاس هو أبو بكر(1).
وأمّا جمع عثمان فعبارة عن جمع الناس على قراءة واحدة، فإنّ في عصرهبسبب انتشار القرآن بين قبائل العرب واختلافهم في الألسنة اختلفتقراءتهم، ولذا أمر بإحراق المصاحف المكتوبة بسائر القراءات، فيستفاد منهذا انحصار طريق إثبات القرآن بالتواتر فقط.
ولابدّ في كلّ آية من إثبات اُمور ثلاثة فيها بالتواتر: الأوّل: كونها جزء منالقرآن، والثاني: كونها جزء من سورة كذا، والثالث: كونها قبل آية كذا وبعدآية كذا. فكيفيّة إيصال القرآن إلينا مثل كيفيّة إيصاله إلى سائر المسلمين، وهذهو التواتر لا نقل الأئمّة عليهمالسلام .
وأمّا ما قال به صاحب المحاضرات تبعاً للمحقّق النائيني قدسسره فلا يخلو منمناقشة، فإنّه إن كان المراد من الفرض الثاني ـ أي قوله: «نعم، لو فرض كلاموصل إلينا من النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله بلا واسطة الأئمّة عليهمالسلام فيمكن أن تظهر الثمرة فيهإذا فرض الشكّ في مراده صلىاللهعليهوآله منه، إلاّ أنّه فرض في فرض» ـ عدم وجدانمورد نشكّ فيه، قلنا: عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.
وإن كان مراده عدم الوجود بحسب الواقع قلنا: إنّ هذا الادّعاء متوقّفعلى التتبّع والإحاطة بجميع الكتب الروائيّة من المسلمين جميعاً، وهو مشكلجدّاً مع تعدّدها وتنوّعها. فقبول هذا الادّعاء بعيدٌ.
- (1) الإتقان في علوم القرآن: 78.